أن تصنع فيلماً ليس بالأمر الصعب، لكن أن تصنع فيلماً أيقونياً تتحول معظم مشاهده إلى لوحات فنية تُخزن في الذاكرة فذلك أمر نادر الحدوث. فيلم (البجعة السوداء) المُرشح لخمسة أوسكارات هو بالتأكيد أحد هذه الأفلام التي ستبقى في ذاكرة السينما أعواماً وأعوماً. سيمفونية “بحيرة البجع” للموسيقار الروسي الشهير (تشيكوفيسكي) كانت ومازالت قصتها وموسيقاها مصدر إلهام الكثير من المخرجين والكتاب السينمائيين والمسرحيين على مر السنين. حكاية هذه السيمفونية التي رقصت عليها أشهر فرق الباليه في العالم تتلخص في أن ساحرة شريرة حولت الأميرة الجميلة البريئة إلى بجعة بيضاء حتى لا يتزوجها الأمير الوسيم، عندما يكتشف الأمير مكر هذه الساحرة ويذهب لينقذ البجعة البيضاء تحول الساحرة نفسها إلى بجعة سوداء لتغوي الأمير وتصرف نظره عن تلك البجعة البيضاء. في فيلم (البجعة السوداء) تدور الأحداث حول الباليرينا الشابة (نينا) التي تلعب دورها بحرفية مذهلة (ناتلي بورتمان) التي تحصل على دور البجعة في باليه بحيرة البجع.. المخرج يثق بأن (نينا) قادرة تماماً على لعب دور البجعة البيضاء بحرفية عالية ولكن مطلوب منها أيضاً أن تلعب دور البجعة السوداء في نفس الوقت ولكنه – المخرج – لا يثق بأنها تستطيع تأدية شخصية البجعة السوداء وكمية الشر التي تحتويه هذه الشخصية بشكل يقترب من الكمال. هذا الكمال الذي يسعى المخرج إلى انتزاعه من (نينا) وخوفها من فقدان الدور ضمن وجود منافسات كثيرات يتمنين الحصول على هذا الدور في جو قذر من التنافس والحقد والغيرة يجعل (نينا) تفقد سيطرتها على نفسها وتنخرط في عالم من ازدواج الشخصية (Schizophrenia) بشكل مرضي يقودها إلى الهلوسة والتهيؤات التي تجعل سير الفيلم وكأنه ينقلنا من حلم لآخر. يكمن سحر هذا الفيلم وألقه كونه كالسيمفونية يبدأ ناعماً مع سحر وجمال الفاتنة (ناتلي بورتمان)، الخلفيات الموسيقية لسيمفونية بحيرة البجع الخالدة واستعراضات الباليه الراقية، ثم تبدأ الأحداث تتصاعد بشكل متفاوت بين الغموض، الرعب، الرغبة والدم.. هذه العناصر مجتمعة من الصعب أن تجدها في فيلم واحد القالب الأساسي له هو فن الباليه الرقيق ممزوج بالرعب والدم. استطاع المخرج (دارين أرنوفيسكي) المرشح للأوسكار أن يتفوق على نفسه في هذا الفيلم ويقفز خطوات بعيدة بعد فيلمه الرائع (The Wrestler) وإن كانت نهاية الفيلمين متماثلة إلى حد بعيد حتى في طريقة التصوير، يحسب للمخرج أن كل كادر في هذا الفيلم مرسوم وكأنه لوحة فنية من الصعب نسيانها، لا أستطيع أن أنزع من مخيلتي مشاهد عدة لعل أبدعها عندما تصل (نينا) للإحساس بذروة أدائها لدور البجعة السوداء وبروز الأجنحة من ظهرها تعبيراً عن تمكنها وسيطرتها على الشخصية. ويحسب للمخرج أيضاً أنه استطاع أن ينتزع من ممثليه في فيلميه الأخيرين أقوى الأداءات التي خولتهم للترشح لجوائز الأوسكار.. جاء تصوير الفيلم ومونتاجه في غاية الإبهار، حركة الكاميرا ودورانها من وجهة نظر (نينا) وهي ترقص والتقطيع السريع للمونتير كذلك تصوير اللقطات الأخيرة للاستعراض الختامي يجعلك أمام إبداع فني متفرد وحالة لا تتكرر بسهولة. في النهاية هذا الفيلم هو فيلم (ناتلي بورتمان) بكل المقاييس، استطاعت هذه الممثلة الشابة أن تقدم أداءً أسطورياً سيظل خالداً في ذاكرة السينما إلى الأبد وسيدرس ويعلم في المستقبل كأحد الأداءات الكاملة والمثالية في تاريخ السينما، هي بكل تأكيد تستحق ألف أوسكار عن هذا الأداء الساحر وأوسكار أفضل ممثلة محسوم لها منذ الآن وتبقى ليلة توزيع الجوائز مجرد تحصيل حاصل بالنسبة لناتلي. * ملاحظة: لا تشاهد هذا الفيلم مع أطفال لاحتوائه على بعض المشاهد غير اللائقة.