في حين أن غريماس يؤسس للرمز انطلاقا من منظور هيلمسلاف عندما يعتبره جزء من سيمياء السطح، ويبين أنه ليس علامة لكونه يدخل في نظام من المشاكلة ويرتبط عادة بسياق اجتماعي ثقافي، وهو عكس العلامة لا يقبل تحليلا تصويريا. وبالنسبة للاستعمالات غير اللسانية وغير السيميائية يقر غريماس بأن الرمز يعني بساطة شيء آخر، ولذا يبدو متعدد الأقطاب.كما نجد جان مولينو قد حصر الحدث الرمزي في النصوص والمأثورات الشفوية ودرسها من مستويات ثلاثة: المستوى الشعري، المستوى المادي، المستوى الحسي. وهذه المستويات بمثابة وظائف للرمز، فالمستوى الأول يتناول علاقة المنتج بإنتاجه، والمستوى الثاني يتناول الإنتاج نفسه، والمستوى الثالث ينصب على الإنتاج وعلاقته بالقارىء. اذا عدنا الى صاحبي قاموس الرموز : آلان قربان وجون شوفالييه فإننا نجدهما يميزان تمييزا دقيقا بين الرمز و بعض المفاهيم التي تقرن بصفة خاطئة به مثل الشارة “Emblème” والمجاز الصوري “Allégorie” فالشارة “صورة مرئية اصطلاحية لتمثيل فكرة أو شخصية معنوية كأن نقول العلم شارة الوطن. أما المجاز الصوري فهو “حكاية ذات طبيعة رمزية أو إيحائية، ومن حيث هو سرد يجلي شخوصا ذوي صفات وملابس وأفعال وحركات لها قيم ، في حين أن الرمز لا يتوفر على أي قرينة لفظية تساعد على التأويل. ان الكثير من النقاد لا يفرقون بين الرمز الفني والرمز الشارة فحين ينظر إلى الرمز في الشعر بوصفه مقابلا لعقيدة أو لأفكار بعينها يخطئ معنى الرمز الفني، أو رمزية الشعر إجمالا وهو عيب يتورط فيه النقاد أحيانا، حين يقنعون بأن كذا يرمز إلى فكرة أو مذهب أو عقيدة.” [11] من هذا المنطلق أضحى الرمز من المفاهيم التي تعرضت لاستعمالات يصعب حصرها في المجال الفني وذاك لكونه أوسع من كونه وسيلة من وسائل الأداء الشعري، وقد اختلفت مدلولاته من حقل معرفي إلى آخر، بل كثيرا ما تعددت معانيه داخل الحقل المعرفي الواحد. ويبدو أن كلمة رمز أصبحت مستهلكة في مجال البحوث السيميائية ، وذلك لنضوب الوعي الرمزي الذي يعتمد على علاقة التشابه بشكل ما بينما أخذت النظرة التحليلية تعني بالعلاقات الشكلية بين الإشارات نفسها خارجة بذلك عن هذا الضمير الذي لم يكن يعنيه من الشكل إلا ما يدل عليه ومن ثمة فإن موقع العلامة في السياق اللغوي هو الذي يحدد قيمتها من الوجهة السيميولوجية. فكيف سيحضر مفهوم الرمز في جميع قطاعات المعرفة عند كاسرر؟ وماهي اعتراضاته على التصورات اللسانية التقليدية؟ “إذا كانت الإبستيمولوجيا التقليدية ابتداء من كانط إلى الكانطية الجديدة قد اكتفت بنقد المعرفة العلمية، فإن كاسيرر جعلها تمتد إلى نقد المعرفة الإنسانية أو نقد الحضارة الإنسانية في كل أشكالها من لغة الى أسطورة إلى فن إلى تاريخ. لقد كانت مشكلة كانط هو كيفية تطبيق التصورات الذهنية على الخبرة الحسية، أما عند كاسيرر فلقد استحالت عملية التصور conceptualisation الى مجرد حالة خاصة مما يطلق عليه الرمزية symbolisation أو التمثيل الرمزي symbolique représentation . فالتمثيل الرمزي عند كاسيرر أصبح في المحل الأول يمثل عملية أساسية في الوعي الانساني وهو الذي يوضح لنا كيفية فهمنا للعلم بل وأيضا للأسطورة والدين واللغة والفن والتاريخ. ولا غرو في ذلك فالموجود البشري عند كاسيرر قد أصبح خالقا للرموز ولم يعد مجرد حيوان ناطق. ويتميز الرمز عند كاسيرر بأنه يخلق علامات أو ارتباطات معينة بين الإشارات الحسية من ناحية والمعاني من ناحية أخرى- فطبيعة عملية الرمز تتمثل في خلق عالم يعلو على الإشارات الحسية ويغلفها به. والعالم الرمزي الذي يخلقه الموجود البشري شأنه في ذلك شأن التصورات والمقولات الكانطية، فهو لا يعكس العالم الموضوعي أو يحاكيه بل انه يخلقه ويكونه ويبنيه وينظمه. فالرموز العلمية تنشأ وتخلق عالما من الموضوعية ألا وهو عالم العلم. والصور الأسطورية تنشأ وتكون وتخلق واقعا آخر موضوعيا ألا وهو عالم الأساطير والدين. والكلام العادي واللغة الجارية تكون وتشكل أيضا واقعا موضوعيا ألا وهو عالم الحس المشترك. والرموز الفنية تخلق وتشكل واقعا آخر موضوعيا ألا