في ما يلي نترجم خطبة الشاعر الأندونيسي ساباردي دجوكو دامونو بمناسبة حصوله على جائزة «أحمد بكري للأدب في أندونيسيا» في جاكارتا ( . ودامونو الذي يُلقَّب ب«عميد شعراء أندونيسيا» هو من مواليد العام 1940. ثمة سؤال بسيط ومُحرج يواجه كل شاعر وشاعرة: «لماذا تكتب(ين) الشعر»؟ وبالطبع، ليس من اللائق الإجابة على نحو متغرطس ومغرور كأن نقول - نحن الشعراء - مثلاً: «لا أعرف» أو «لا يهمّني الأمر». رغم أنه من الممكن جداً أن تكون مثل تلك الإجابات صادقة تماماً وأمينة جداً. والحقيقة أنني، بعد كتابة الشعر لعقود طويلة، لم أستطع (كشاعر) التغلّب على الصعوبات التي يطرحها ذلك السؤال المتكرّر و«البسيط إلى درجة التعقيد». ولأن لا أحد يريد لوم نفسه، فإن الاتجاه السائد للجواب عند الشعراء هو إلقاء اللوم في أي مكان آخر، بما في ذلك القصائد التي نكتبها! للأسف، يظنّ البعض أن الشعر مجرّد «صنعة» مادّية كالنجارة والحدادة، أي لا توجد فائدة فكرية له رغم كونه «صنعة ثقافية» أساساً. وذلك يعود إلى أنه، من ضمن أمور أخرى، ليس من السهل إطلاقاً شرح: لماذا ولمن أو متى نكتب الشعر. الشاعر ليس مخطئاً إذا لم يستطع الإجابة عن هذه الأسئلة، لأن الشعر ببساطة أيضاً لا يُكتب ليكون «إجابة» عن أسئلة. مع ذلك ، فالشعر قد يصبح نوعاً من الإجابة في نهاية المطاف، حيث يُبتكر للتغلّب على الصعوبات الناجمة عن الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة. وفي محاولة منّي لصوغ إجابة بكلِّ طاقتي عن ذلك السؤال البسيط - المعقّد، أجدني مضطراً إلى تذكُّر الحادثة الشخصية الآتية: ذات ليلة، جلس صبيّ في العاشرة وسط الحديقة الأمامية لمنزل جدّته ليلعب. في العادة كان ذلك الصبي يُمضي معظم يومه يلعب في الخارج ولا يدخل المنزل إلا للأكل والنوم وأحياناً قليلة لحلّ الواجبات المدرسية. في ذلك اليوم بالذات عاد أصدقاؤه إلى منازلهم. وبالتالي فجأة تحوّل الصخب المعتاد بعد الظهر في تلك الحديقة إلى «سكون تام». وأثناء جلوسه في الحديقة، رفع نظره إلى الأعلى وتساءل: ماذا يوجد بعد السماء؟ ثم فكَّر: ماذا يوجد أيضاً ما بعد بعد السماء؟ ربّما خرجت تلك الأسئلة لأنه تعلّم في مجتمع لا يؤمن فقط بوجود «حدود»، بل ابتكر أيضاً مصطلح «سماء بلا حدود». وبالطبع لا يستطيع الصبي التوفيق بين هذين التعبيرَين المتناقضَين. وفي العام 1971، أي بعد أكثر من عشرين عاماً على تلك الحادثة، كتب قصيدة يقول مطلعها: «ينزل من سريره، ثم/ يمشي على رؤوس أصابعه/ ثم يفتح النوافذ وينظر إلى النجوم/ ويتساءل ماذا يوجد خارج الكون؟/ بل وحتى ماذا يوجد خارج الكون الأكبر؟/ وبالطبع يشعر بأن شيئاً ما سوف يأتي/ ليخبره عن الجواب/ ولكنه يواصل التساؤل حتى في النهاية/ يسمع صياح الديك ثلاث مرّات ثم يستيقظ،/ وعندما يستدير يجد جدّته خلفه تقول:/ دعني أقفل هذه النافذة لكي تعود إلى النوم/ لأنك بقيت مستيقظاً طوال الليل/ ولأن هواء الليل يحتوي شروراً خطيرة». فترة العشرين سنة أجبرته على وضع مسافة «فاصلة» مع الماضي كي يتمكّن من اعتبار تلك الحادثة «مختلفة» و«غير اعتيادية» - وحدث هذا لأنه لا يوجد وسيلة أخرى يمكن أن تعيده إلى الطفل نفسه ذي السنوات العشر. السؤال الذي بزغ ذات مرّة في ذهنه، وهو في العاشرة، ما يزال في الحقيقة كامناً في عقله في سن الواحد والثلاثين، ولا يزال غير قادر على الإجابة عنه حتى الآن وهو يكتب هذه السطور بعدما شاخ وهرم. إنه سؤال عنيد، ولذا استمرَّ في ذهنه مُصرَّاً