خلال القرن قبل الماضي, وبدايات القرن الفائت تعرضت الحديدة، بوابة اليمن الغربية، إلى سلسلة من الغزوات الخارجية القادمة من أوروبا تحديداً...وبفعل ما كان يمتلكه الغزاة من عتاد عسكري حربي هائل، ومتطور مقارنة بما كانت تمتلكه “الحديدة”، آنذاك، تمكن الغزاة من التغلب على كل أشكال المقاومة التي استبسل فيها الإنسان اليمني “التهامي”...ليسيطر الغزاة على أجزاء واسعة من المدينة التي جنحت للسلم قليلاً، لكنها لم تستسلم أبداً..ولم تخب بداخل أبنائها ثورة الانتقام من المستعمر الباغي...وباستحداث عديد تحصينات دفاعية مثل الحصون والقلاع استطاع التهاميون شن الكثير من الغارات والتحصن سريعاً؛ ليوجهوا بذلك ضربات متوالية وقاسية للمستعمر الذي جر أذيال خيبته وراءه وقفل راجعاً إلى حيث أتى.. لقد بلغ عدد القلاع والحصون المنتشرة في طول وعرض هذا السهل المشبع بالحرارة والرطوبة أكثر من 37 قلعة وحصناً حربياً، وكلها كانت شاهدة على تلك الحقبة من التاريخ المرسومة بدماء الأجداد، والنابضة بتلك الأفكار والجهود التي برهنت على عظمة ذلك الإنسان رغم شحة مقدراته.. و قدر لهذه المحافظة أن تكون مسرحاً للعديد من الهجمات، شنتها القوات الإنجليزية والعثمانية.. ولكن دعونا نعرج على أبرز تلك التحصينات والقلاع لنتعرف عليها عن كثب ..دعونا نتعرف على أسباب صمودها، وكيف أصبحت اليوم. استعادة البهاء المفقود تعد قلعة الكورنيش حاضرة مركز المحافظة التاريخية، التي تتعملق بشموخ على وجه المدينة في إطلالة هي الأندر في تاريخ كُتب بدماء الشرفاء من أبناء هذا الوطن. القلعة تقع على ربوة مطلة على البحر مباشرة، وتعتبر النواة الأولى التي انطلقت منها فكرة الخطط الدفاعية والتي تمخض عنها إنشاء الكثير من المواقع الدفاعية على طول الساحل.. تسكن (الكورنيش)على الشريط الساحلي الغربي للمدينة الأم، وعلى بعد أمتار من ميناء الاصطياد الشهير ، وتاريخ بنائها يعود إلى العصر العثماني الأول عام 1538م، يطلق عليها القلعة اليمانية، وقد تم إنشاؤها لأسباب عسكرية بحتة؛ نظراً لأهمية و إستراتيجية موقعها. حتى وقت قريب والقلعة عبارة عن ثكنة عسكرية مدججة بالسلاح، وما أقسى أن يتحول معلم سياحي بهذه العظمة إلى موقع عسكري محظور، خاصة عندما يحتل موقعاً متميزاً كهذا! سنوات إهمال طويلة مرت بها هذه القلعة كانت سبباً في غيابها عن المشهد السياحي، فبقاؤها طويلاً كثكنة عسكرية، جعلها خارج دائرة المواقع الأثرية والتاريخية، وربما كانت ستموت ببطء بسبب الإهمال والملوحة، التي سعت للنيل من جدارنها، وربما كانت هذه القلعة قد دخلت غياهب الزمن المهمل لولا زيارة خالد الرويشان وزير الثقافة السابق لها في العام 2004م حيث عمل على مقترح جميل، أفضى لتحويل القلعة إلى متحف تاريخي يحوي بعضاً من تاريخ اليمن ويدخر موروثات من الحضارة اليمنية القديمة، عزز ذلك توجيهه بنقل المخطوطات والكتب التاريخية من كل أرجاء المحافظة؛ ليتم احتضانها تحت سقف واحد في هذه القلعة..