يمثل الغموض في النص الأدبي عاملاً مهماً للتأثير في المتلقي لما يحمله من مزايا تشحذ عقله وتدفعه للتفكير والمشاركة الإيجابية الفعالة.. وبداية نتوقف أمام ما تعنيه لفظة «الغموض» في اللغة، وذلك لكونها نقطة مهمة لازمة في توضيح هذا الأمر كما يجب التفرقة بين لفظتين تبدوان متشابهتين وهما (الغموض والإبهام).يبرز دور الغموض بشكل كبير في التمييز بين النصوص ومستوياتها في هذه الدراسة؛ وهذا الأمر هو ما قام عليه جوهر الإحساس بالدرجة القصوى من اللذة (المتعة) عند سانتيانا عندما قال «إن اللذة هي جوهر إدراك الجمال، ولكنه من الواضح أن لذة الجمال تتميز بشيء من التعقيد تخلو من اللذات الأخرى»(22)، فالغموض سمة رئيسة في نص المتعة، ولذلك فهو نص لا يخاطب القارئ العادي، أو متلقي نص اللذة، لكنه يخاطب قارئاً أكثر رقياً وثقافة لأنه نص مركب ومعقد، يرهق القارئ حتى يشعره بالجمال ويمنحه المتعة، وهو فكرة قديمة في الأدب تحدث عنها أرسطو في فن الشعر، واعتبرها النموذج المثالي للعمل الجميل، إذ قال: «فإن أجمل التراجيديات ما كان نظمها معقداً لا بسيطاً»(23)، وهذا الموقف من أرسطو حول ضرورة الغموض في نص المتعة هو الذي يرتضيه بارت في النصوص الأدبية، وبخاصة النصوص ذات الطبيعة الخاصة، فقال: «إن عليَّ أن أرتضي ذلك الغموض لأنني بحاجة للذة عامة، في كل مرة ينبغي أن أرجع فيها إسراف النص إلى كل ما فيه تجاوز»(24)، وفكرة الغموض للتأثير في المتلقي قديمة جداً، فقد استخدمها الكهان في سجعهم للتأثير في الناس. وهذا الغموض مباح في الشعر، بل إنه يعتبر عنصراً مميزاً فارقاً للشعر عن النثر الذي يجب أن يتميز بالوضوح والمباشرة، «فالشعر من حيث هو وسيلة للتوصيل أشد تعقيداً جداً من النثر»(25)، ويتفق الأستاذ أحمد أمين في هذا الرأي مع ريتشاردز فيقول: «ولكن يباح في الشعر بعض الغموض والاكتفاء بالإيماء والرضا عن الرمز، ولا يباح للناثر إلا أن يكون واضح الدلالة سهل العبارة بين الناس»(26)، ويرجع روز غريّب هذا الأمر إلى الطبيعة الخاصة للشعر التي يتميز بها عن النثر فيقول: «فألفاظ الشعر أميل إلى الإغراب والطرافة وأبعد عن الابتذال من ألفاظ النثر، وهذا لا يعني التوعّر ولا الوحشية، بل أن يكون ذلك مع حسن وقع وسلامة ذوق. والألفاظ الشعرية تثير الخيال فهي أكثر إيحاءً من ألفاظ النثر»(27)، وثمة فرق كبير بين الغموض المعني هنا والتوعر واستخدام الوحشي من الكلام في الشعر، فالغموض كما قال روز غريب يمنح الشعر إيحاء يتدرج بتدرج الغموض، و«كلما ازداد الفن غموضاً زادت فيه قوة الإيحاء»(28)، أي أن هنا نقطة وسط بين الوضوح التام المطلوب في النثر، ودرجة من الغموض اللازمة في الشعر. ويرجع الغموض في لغة الشعر إلى أن لغة الشعر تعتمد الرمز في التعبير، فكأنها لغة الإشارة الرمزية المعبرة في مواجهة لغة النثر الحاملة للمعاني الحقيقية التي تعتمد