تهرب من زحمة الحياة ومن عيونها المسلطة على خطواتها، تنزوي بنفسها تنشد الوحدة والهدوء، لطالما ملّت وحدتها القاسية لكنها الليلة بحاجة ماسة لها ولبعض الصمت، تريد أن تختلي بنفسها وببعض العمر الذي أسرته في أعماق ذاكرتها. الليلة يافا تدعوها لزيارتها، للانفراد بها، تطاردها ذكرياتها، هي الليلة تعجز أن تهرب منها، أن تتابع روتين الحياة، تقفل أنوار غرفتها تدّعي النوم.. كي لا يقلق أحد رحلة ذكرياتها..دموعها ساخنة.. تسكبها عيونها وكأنها تلفظ ما بداخلها من ألم، غيمة ضبابية تأسر نظراتها فلا ترى إلا انزلاق أحلامها، وتلك السنين التي مرّت من حياتها بلا لون.. وبلا حياة أيضا، يافا تناديها وتستجيب لها ..تلهث بشوق وراء سحابة تقتفيها ..كانت طفلة استلقت على رمال الشاطئ الباردة تنظر إلى السحابة المارة ..ترحل بنظراتها معها، طرحت حينها عشرات الأسئلة على والدها، إلى أين تذهب هذه السحابة؟ ماذا تحمل؟ لماذا لا تمطر الآن؟ هل بإمكاني اللحاق بها ؟ هل ستعود إذا رحلت؟ هل ستأخذ بحر يافا المتبخر معها؟ وقد ملّ والدها أسئلتها ..أجابها: ستبكي هذه السحابة بحر يافا في منطقة أخرى لترويعطش الصحارى والكائنات. بقيت بعد ذلك هذه الطفلة وفيّة للمطر، أينما كانت وسقط المطر كانت تلهو معه، تحت صفحة السماء التي تبكيه، ظناً منها أن هذه الغيوم الماطرة قادمة من يافا وحبلى بماء بحرها. تلك الشواطئ التي لهت برمالها ما زالت تحن إليها.. تشتاقها، تتذكر الجلوس برفقة أصدافها ومحارها، في حلمها ترى نفسها تبني من الرمل قلاعاً وحصوناً، تتلمس الرمال كما في طفولتها. لم يخفها البحر يوما.. رغم تحذيرات جدتها المتكررة ألا تقترب منه، وعندما كانت تسأل عن السبب كانت تقول لها: إن البحر ابتلع الكثيرين، أخذهم ولم يعد بهم. كانت تشعر بقربه بحميمية وأمان ،هو صديقها ووطنها الذي تنتمي إليه ،كانت تقول لجدتها: لم يقتل أحدا هذا البحر جدتي، هو أخذهم إلى عوالم ساحرة. لذا كانت تجلس برفقته طويلا تنتظر سندباد البحر لتبحر معه. فلسطين.. الوطن الذاكرة، ويافا من مدن الوطن التي زارتها يوماً في طفولتها، للطفولة نظرة مختلفة إلى الحياة وأشيائها، والذاكرة تجمّل عناصر الطفولة لتبدو أجمل من حقيقتها. تلك القلائد التي كانت اشترتها ما زالت تحتفظ بها في صندوق خشبي مرصع بمحار البحر، كانت تلبس حيفا في جيدها كلما كانت تتحلّى بتلك القلائد. في مكان آخر في ذاكرتها هناك ذاك المنزل الكبير الذي كانت تراقب من خلال نوافذه تسلل نور الشمس إلى السماء في لحظات شروقها الأولى، فتشهد صحوة الطبيعة والكائنات، من تلك النافذة كانت تراقب المارين ..والفلاحين الذاهبين لحقولهم، تراقب الأطفال وهم يصنعون لعبهم من الأعواد والأغصان والأقمشة المتبقية، نظراتهم إليها هي دعوة لمشاركتهم، والنساء يقطفن حبات الصبر من ألواحها الندية.. الحياة هناك شابة.. بسيطة.. مزدحمة، كانت تدهشها غرف الطابون التي تجلس النساء فيها لخبز خبزهن، لا يكاد بيت يخلو منها، تشاهد الرماد وتشعر بحرارة النار. من تلك النافذة كان العالم يدخل إلى أعماقها، ويسكن ذاكرتها، ويتشكل كجزء من أحلامها التي تهرب من جحيم غربتها إليها. في شوارع القدس العتيقة.. مشت بملابس الصلاة البيضاء، كحمامة سلام.. بكت كما فعلت أمها، لم تعرف يومها لمَ؟ لكنها خافت بكاء أمها وبكت مثلها، لم تعرف حينها أنها تبكي وطناً.. عند تلك المدينة كانت آخر رحلتها، وقد امتلأت رئتاها برائحة الوطن، وزوادة ذكرياتها به، والليلة ركبت زورق الذكريات والريح تضرب أشرعتها، لتدفع بها نحو طفولتها، هي أقفلت على نفسها، هربت من واقعها إلى حضن وطنها، علها تلتقي بروحها الهائمة فيه. تفتح صغيرتها باب حجرتها.. يتسرب الضوء إلى الغرفة المظلمة فيفضح دموعها، تبكي الطفلة كأمها.. لا تعرف أنها تبكي وطناً...