على الحصول على إجابة. ربما كان الفرق الحقيقي بين الطفل ذي العشرة أعوام والرجل ذي الواحد والثلاثين عاماً هو أن الرجل بدأ الآن يفهم استحالة استيعاب «اللا حدود»، رغم أن مجتمعه يُلقِّنه أن كل شيء يجب أن يكون له حدود. لكن ذلك الصبي لا يشعر بهذا، بل يشعر بالسعادة فقط لأنه لا توجد ضغوط عليه للإجابة عن ذلك السؤال. لكنه عنيد أيضاً مثل هذا السؤال: يحاول دائماً الإجابة عنه، رغم أنه يدرك تماماً استحالة القيام بذلك. القصيدة التي كتبها، كغيرها من القصائد، هي نوع من الإجابة، مما يطرح أسئلة: فبخلاف الأمر عندما كان لا يزال في العاشرة فقط، يكون لديه الآن الحق في مثل هذا الموقف فقط أن يكون سعيداً، والحق في أن يشعر بأن الحياة التي يعيشها ليست لغزاً بالكامل. كل سؤال يحتاج «كلمات». وربّما هذا هو السبب في شعور الصبي بالسعادة دون أن يطرح أو يجيب عن الأسئلة. هو لم يقلق من «الكلمات»، ويمكننا أن نخمِّن أنه أيضاً لم يشعر بحاجة إليها. كأشخاص بالغين، تبدو مشكلتنا الرئيسية مع «الكلمات». فعندما كنّا أطفالاً، كان كل شيء حولنا عبارة عن إشارات ورموز لا بدّ من تفسيرها. لكن ألم نُولد وننشأ جميعنا بين «الكلمات»؟ ألم يعلّمنا مجتمعنا كيفية مواجهة العالم «بالكلمات»؟ ذات مرّة، وفي محاولة لفهم كل الموجودات التي تظهر حولهم بينما يسعون إلى إيجاد مكانهم في خضم ذلك كله، خلق أجدادنا «الكلمات». وسألوا: لماذا هذا موجود؟ ولماذا يحدث ذلك؟ ولماذا ينمو هذا؟ ولماذا يموت ذاك؟ الحكايات الشعبية والأساطير هي إنتاج لهذا المسعى، وهي لا غرض منها سوى الردّ على «أسئلة» تشكّلت من «كلمات»، أو الأسئلة التي تُثيرها «الكلمة» التي تلخِّص الحكمة من الوجود. كانت «الكلمة» مهمة جداً لهم، ومهمة أيضاً لنا الآن، إلى درجة يستحيل كتابتها من دون علامتَي تنصيص وحروف غامقة أو حروف كبيرة بالأحرف اللاتينية. وانتشرت «الكلمة» التي خُلقت كي تنمو ونحصدها لنستعملها لاحقاً بأفضل طريقة ممكنة فنحلّ مشاكل عديدة، على أمل أن تصبح حياتنا أفضل. الكلمة ثُنيت، وقُوِّمت، وطُويت، ومُدِّدت، وقُصِّرت، وهُزَّت، وجميع هذه التحوّلات تمَّت لهدف واحد: «حلّ المشاكل». ولأن المشاكل ببساطة لا تُخلق ليتمّ حلّها، تكرّرت «الكلمة» في الوجود بطريقة أصبحت بعدها بالية وممزّقة، أي لم تعد صالحة للاستعمال لأنها لم تعد تحتوي على معنى. «الكلمة» التي خُلقت ذات يوم لنتمكّن من فهم أنفسنا تحوّلت - أثناء تطوّرها - إلى «أوامر» تمنعنا من فهم أعمق لذواتنا. «الكلمات» التي تكاثرت وتضاعفت بسرعة وكثافة مدهشة حتى فقدت أصولها تحوّلت الآن إلى «أفعال» تعبّر عن رجال دين، ومحامين، ونوّاب برلمان، وأساتذة، وعلماء، وصحافيين، وبالطبع شعراء! هكذا أصبحت «الكلمات» ببساطة تُستعمل لنشر شبكة من «القواعد» بحيث يصبح فعل هذا الشيء صواباً وفعل ذلك الشيء محرَّماً. وصرنا نستخدم «الكلمات» لخلق الوقت، وهو معنى «مجرّد» يحدّ من مساحة قدرتنا على الحركة من الولادة إلى الموت. وهكذا أصبحت «الكلمات» تُستخدم لحل المشاكل، لأننا أصبحنا لا نشعر بالأمان إلا إذا عشنا في مجتمع متيقّن بأن «كل مشكلة يجب أن تنتهي بحلّ». والشيء المزعج هو أن «الكلمة» صارت مكبَّلة بعنف بروابط ولوازم لدعم «السلطة». فمثلاً، في الفصول الدراسية، وعلى منصّة الخطابة، وفي وسائل الإعلام، باتت «الكلمات» متعجرفة ومغرورة لأنها تشعر بأنها غدت «مؤسَّسة متكاملة» قادرة على تنفيذ مهامها بصورة تامّة. وبعيداً عن القصد الأساسي