ما هو الجيل؟ سؤال يتواتر عادة في حقول التاريخ والثقافة والنقد الأدبي، حين يتعلق الأمر بمقاربة قضايا التغير والاستمرار، اعتباراً من أن تتابع الأجيال أدعى إلى فرز التراث وابتداع الجديد، ما يشي بتعاظم الحاجة إلى أجوبة متجددة حوله.وقد يلجأ بعض من الباحثين إلى الوقوف عند دلالات فترية ناجزة، تقوم غالباً على النظام العشري أو نظام العقد، وتوظيفه لإسباغ طابع الهوية النوعية على ما يطلق عليه جيل الأربعينات والخمسينيات والستينيات فيما العقد قد يلائم الشؤون البشرية من الناحية العملية والمخططات التطبيقية، لكنه في حال الإبداع الأدبي أقصر من أن تدون منجزاته تاريخياً. قد يصحّ أن عقداًَ ما كرّس نتاجاً أدبياً مميزاً يرتبط بجيل معين، كالحال لدى جيل الستينيات في مصر، لكن الأمر ليس بهذه الكيفية في تتابع العقود السابقة أو اللاحقة. من هنا يبدو التباس النظر إلى موجات الأجيال الأدبية، وهو ما بدا جلياً لدى صلاح فضل، حين اقترح توزيع موجات الأدب المصري في القرن العشرين إلى أجيال أربعة رئيسية: جيل طه حسين ويضم المشاركين فيه بين الحربين العالميتين، وجيل نجيب محفوظ الذي بلغ أوْج نضجه خلال الحرب العالمية الثانية، وجيل الشعر الحر الذي ولد في العشرينيات، وجيل الستينيات، وان جاز القول أن ما قدمه فضل، وباعترافه، يمثل خطاطه أولية منقوصة، تحتاج لمزيد من الصقل والتعديل«40». ولهذا السبب، على كل تحقيب أن يتأسس بالضرورة على قاعدة أن يدفع إلى تطوير كل مرحلة، بالمعنى الأقرب إلى الأنطولوجيا منه إلى التسجيل، بحيث يتم تتابع الأجيال وظيفياً، بما يشي بتأكيد النظر إلى هذا التحقيب بمنطق التجادل لا التلاغي، وبقيمة التواصل لا الفرادة. تصور مقترح: والبادي أن محاولات تعريف الجيل الأدبي لا تزال تلفّها صعوبات عدة تتصل بقوامه ورهاناته، وبخاصة ما يتعلق باستيضاح ملامحه العامة، تلك التي توزعت بين إعطاء امتياز للبعض منها على حساب الأخرى، فلم تفلح سوى في الكشف عن ملامح منعزلة لها، أو معاينتها عبر تداخلها وتدامجها. وفي هذا الصدد، يقترح سامي خشبة جوانب أربعة أساسية تسهم في تحديد هذه الملامح: الزاوية الاجتماعية على ضوء الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الجيل مع الأجيال المعاصرة له، والمناخ الفكري والعقلي ويشمل الديناميات الثقافية التي تؤثر عليه، والزاوية الإنسانية وتعني علاقته بالأجيال السابقة وموقفه منها وموقفها منه، وأخيراً زاوية العمل والعلاقة بالمؤسسات ذات الصلة بنوع الإنتاج الذي يمارسه«41». عموماً، يجوز هنا الحديث عن مكونات بعينها، تسهم، بتلاحمها، في صوغ تركيبة حوارية معبرة عن ملامح الجيل الأدبي، تتراءى كالتالي: أولاً: نمط البناء الجيلي: ذلك أن كل جيل أدبي يندرج في إطار بناء جيلي أشمل Generational Structure. من كون أن فعالياته الإبداعية تضيف معطيات جديدة على الجيل السابق له، وتسلط أضواء على ما يليه. وإضافة إلى هذه الفعاليات الإبداعية، هناك كذلك طبيعة النظرة التي ينظر بها جيل ما إلى الأجيال السابقة واللاحقة، والتي يراها البعض علاقات قطع، ويعاينها آخرون كعلاقات موصولة متنامية، عبّر عنها الروائي عبد الحكيم قاسم بقوله: «ان حركة الأدب المصري سائرة نحو اكتشاف حقائق الحياة المصرية، ومع كل جيل يزداد وعي الكاتب بحقائق هذه الحياة.. قد نختلف حول عظمة التعبير عن التجربة عند هذا الكاتب أو ذاك، ولكنا نظل على يقين بأن جيلاً ما دون شك أعظم وعياً بالحياة من الجيل الذي