مؤخراً حظيت قلعة الكورنيش بأعمال ترميم واسعة بهدف استعادة بهائها التاريخي، وقد كانت هذه خطوة إيجابية جعلت القلعة تظهر وكأنها شابة دخلت للتو قلب التاريخ. رحلة مفرطة بالمتغيرات قلعة زبيد أو ما يطلق عليها ب"الدار الناصري الكبير" تعد واحدة من القلاع التي أرسى دعائمها الملك الرسولي الناصر أحمد، الذي قام ببنائها في العام 822ه، وتعتبر من أقدم المباني التاريخية في هذه المدينة. هذه القلعة لم تكن للحماية والاستحكام فحسب، بل كانت داراً كبيرة للحكم تعاقب عليها الكثير ممن حكموا المكان خلال المد الاستيطاني الذي شهدته المنطقة كلها في مختلف المراحل التاريخية؛ حيث تعرضت زبيد للعديد من الهجمات التي نجم عنها سيطرة بعض الدويلات مثل الزيدية والنجاحية والصليحية، فضلاً عن الدولة الأيوبية بقيادة طغتكين بن أيوب وكانت القلعة بالنسبة لهم جميعاً بمثابة قصر للحكم.. تميزت القلعة بتنوعها المعماري ذي الملامح التاريخية، تلمس ذلك من خلال تقاطعاتها الداخلية ذات التناسق الداخلي المليء بالأسرار، وقد اُعتبرت بالإضافة إلى كونها قصراً للحكم من أقوى الثكنات العسكرية؛ نظراً لاستحكاماتها الدفاعية الحساسة، وثمة قناة مائية تم بناؤها بالآجر والجص استطاعت مد وتغذية القلعة بالماء بطريقة انسيابية رائعة، لكنها « أي القناة» لم تعد موجودة الآن بعد أن محاها الزمن خلال رحلته المليئة بالتغيرات والتبدلات، ولم نعد نطالعها إلا في كتب التاريخ المندثرة. أدت هذه القلعة وظائف عديدة من مركز للحكم، إلى قصر سلطاني، إلى مخازن وعنابر واصطبلات خيول، إلى متحف تاريخي في رحلة حياتية مفرطة الأحداث، وكل ذلك أفقدها جانبا من نكهتها التاريخية، لكن البعثات الآثارية التي تم استقدامها مؤخراً كالبعثة الكندية، التي أجرت عليها بعض الحفريات قد مهدت الطريق أمامها لاسترجاع بعض من بريقها المفقود. التاريخ فوق ربوة عالية بيت الفقيه واحدة من مدن السهل التهامي تطل على الطريق التي تربط محافظة الحديدة بمحافظة تعز، تربعت في ذلك المكان منذ منتصف القرن السابع الهجري، وتعد حاضنة المساجد بلا منازع، أسسها الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل فنحا بها إلى الاتجاه الروحاني منذ الوهلة الأولى؛ وربما لهذا السبب أخذت في تسميتها تلك. تنام قلعة بيت الفقيه على ربوة عالية في الجانب الشرقي من المدينة، هناك حيث اختارها الوالي العثماني مصطفى باشا لتكون قاعدة أساسية لحكمه عام1349م، حيث انبعثت منها رائحة التسلط التي كانت أساسا لترسيخ الحكم العثماني آنذاك. تم بناء القلعة باستخدام الآجر الذي كان سائداً في الربوع التهامية آنذاك، استخدمت إلى جانبه جذوع الأشجار في التسقيف وبناء الأعمدة بعد أن تم زخرفتها ضماناً لتغطية أي تشوهات ظاهرة، حوت القلعة بداخلها مسجداً صغيراً والكثير من المرافق متعددة المهام، وشملت القلعة على فناء عريض يبلغ سعته ( 32×47) متراً وهو الفناء الذي كان الوالي يستخدمه لاستقبال وجهاء العشائر من المناطق المجاورة بعد أن يحاط بسياج من الجنود المدججين بالسلاح ..