الوضوح والمباشرة، ولابد للكلمة في الشعر أن تسمو فوق معناها الحقيقي الذي وضعت من أجله، ومن ثم فواجبها أن تزخر بأكثر مما تعنيه، وهذا الأمر يجب أن يتم عبر إدراك الشاعر لقدرات اللغة التي يستخدمها في التعبير وبخاصة القدرات المجازية التي تمنح تلك اللغة مساحة أوسع من دلالتها المعجمية ومن ثم يمكنه الانحراف بالمعنى الأصلي إلى المعنى الذي يريده؛ وهو الأمر الذي يزيدها قوة تبدو في أنه يمكن للكلمات أن تعني أكثر مما تشير إليه، والكلمات لدى الشاعر تختلف عن الكلمات المستخدمة في الحياة اليومية؛ فالشاعر يستنفر في الكلمات المعاني المجازية لخلق صور تخيلية للتعبير عما يجيش في صدره ونفسه، وهو الأمر الذي يستلزم مقداراً عالياً من الثقافة عنده حتى يتمكن من استنطاق اللفظ الذي اختاره لمعانٍ جديدة غير تلك المعاني التي يعبر عنها اللفظ مباشرة. وإذا أمعنا النظر في المفاهيم والقيم التي تحدث عنها الباحث تحت عنواني الثقافة والذوق العام نجد أن للتعقيد دوراً كبيراً فيه؛ فيرجع الدكتور عبدالرحمن محمد القاعود الغموض في الشعر إلى ثلاثة أسباب هي: «غرابة التعبير، وعدم انطباقه على الطريقة المألوفة عند جمهور القراء، ثم ازدحام جملة من الصور الفكرية وتداخلها في رقعة واحدة ضيقة بحيث يتعب العين تبينها دفعة واحدة، ويجهد الذهن تصور علاقة أجزاء بعضها ببعض، ثم ابتعاد الصورة التي يرسمها الشاعر عن تصور الجمهور ومداركهم لما هو مألوف عندهم ومعهود لديهم في معارفهم ومشاعرهم الماضية والحاضرة، حتى في معارفهم ومشاعرهم التخيلية»(29)، وإذا أمعنا النظر في هذه الأسباب الثلاثة التي تنتج الغموض في المعنى عند الدكتور عبدالرحمن القاعود وجدنا أن للثقافة والذوق العام ثلاثة محاور مهمة؛ أولها يرجع الغموض فيه إلى مخالفة الشاعر الذائقة الفنية التي اعتاد عليها الذوق عند الجمهور فبسببها يحدث الغموض والإبهام، بينما ينبع الثاني من خلال ارتفاع ثقافة الشاعر بشكل كبير عن الجمهور الذي لا يتمكن من ملاحقة صوره وخيالاته، فيحدث الغموض، وفي هذا يشبه من يتعلم لغة أجنبية وهو في مرحلة متوسطة من إجادتها فعند الحديث أمامه بها بسرعة تزدحم الصور والمعاني عليه وتستغلق على الفهم، وتصبح مبهمة، والثالث مرجعه تعمد الشاعر نفسه مخالفة الذكريات السابقة ومحاولة تحطيمه للنموذج الجميل المتمثل عندهم في المرجعية الثقافية التي تكونت على مدار حياتهم ومن ثم تصطدم بالجديد الذي يقدمه الشاعر فيحدث شبه غموض. ويرجع روز غريب غموض المعاني واستغلاقها على الفهم في الشعر إلى أسباب أخرى بقولها: «أما الصعوبة في الشعر فمصدرها إيجازه وما قد يتضمنه من تعريض وتلميح، ومن ذلك عجز الكلام عن استيعاب المعنى بأسرها أو غرابة المعنى ورغبة الشاعر في الغموض وإثارة الفكر»(30). ويعد بعض النقاد الغموض تقصيراً من الفنان في الوصول بالمعنى إلى ذهن المتلقي، وإن كان