يسبقه». الفيصل هنا، على أية حال، هو إيقاع الحياة الأدبية في المجتمع، وتفاعلها، وتبادلها الخبرات، بما يتيح مدى مشاركة الأجيال في الحركة الإبداعية، ومن ثم مدى تواصلها«42». هذا على المستوى الرأسي للبناء الجيلي، أما على المستوى الأفقي، فثمة في كل حقبة زمنية أجيال ثلاثة هم: جيل القدامى، وجيل الوسط، والجيل الجديد، يحددهم يوسف الشاروني زمنياً بجيل ما فوق الخمسين، وجيل ما بين الأربعين والخمسين، ثم جيل من هم أقل من الأربعين. الجيل الأول تحددت معالمه واستقرت تقاليده وأصبح له جمهوره المتذوق، والجيل الوسط يستمد شيئاً من وقار القدامى وبعضاً من ثورة الجديد، وهو بحكم طبيعته حلقة اتصال بين الجيلين، أما الجيل الثالث فلا يزال في مرحلته السديمية التي لم تتحدد بعد، وهذا سرّ قوته وسر ضعفه أيضاً«43». وقد تزداد هذه المسألة وضوحاً، مع مطالعتنا لرؤية الأنثروبولوجية الأمريكية المعاصرة مرجريت ميد M. Meed. والتي ترى أن كل عصر يوجد به ثلاثة أجيال: أولهم: جيل لاحق الصورة Post Figuratif. ويتميز بالتقيد بتقاليد السلف، والارتداد إلى الماضي، وسطوة الآباء، وتربية بطريركية، وشعور باللازمنية، وتفوق الأعراف والوفاء لها، والابتعاد عن نفس النمط من الأجيال السابقة أو اللاحقة، وهو ما يسود عادة في المجتمعات البدائية والريفية. وثانيهم، جيل متلازم الصورة Configuratif، ويتميز بسطوة الكبار ممن يقررون الطراز ويعينون الحدود التي يمكن لثقافة هذا الجيل أن تعبر ضمنها عن نفسها، فهو جيل يستلزم فيه أي سلوك جديد تأييد الكبار، وينتشر هذا الجيل عادة في ظروف التحول الثقافي، ويتميز بقصر عمره، وان كان في هذه الظروف يمكن أن يتخذ أسلوب التمرد على الكبار. وثالثهم، جيل سابق الصورة Prefiguratif. ويتميز بالرؤية المستقبلية، وعدم وقوعه تحت تأثيرات الجيل السابق، وممارسة التمرد، ورفض التقاليد، والتهوين من التراث، واتساع معرفته التكنولوجية «44». ولدينا، أشار الناقد العربي القديم أبو بكر الصولي إلى هذه المسالة، حيث قسّم جيل المحدثين أو المتأخرين إلى قسمين: قسم يتابع جيل المتقدمين ويقلدهم، «إذْ يجرون بريح المتقدمين، ويصبّون على قوالبهم، وينتجعون كلامهم». وقسم يبتكر معاني لم يعرفها المتأخرون، وهذا عائد إلى ارتباطهم بالوسط الذي يعيشون فيه ويصدرون عنه. ثانياً: المناخ الثقافي: والملاحظ هنا عدم تماثل الخلفيات الثقافية بين الأجيال الأدبية، بالنظر إلى أن كل جيل منها يعكس حيثياته الثقافية التي تؤثر في تشكيله، وتطرأ على مواضع التأكيد، أو التركيز على الملامح العامة للبناء الاجتماعي والفكري السائدين. ولعل مصطلحات مثل ميكانيزمات التراث والمعاصرة، والتفاعل مع إبداعات أدبية بعينها، ورصد الظروف الاجتماعية والسياسية، وإيقاع الفترة ومزاجيتها، هي تعابير ليست بالتحديد القاطع للدلالة على التأثيرات الثقافية لنتاج الأجيال الأدبية، وان بدت ضرورية لتأكيد بصمات كل جيل، واستيضاح حساسيته الجمالية والفكرية المتميزة «45». والمثال الأوضح، في هذا الصدد، يبدو في كيفية تعامل كل جيل مع الآداب الأجنبية، حيث هناك من تلقى من هذه الآداب لُمعاً جانبية عارضة، وتوقف عند سطوحها، وامتنع عليه السّبرْ والإفادة، وأجيال أخرى وقفت على كفاياتها وفعاليتها. بما تجاوز نقلها إلى الدراسة الناقدة، فالهوية المتجددة المحرضة على الإبداع، بتعبير جون راشمان J. Raichman (46). بل إنه يمكن ملاحظة تباين الإفادة من روافد هذه الآداب الأجنبية في