وامتدت إلى القلعة بعض من القنوات المائية التي ظلت تمارس عملها في إيصال الماء إلى جذور هذه القلعة حتى بعد انقضاء العهد العثماني بسنوات، تلاشت بعدها واندثرت وباتت مجرد ذكرى معمارية. الزيلعي الحارسة في اللحية ثمة ابتسامة عذراء تستقبل الزائرين، فهي رغم بعدها المكاني قد استطاعت، بما تمتلكه من مدخرات سياحية، تبديد تلك المسافة التي لطالما سببت جرحاً للوقت الثمين لدى أي سائح أو زائر متعطش لرؤية كل شيء. تقع اللحية إلى الشمال من مدينة الحديدة وتبعد عنها مسافة 165كم ، يتسنى للزائر بلوغها عبر الطريق الفرعي الممتد من مفرق المعرس، والذي يصل طوله إلى 65كم . قلعة الزيلعي في اللحية هي الأبرز والأشهر في سجل المدينة التاريخي والمدون على صدره أكثر من 14 قلعة وحصناً قديماً، سميت قديماً بقلعة القفل؛ نظراً لموقعها الاستراتيجي المطل على الطريق المؤدية إلى المدينة؛ حيث عملت على قفلها واستحكمت بحركة الدخول والخروج من وإلى المدينة .. وفي الوقت الحالي أطلق عليها قلعة الزيلعي؛ نسبة لمؤسس المدينة أحمد بن أبي بكر الزيلعي. تقع القلعة على تل مرتفع بمدخل المدينة البري وتسيطر عليه، وتعد حلقة مهمة تربط ذلك السور التاريخي الذي تم تشييده في العام 1912م و يطوق المدينة من الجهات البرية الثلاث. وقد استخدم في بنائها أحجار الكلس البحري الصلدة والآجر المحروق والأخشاب السميكة، تتكون من طابقين، وتحتل مساحة تقدر ب 3000متر مربع، وقد صممت وفقاً لأغراض عسكرية بحتة، تلمس ذلك من خلال سراديبها السرية الممتدة تحت الأرض بطول 500 م حتى منطقة الشاطئ. كانت القلعة مزودة بصهريج استخدم لخزن المياه ضماناً للبقاء والصمود؛ ولأنها من أهم القلاع فقد تمكنت من البقاء حتى اليوم رغم ما طرأ عليها من تغيرات ناجمة عن تصرفات الإنسان العقيمة عبر السنوات. الزُهرة..المدينة والقلعة الزُهرة واحدة من المديريات الشمالية لمحافظة الحديدة، تبعد عن مركز المحافظة بحوالي 110كم وتتفرع من الخط الرئيسي الذي يربط بلادنا بالمملكة العربية السعودية.. لعبت (الزُهرة) دوراً رائعاً في التصدي لقوات الاحتلال القادمة من أقصى الأرض، وخاصة القوات البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية، حيث تعرضت المدينة خلالها لقصف عشوائي بأسلحة ثقيلة وبصورة مكثفة .. الزُهرة مدينة معمرة تتجاوز ال200عام في تصنيف المؤرخين، وتطل على وادي مور الشهير الذي يخترق بطن تهامة، ليفرغ مياهه في زاوية من الزوايا المطلة على البحر الأحمر .. القلعة فيها شامخة شموخ ذلك الوادي حين تتزاحم بين جنبيه السيول بعد ليلة مطيرة، بُنيت كحصن حربي في العام 1220ه من قبل الشريف حمود بن محمد الخيراتي في فترة هي الأقسى في تاريخ هذه المدينة، القلعة بالتوازي مع مثيلاتها لعبت دوراً تاريخياً مهماً في استنزاف قوى المحتل وإقلاق سكينته. الضحي المتعالية قلعة الضحي، إنها الأقرب في سيناريو الامتداد الجغرافي الذي تشكلت منه هذه التراجيديا التاريخية والتي مازالت متقدة الروح حتى يومنا هذا، لا تتجاوز المسافة الفاصلة بينها وبين حاضرة المحافظة سوى 30كم تقريباً شمالاً حيث يزداد الجو سخونة وتزداد معه تلك الكتل الدافئة القادمة من البحر والمشبعة برائحة الطحالب. الضحي مدينة، لونها التاريخ، استعصت على الزمن فلم يتمكن من تغيير فلسفتها حتى اليوم، تحملك دوماً إلى قلب الملاحم التاريخية، حيث