ليس هذا الزمن وحده هو زمن الإبداع، وإنما الأزمنة السابقة كانت أيضاً زمن الإبداع وإلا لما قرأنا للسابقين إبداعات نأنس إليها، ونعجب بها، ونحب بعضها ونتأثر ببعض آخر منها، وبعضها حينما نجول في سطورها نجدها قد قرأت المستقبل، وتنبأت بعديد من معطياته وتحولاته. هذا الزمن زمن التخصص العلمي، وزمن التنوع والتعدد الثقافي والأدبي والنقدي، وفضيلة التخصص أنه يجعل الإنسان مأخوذاً إلى مجال يحبه فيتفانى فيه ولاتتبعثر مجهوداته.. أما في الزمن السابق فقد كان الأديب أو الشاعر أو الناقد مثقفاً بعدة علوم، منها علوم اللغة، وعلوم الدين، وعلوم التاريخ وعلوم الطب، وعلوم الرياضيات، وعلوم الفلك و... و... إلخ لاتناقشه في مجال من مجالات العلم إلا وجدته متمكناً فيه، مجيداً، وكأنه قد تخصص في كل العلوم فصار موسوعة علمية أو مدرسة كبيرة من المعارف بعكس زمننا هذا، تجد الشاعر لايفهم شيئاً من علم اللغة وعروض الشعر برغم وجود موهبة أدبية وشعرية لديه، وتجد ناقداً أدبياً أو نقاداً كثر يفهمون كثيراً من أسس النقد، ولكن لغتهم ليست في مستوى ثقافتهم النقدية وتجد عالماً في الرياضيات لايفهم شيئاً في الأمور الدينية، ولايعرف إلا يسيراً من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم)، وتجد بعض المؤرخين متخصصاً في التاريخ يكتب تاريخياً ولكن بأسلوب يخلو من اللمسات الأدبية فيسرد لك تاريخاً ليس فيه مسحة جمالية في عرضه التاريخي، وتجد طبيباً معلوماته العلمية في الطب ليس لها ما يرافقها من المعرفة العامة والثقافة الأدبية إلا الشيء الضئيل جداً، وتجد عالماً في الرياضيات، لكن لغته وخطه، عسير الفهم والقراءة وتجد أخطاءه الإملائية دليل ضعف تعليمي تأسس عليه مستواه العلمي والمعرفي، وتجد موظفاً، يكتب في الورقة ما لا يستطيع المرء قراءته، ومايحتاج إلى فك رموز كتابته، وترجماناً لها، وتجد واعظاً فهمه للدين متواضع جد، وتجد صاحب مهنة معرفته لأصول مهنته لايشجع، وتجد مثقفاً حزبياً لا يعرف حتى أدبيات وثقافة حزبه، ولا يعرف منها حتى عناوينها (تفسيراتها أهدافها فوائدها) ملاءمتها مع الواقع وتعارضها معه وتجد أشياء وظواهر وأشخاصاً يعملون بغير تخصصاتهم العلمية والوظيفية مما يشير إلى خلل كبير في الحياة العربية وتركيبتها الاجتماعية المفتقرة إلى الأساليب الصحيحة في أقوال والممارسات. بما يفرض على الجميع إعادة ترتيب وإصلاح تشمل كل مجالات الحياة والنشاط العلمي والثقافي والأدبي والوظيفي. وإذا كنا نقول هذا زمن الإبداع فمعنى ذلك ضرورة التواؤم المعرفي مع هذا المفهوم حتى لا يبقى شعاراً دون تطبيق، ولن يكون أهل الماضي أكثر علماً من أهل الحاضر الذين تبلغ إمكاناتهم ما يؤهلهم لارتياد أوسع آفاق العلم والمعرفة، وتحسين واقعهم والدفع به للأفضل. وإذا كان قد قيل إن الجهل العربي في زمن العلم صار شيئاً معروفاً، فإن الفقر العربي في زمن الرفاه صار متفشياً بشكل واضح، والتأخر العربي في زمن التطور الاقتصادي لايخفى، والاستبداد العربي في زمن الحرية لايزال أمراً بادياً، والبطالة العربية في زمن تعدد الأعمال لاتزال قائمة ومتزايدة.. كل هذه القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تبحث عن حلول علمية مستقبلية لها حساباتها عند أمم سوانا. إن العلم الذي لايشكل درباً للأمة نحو الرقي المأمول يتحول إلى تجهيل وتضليل.. قال الشاعر: ليس الغني غني المال والذهب إن الغني غني العلم والأدب