بالعلم وحده نجحت اليابان واستطاعت أن تتحول في أقل من ثلاثين عاماً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من بلد محطم دمر تدميراً كاملاً، فقير لا يملك شيئاً من الموارد أو الصناعات إلى بلد عملاق اقتصادي ينافس أكبر دول العالم الصناعي، بل ويتفوق عليها..نجحت لأنها جعلت العلم و تنمية الفرد من أهم أولوياتها، ولأنها أدركت حقيقة أن الفرد هو المشروع الاستثماري الذي يجب أن توجه له الطاقات وأن يحظى بالدعم وتوفر له البيئة المناسبة للإبداع من بداية نشأته، وذلك بالتعليم المتميز المبني على القيم والأخلاق و السلوك الحميد، وهذا ليس بغريب على الشعب الياباني الذي ينفرد من بين شعوب العالم أجمع بخصائص ذاتية فريدة تجعله يتمتع بقوة و تجانس ووحدة ثقافية لا تعرفها شعوب أخرى كثيرة، خاصة شعوب العالم العربي. فتجد الفرد الياباني يتميز بانتمائه وحبه لبلده وإيثار مصلحة الجماعة على مصلحته الشخصية، و يا ليت شعوبنا العربية تتعلم من اليابان، حيث وهي تمتلك من التكامل ما لا يمتلكه الشعب الياباني من ثروات وموارد طبيعية هائلة، لكنها – للأسف – تفتقر إلى هذه الخاصية الفريدة التي يمكن أن تجعل منها – كما جعلت من اليابان – أمة من أقوى وأغنى أمم الأرض جميعاً. و أرجع بكم إلى تاريخ اليابان لنتعرف على أنها لم تنهض من فراغ، فلقد تطورت لأنها في زمن الحريق والخراب باعت قوتها واشترت بثمنه كتباً وتدريباً و معرفة، وهي حكاية تاريخية متناقلة وقد اشتهرت هذه الحكاية بسرعة فائقة واستشهد بها رئيس وزراء اليابان الأسبق “كويزومي“ في أحد اجتماعاته، حيث حدث في أول عصر الميجي (عصر النهضة) باليابان أن أرسلت مقاطعة ميني ياما المقاطعة المساندة لمقاطعة ناجاأوكا 100 شوال أرز كمواساة بعد أن تحولت الأخيرة إلى حقول متفحمة بعد حرب بوشين، وانتظر زعماء المقاطعة توزيع الأرز بفارغ الصبر بعدما غلبهم الفقر. ولكن كوباياشي كبير مستشاري المقاطعة خصص ثمن بيع المائة شوال أرز لشراء الكتب والأدوات اللازمة في مجالي العلوم والجيش.. وهكذا صب هذا الثمن لدعم تأسيس مدرسة الكوكان وفي هذه المدرسة قسمان للدراسات الأوروبية والدراسات الطبية، ولم تقتصر الدراسة فقط على تلامذة المقاطعة ولكن سمح لأبناء المدن والفلاحين بدخولها، وهنا وضع حجر الأساس للتعليم الحديث بناجاأوكا، ومن هنا تخرج العديد من الشخصيات التي حملت عبء نهضة اليابان الحديثة على عاتقها. و حكاية ال100 شوال أرز التاريخية عرفت وانتشرت ومن خلال عمل مسرحي كبير، ولقد أثر فكر كوباياشي كثيراً في العديد من الناس والذي يقول: “إن تأسيس البلدان وازدهار المدن يكمن في الفرد، فعندما لا نملك القوت علينا تأسيس المدارس و تأهيل الأفراد“.. ويتوارث باستمرار هذا الفكر الياباني الذي يركز على بناء الفرد أكثر من أي شيء آخر ويعتبر التعليم هو حجر أساس الدولة حتى وقتنا الحاضر، و هذه هي الحكمة اليابانية التي تكلم عنها الباحثون. ونحن في الأصل أصحاب الحكمة كما وصفنا الحبيب المصطفى عليه الصلاة و السلام بقوله «الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية» ولكن أين الحكمة من أصحاب الحكمة!؟ ألا نشاهد جميعاً أن أعداد المتسربين من التعليم يزداد من سنة لأخرى؟ و عندما تسأل أحدهم: لماذا تركت الدراسة؟ يرد عليك – بالعامية – ما فيش خراج!! و هذه مشكلة كبيرة يجب أن يتنبه لها الجميع وأن تكون هناك مبادرة جادة لدراستها ومعرفة أسبابها وإيجاد الحلول العملية لها، حتى لا نفاجأ في المستقبل بجيل جاهل يمثل عبئاً على أسرته وعلى مجتمعه.