هذا الأمر قد وضع في الاعتبار منذ نشأ الفن، فهو سمة من سماته يتميز بها الفن عموماً، يقول ستيفن أولمان: «وفي كثير من الأحيان قد يؤخذ ما كان منقصة في التفاهم اللغوي العادي على أنه ميزة فيما لو نظرنا إليه من وجهة نظر مختلفة، فاستغلال الغموض بوصفه خاصة من خواص الأسلوب يكاد يكون قديماً قدم الأدب نفسه»(31). ويدفعنا هذا الأمر إلى القول بإمكانية قياس درجة الغموض في الشعر بقياس ثقافة الشاعر نفسه، وهو ما يدفعه إلى تخطي المتلقي العادي في الثقافة العامة المشتركة بينهما في المجتمع «فبقدر ثقافة الشاعر يكون تجاوزه للمشترك العام بينه وبين متلقيه العاديين، لأنه بهذه الثقافة كوّن أفقاً معرفياً مجهولاً عندهم ومفهوماً شعرياً غريباً عليهم، والطبيعي أن يأتي إنتاجه الشعري مجللاً بالغموض والإبهام نتيجة لهذا، حتى لغته الشعرية، تزداد جدة وغرابة بسبب هذا المضمون الجديد الغريب»(32)، وهنا يحتاج الأمر من المتلقي إلى درجة عالية من المعرفة والثقافة تقترب بل توازي درجة الشاعر الذي ينتج هذه النوعية من الفن حتى يحقق التواصل مع العمل، «وإذا لم يكن القارئ ذا خلفية معرفية وثقافية نوعية، عسر عليه فهم هذا النوع من الشعر واقتناص دلالته»(33)، وهو الأمر الذي علله ستيفن أولمان حال حديثه عن العوامل الإضافية التي تساعد على التعقيد فقال: «وهناك عوامل إضافية مختلفة من شأنها أن تعقد هذا الموضوع. من ذلك مثلاً أن بعض الكلمات قد تدل على أشياء ليست مألوفة لدى غالبية المتكلمين؛ فسكان المدن مثلاً ربما لا تكون لديهم إلا فكرة غامضة جداً عن المعنى الدقيق لبعض أسماء النباتات»(34). وعلى الرغم من تعليل روز لغموض الشعر لرغبة الشاعر في الغموض وإثارة الفكر نجد أنه يأخذ موقفاً عجيباً في هذا الإطار؛ فتحت عنوان «الفن والذكاء» نجد أنه يقول: «والغالب في رجل الفن أن يكون ساذجاً في ما لا يخص الفن، وذلك لانصرافه التام إلى فنه كما يقول رودان، وربما جهل النقد وعجز عن نقد إنتاجه الخاص إذا لم يكن ذا ذكاء نقدي، وهو قلما يستطيع التحليل أو التفكير المجرد على طريقة الفلاسفة»(35)، وهو أمر غريب إذ كيف يكون الفنان المبدع عبقرياً في فنه ثم غبياً في أمور أخرى، والصورة الطبيعية الثانية هي أن الناقد غالباً ما يكون مبدعاً، ولكن في الأعم الأغلب لا يستطيع إنسان مهما تبلغ مكانته العقلية أن يقوم بنقد نفسه نقداً علمياً على أساس أن العقلية التي أبدعت هذا الفن هي ذاتها التي تحكم عليه بمقاييسها، والنقد يعتمد على تمييز الجيد من الرديء في الفن، فهل يستطيع الفنان أن يذكر قصيدة أساء فيها، وهذا ليس نقيصة في الفنان، بل إنها صفة بشرية عامة ألا يكون الإنسان خصماً وحكماً في آن واحد، ولعل الكلام الذي سبق هذا الرأي عند روز يرد عليه فقد ساق أسماء أعلام برعوا في الفن والنقد والعلم، بينما لم يقدم نموذجاً واحداً للتدليل على هذا الكلام.