الجيل الأدبي الواحد، وهو ما عبّر عنه ذلك التناظر الذي جرى بداية ثلاثينيات القرن الماضي في مصر على صفحات الأعداد الأولى من مجلة (الرسالة)، بين طه حسين ممثل الذائقة الأدبية الفرنسية، وبين عباس العقاد ممثل الذائقة الأنجلو سكسونية، تحت عنوان (لاتينيون وسكسونيون). والأمر هنا يتعلق بالبحث عن علامات تؤكد تمايز كل جيل، والتي تبدو خاضعة لواحدة أو أكثر من هذه الخلفيات الثقافية، وتعقب مصادرها ونشوئها وتأثيراتها. وقد تجد التساؤلات المعتمدة حول خلفيات الأجيال الأدبية الثقافية ما يعمق فهمنا لتمايز هذه الأجيال وحركة تتابعها، لو استرشدنا بنموذج الناقد البريطاني رايموند ويليامز R. Willimas حول تعاقب التشكيلات الثقافية Cultural Configurations. التي عاينها عبر أنساق ثقافية ثلاثة: النسق المهيمن Dominant. والمتخلف أو المتبقي Residual. والطارىء Emergent. محاولاً بواسطتها تقديم تصور متماسك لطبيعة التغيرات الاجتماعية والتحولات الثقافية، على مستوى ظهور تشكيلات جديدة واختفاء أخرى، وعلى مستوى نشوء أو تخلف أو اندحار تجارب ومعان وقيم وعلاقات وتأويلات بعينها في لحظة محددة. فلدى يليامز، ثمة نسق ثقافي مهيمن ومؤثر، هو الذي يحدد طبيعة كل مجتمع وكل حقبة زمنية في تاريخه. وإلى جوار هذا النسق المهيمن، يتواجد نسقان آخران: نسق متخلف ينتمي إلى ثقافة ماضية، لكنه يمتلك تأثيراً في العملية الثقافية حاضراً، اعتباراً من أن: « أية ثقافة تشتمل على رواسب من ماضيها، لكن مكانها في العملية الثقافية المعاصرة موجود بعمق»(47)، وهو ما يجعله بعيداً عن النسق المهجور الذي ينتمي إلى ثقافة ماضية ومنقرضة. أما النسق الثاني الطارىء، فيتبدى كمعارضة للمهيمن أو كبديل عنه، ما يصيّره مظهراً لمقاومة أي نسق ثقافي في حقبة محددة من تاريخ مجتمعه. وقد يتمكن من مواجهة السائد المهيمن، ليتحول بدوره في لحظة لاحقة إلى نسق ثقافي مهيمن. ثالثاً: اللغة: ذلك أن المعجم الذي يستخدمه المبدع يمثل أبرز الخواص الدالة عليه، ما يشي بأن فحص هذا المعجم عند كل جيل يمكن أن يسهم في استبانة الملامح العامة المميزة لإبداعه (نوعية اللغة من فصحى وعامية وهجين، استخدام المفردات، إيقاع الجملة، التشخيص، الدلالات الرمزية والأسطورية، عملية التقطيع الفني، علامات الوقف، التداخل بين الفنون الكتابية، التضمينات، الخلط بين الأزمنة في تصريف الأفعال...)، وكلها مؤشرات يلزم التوقف عندها لدى كل جيل، وما قدمه من مستجدات حولها. ومع ذلك ورغمه، فالأمر أبعد من مجرد النظر إلى تمايز الأجيال الأدبية على أنه نوع من النزاع حول الألفاظ وتراكيبها، من حيث إلغاء تعابير كانت سائدة وإحلال أخرى جديدة محلها، بل من خلال الحيوية الفاعلة للغة نفسها المرتبطة بحيوية استخدامها. مثال ذلك، أن الكلمة الواحدة قد تعني دلالات أخرى بالنسبة لأجيال مختلفة، ما يشي بأن عمر الكلمات هو عمر الاتجاهات التي يفرزها عصر وتقاليد أدبية، تتحدد عبر الأجيال والمناهج، فيما لا يمكن أن تكون ناجزة، بل تخضع دوماً للتحوير والتعديل. على أن هذا التغيير ليس مقصوداً منه تلبية لنزوة، أو مرد رغبة غائية، بل هو ضرورة تمليها التحولات الاجتماعية والحضارية، تلك التحولات التي تؤدي بدورها إلى تغير أساس في التفكير، ومن ثم تلح الحاجة إلى معجم جديد يستوعب الأفكار الجديدة، وينتج تواصلاً أيسر. وبهذا الفهم، تضحى اللغة احدى قواعد اشارات الفرادة في الإبداع الأدبي لكل جيل، وليست بناء مفروضاً من الخارج.