مازالت جغرافيتها تستنطق تلك الحقبة من التاريخ؛ ولذا لا غرابة إذا احتضنت في جنباتها واحدة من أهم القلاع ذات الدور التاريخي المتميز، القلعة فيها تتوسط المدينة وتتميز بارتفاعها الذي يمكن مشاهدته من أي مكان في المدينة، متعالية رغم أنف الصحراء على المدينة تراقب البحر بعناية مدهشة، تدخل على المدينة وناسها الطمأنينة والسلام. شيدت القلعة في العهد العثماني الأول ( 1538م – 1635م ) وتعرضت للكثير من التحورات التي جددت ملامحها، فقد عمل على تجديدها الشريف الخيراتي في العام 1260ه ثم تعرضت بعد ذلك لأعمال تجديد أخرى في العهد العثماني الثاني 1849م ، هذا الأمر شكل جانباً من قوتها وقدرتها على الصمود. بُنيت القلعة بأدوات من البيئة التهامية الخالصة وبنسق معماري فريد تمخض عنه إطلالتها بأربع واجهات ذات نوبات أربع وبمساحة قدرت ب 30×60 متراً ، وهي ذات أساسات قوية تمكنها من مقاومة تطفل الملوحة وعنفوان الصحراء .. وهي حالياً مقر لإدارة مديرية الضحي. الزيدية ..تعايش حذر هذه هي الزيدية، إذاً حيث التاريخ بقسوة حكامه مازال حاضراً حتى الآن، ورائحة الدولة الإغريقية تذوي في كل مكان، نحن إذاً أمام معلم يسكن في قلب التاريخ. تأسست هذه المنطقة في القرن السادس الهجري، حيث قامت على أنقاض مدينة المهجم التي لم تعمر طويلاً، تعرضت للاحتلال بشكل كبير، ولكن في سياقات متفاوتة، ولعل الأبرز في تاريخها ما يمثله الاحتلال العثماني من كابوس مريع أكثر ثقلا في تاريخ المدينة، وخاصة التواجد العثماني الأول باعتبارها الفترة التي نجم عنها تصاعد وعلو قلعتها الرابضة في وسط المدينة الآن .. لم تختلف المدينة من حيث تكويناتها المعمارية؛ نظراً لاستفحال وانتشار طريقة بناء القلاع بتحصيناتها الدفاعية المعتادة على أرجاء السهل التهامي؛ حيث سيطرت البيئة المحلية على كل أنسجتها البنائية فتركت فيها علامة إنسان تهامة في ذلك التاريخ حتى الآن .. هذه القلعة أصبحت كقلعة الضحي مقراً لإدارة مديرية الزيدية؛ ما يعرضها للتعامل غير اللائق بمكانتها، وقد يؤدي عما قريب إلى اندثارها وبكل ما تحمله من تاريخ. باجل والهروب من قبضة الاستعمار للموقع الجغرافي فلسفته الخاصة في فرض هيمنة المكان، ثمة أماكن كان لها حضور قوي في المشهد التاريخي كما لمسناه في باجل، مدينة الرذاذ والغبار والضوضاء، باجل التي تسكن في سهل، تتلقفه المرتفعات الجبلية، واحدة من مديريات الحديدة الواقعة على الطريق الرابط بين الحديدة والعاصمة صنعاء (40كم) عاشت هذه المدينة بداية مشهد الصراع الحقيقي حيث المرتفعات الغربية بؤرة وعنفوان المقاومة التي لطالما كبحت جماح المحتل طويلاً، ارتقت فكرة بناء التحصينات من السهل إلى الجبل وهي استجابة طبيعية لبشر تعرضت مدينتهم للاحتلال طويلاً، تتركز بقايا آثار القلعة في الجبل المطل على المدينة حيث تسنى رؤية مشاهد الانتقام. القلعة تحمل بصمات العهد العثماني الأول 1635م، ولا أحد يتذكر بالضبط من الذي أرسى دعائم هذه القلعة؛ نظراً لشحة ما جاء عنها في كتب التاريخ، لكنها تفسر حقيقة الهروب من قبضة يد الاستعمار؛ لكثرة ما حصل لها من عناء ومكابدة وذل.