وهو عالم الأشكال الخاصة. ويمكن القول بصفة عامة أن هناك دائما طريقة معينة يجري على أساسها التمثيل الرمزي. وهذه الطريقة تقابل واحدا من النظم الثلاثة الرمزية التي تخلق وتشكل ثلاثة نماذج من الواقع الموضوعي تقابلها على التوالي ثلاث وظائف رمزية: - وظيفة التعبير: العالم الذي تخلقه هذه الوظيفة هو عالم الأسطورة البدائي. وهنا تختلط العلامات أو الإشارات بمدلولها وتمتزج الرموز بما ترمز إليه... - وظيفة الحدس: هذه الوظيفة تتم عن طريق استعمال اللغة العادية التي تخلق أشكال عالم الإدراك العادي. إنها الوظيفة التي تشكل وتخلص وتصوغ عالم الحياة الجارية. وبهذه الصفة يمكن أن نميز بين بعض الصفات الدائمة التي تحدد لنا أنواع الجواهر وبين الصفات الأخرى العرضية. كما يمكننا أن نميز بين الموضوعات وصفاتها أو بين الأشياء وبعضها. وفلسفة أرسطو تقدم لنا طريقة في التفكير في الأشياء سابقة على المرحلة العلمية هي طريقة التمثيل الرمزي. -الوظيفة التصويرية: هذه الوظيفة تخلق وتشكل عالم العلوم، وهو عالم أقرب إلى أن يكون نسقا من العلاقات وليس مجرد نسق من الجواهر وصفاتها. فالجزء لا يرد إلى الكل، بل انه يرد إلى مبدأ تنظيمي بحيث تنتظم الجزئيات بحسب نظام معين أو سلسلة محددة.” [12] إذا كانت الفلسفة النقدية الكانطية قد اعتبرت العقل النظري المنطقي هو العامل الوحيد الحاسم في تمييز الإنسان فإن كاسيرر عدد وظائف العقل النظري واعتبره بمثابة فرع من قدرة بشرية جوهرية هي الرمز. يقول حول هذا الأمر:” العقل أو النطق اصطلاح ناقص لا نستطيع عن طريقه وحده فهم أشكال الحضارة في ثرائها وتنوعها وكل هذه الأشكال رمزية.” على هذا الأساس بدلا من أن نعرف الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا فإن علينا أن نعرفه باعتباره حيوانا رامزا. فعن طريق العقل وحده لا نستطيع أن ندرك العالم الأسطوري أو العالم اللغوي... يبين لنا كاسيرر أن البيولوجي يوكسل قد أوضح بأن لكل كيان عضوي حسب تركيبه التشريحي جهازين: الأول منهما يسميه جهاز الاستقبال والثاني منهما يسميه جهاز التأثير. ولابد من تعاون بين الجهازين معا. وهذان الجهازان، جهاز الاستقبال الذي يتحقق عن طريقه تقبل المثيرات الخارجية وجهاز التأثير الذي يستجيب لهذه المؤثرات يتسمان بسمة التلاحم الوثيق بينهما، فهما حلقتان في دائرة واحدة يسميها يوكسل بالدائرة الوظيفية. يقبل كاسيرر تشريح يوكسل للجهاز العضوي ويضيف إليه جهازا آخر يميز الإنسان عن غيره من الكائنات العضوية ويسميه بالجهاز الرمزي.إذ يقول:” بين الجهاز المستقبل والجهاز المؤثر وهما يوجدان في كل الأنواع الحيوانية نجد لدى الإنسان حلقة ثالثة يمكن تسميتها بالجهاز الرمزي.فإذا قرنت الإنسان بغيره من الحيوانات، وجدته لا يعيش في واقع أوسع فحسب ولكنه يعيش أيضا إن صح القول في بعد جديد من أبعاد الواقع وهو البعد الرمزي.” “مادام الإنسان قد تجاوز العالم المادي فإنه أصبح يعيش في عالم رمزي وما اللغة والأسطورة والفن والدين إلا أجزاء من هذا العالم. فهذه هي الخيوط المتنوعة التي تنسج منها الشبكة الرمزية. إنها النسيج المعقد للتجربة الإنسانية وكل التقدم الانساني يرهف من هذه الشبكة ويقويها”. [13] هنا يتقلص العالم المادي كلما تقدمت فعالية الإنسان الرمزية، إذ لم يعد الإنسان قادراً على مواجهة الواقع مباشرة ويحدق فيه وجها لوجه فلقد استغرق نفسه بالأشكال الرمزية والصور الفنية والرموز الأسطورية أو الشعائر الدينية حتى لم يعد يعرف ويرى إلا عن طريق تلك الوسائط المصطنعة. وبدلا من التعامل مباشرة مع الأشياء نجده يتحدث دائما مع نفسه. إن الإنسان لا يعيش عالم من الوقائع الصلدة وإنما يعيش وسط عواطف متخيلة وفي الآمال والمخاوف، الواقع الرمزي الجديد الذي ينتمي إلى عالم المعنى لا يمكن أن يكون مجرد محاكاة للواقع المادي بل هو بعد من أبعاده وعن طريقه يصبح كل شيء موضوعا للإدراك. “من الضروري من أجل الفكر الرمزي أن يوضع فصل حاد بين الواقعي والممكن أي بين الأشياء الواقعية والمثالية. والرمز ليس له وجود واقعي كجزء من العالم المادي وإنما له معنى.