من خلقها وابتكارها، فقدت «الكلمات» طاقتها تدريجاً على طرح الأسئلة. وفي خضمّ تطوّر «استخدام الكلمة»، أصبح كل شيء يفعله الشاعر غريباً. وبات يُنظَر إلى جهود الشاعر الرامية إلى خلق «كلمات» واستخدامها لطرح أسئلة، باعتبارها جهوداً - في جوهرها - زائدة ولا لزوم لها، لاسيما أن الإجابة عن هذه الأسئلة - بحسب هذا الشاعر - ينتج عنها أيضاً «أسئلة» جديدة. وتبرير هذا الأمر يُنظَر إليه كفعل زائد ولا لزوم له أيضاً. لكن الشاعر، الذي تعلّم من الصبي الصغير، متيقِّن بأن هناك بعض الأمور الملحَّة التي يجب أن تُقرأ، وبسببها عليه ابتكار أساليب وأشكال شعرية جديدة. وأودّ أن أستعير تعبيراً من زميلي الشاعر نيروان ديوانتو الذي يقول إن الشعراء «يمكنهم تغيير العالم عندما يقاتلون حقاً وفعلياً بأنفسهم في ساحة المعركة، ويمكنهم فعل ذلك أيضاً عندما «يجدِّدون» مضمون هذا النوع الأدبي وشكل القصيدة». لكن ربّما ثمة من يقول إن «تغيير العالم» ليس ولا يجب أن يكون جزءاً من جدول أعمال الشعراء، بالرغم، وكما قلت مرَّة في العام 1986 عندما حصلت على «جائزة جنوب شرق آسيا للكتابة»، من كون الشاعر يعيش باستمرار داخل الطيف بين اللعب وتقديم المشورة للقرّاء، وداخل لعبة شدّ الحبل بين عالم الطفولة وعالم الأنبياء. وللإجابة عن الأسئلة من طريق طرح المزيد من الأسئلة، يجب على الشعراء حقاً القتال في ساحة المعركة واللعب في الوقت نفسه «بالكلمات» على الورق لتجديد الشعر شكلاً ومضموناً. وباعتباره مسألة أو قضية، يكون الشعر مفتوحاً للتفسير. وبالرغم من احتمال وجود علاقة بين الشاعر وبيننا نحن القراء، لا يحق للشاعر التدخّل في محاولة القارىء للتفسير. العلاقة بيننا نحن القرّاء مع الشعر هي العلاقة نفسها بين الشاعر ومصدر أسئلته. مثل هذا النوع من «الترتيب» أو «التفاهم» يخلق «ديموقراطية شعرية»، لكن يجب أن نلاحظ أن فكرة «الديموقراطية الشعرية» المقصودة هنا يجب تمييزها وفصلها قدر الإمكان عن مفهوم «حكم الأكثرية». وبدلاً من ذلك يجب التركيز على تقريب «الديموقراطية الشعرية» من فكرة «حرّية» الأفراد للتفسير والتأويل وتحديد اختياراتهم حسب آرائهم ومواقفهم وقيمهم المختارة. وفي هذه الحالة الضرورية من الوعي، يحب الشاعر المتحدِّث هنا مقارنة فعل «الكتابة الشعرية» مع مشهد معيّن من مسرحية «عرائس الظل» التي بعنوان «حرب الزهور». فعندما ينسدُّ درب بطل الحكاية المقاتل «أرجونا» عبر الغابة من قبل حشد من العمالقة، يجيب بذكاء عن «كل سؤال» من العملاق «كالوينغ» بسؤال آخر! وبخلاف الطفل الذي كان فقط «يفتح النوافذ ثم ينظر إلى النجوم متسائلاً»، يدرك الشاعر أن سبب التساؤل ليس فقط النجوم، وإنما أيضاً الأشجار، والحيوانات، والصخور، والسحاب، والناس، فضلاً عن أن جميع الأشياء التي خلقها في قصائده هي رموز تتطلّب قراءة وتفسيراً. العلاقات بين كل هذه الأشياء تشكّل «هيكل» مبنى، بالإضافة إلى كونها مصدراً جديداً وخصباً لا ينتهي لأسئلة تشمل الشاعر كواحد من عناصرها. الشاعر لا يقدِّم أي وسيلة للتغلّب على هذه المشكلة، ناهيك بإصدار «فتوى» أو «قانون» أو «تحديد سياسة»، لأنه ليس عالماً، أو نائباً في البرلمان، أو محامياً، أو مدرِّساً، وبالطبع ليس رجل دين. يحاول الشاعر كشف «مصدر» الأسئلة فحسب، لتكون قصيدته ليست سوى «تجربة بالكلمات». وهو يعلم أن «صنعته» كانت منذ وقت طويل مصدرَ سعادته، ولذلك يأمل أن تكون نتيجتها مصدر سعادة لنا جميعاً؛ «نحن... القرَّاء».