في حين أن غريماس يؤسس للرمز انطلاقاً من منظور هيلمسلاف عندما يعتبره جزءاً من سيمياء السطح، ويبين أنه ليس علامة لكونه يدخل في نظام من المشاكلة ويرتبط عادة بسياق اجتماعي ثقافي، وهو عكس العلامة لا يقبل تحليلاً تصويرياً.. وبالنسبة للاستعمالات غير اللسانية وغير السيميائية يقر غريماس بأن الرمز يعني بساطة شيء آخر، ولذا يبدو متعدد الأقطاب..«لقد كان من العسير على الفكر البدائي أن يميز بين الوجود والمعنى، فهما هنالك مختلطان وإنما ينظر إلى الرمز نظرته إلى شيء قد وهب قوى سحرية ومادية»، لكن تقدم الحضارة جعلت التفرقة بين الأشياء والرموز وبين الواقع والإمكان أمراً ملموساً بوضوح.. إن الواقع الرمزي هو في المحل الأول ولكنه ليس شيئاً مادياً بالرغم من حاجته إلى بنية مادية وقوام حسي يتجلى من خلاله.. يتسم الشكل الرمزي بنوعية خاصة تتمثل في شكله الحسي المادي من ناحية وماهيته العقلية المتمثلة في المعنى من ناحية أخرى.. وهذا التمييز بين الرمز والمعنى ماهو إلا عملية تجريدية تتم في الفكر وحده لا في الواقع. فالرمز على الرغم من بنيته المادية الحسية إلا أنه يتجاوز مع ذلك تلك البنية ليشير بذلك إلى المعنى. إن ماديته مستغرقة تماماً في هذه الوظيفة.[14] لكن كيف يمثل عودة الفكر الفلسفي إلى الرمز محاولة للرد على النظرة الضيقة للمدرسة الوضعية؟ «ترى سوزان لانجر أن الوضعية المنطقية حصرت نفسها في حدود عالم اللغة فحسب بينما عالم المعنى أوسع من عالم اللغة. ذلك أنه توجد مجالات أخرى لا يمكن قياسها على أساس المنطق اللغوي وحده كالأحلام والأساطير والفن والميتافيزيقا.. وهي مجالات تعد رموزاً حافلة بشتى المعاني خلقتها الطبيعة الإنسانية للتعبير عن بعض الجوانب التي تعجز اللغة عن التعبير عنها.. كما تفرق بين الإشارة والرمز، فالإشارة تفهم متى استخدمت للإشارة إلى موضوع أو الموقف الذي تدل عليه، أما الرمز فإنه يفهم متى جعلنا نتصور الفكرة التي يقدمها. فالإشارة ماهي إلا مجرد أداة أو وسيلة لخدمة الفعل بينما الرموز تشكل أدوات ذهنية أو مظاهر لفاعلية العقل البشري. وعندما ينجح الموجود البشري في إيصال فكرته إلى غيره عن طريق الرموز فإنه بذلك يكون قد نجح في التعبير عن هذه الفكرة. في نفس السياق يفرق شارلز ويليامز موريس بين الرمز الفني وبين الرمز أو العلامات المستخدمة في العلم، فالعلوم تستعمل رموزاً مختلفة أو إشارات مثل الحروف والأشكال والأعداد. والفرق بين الإشارة والرمز إنما يرجع إلى أن الإشارة ليس لها معنى نستمده من تأملنا لها وإنما تستمد دلالتها من الشيء الذي نتفق على أن نستعملها للإشارة إليه، أما الرمز فله في ذاته معنى خاص به ونستمده من تأملنا له والانفعال به فكأن الشكل والمضمون يكونان معاً وحدة عضوية.. من هنا تصبح الصلة بين الشكل والمضمون في العمل الفني صلة طبيعية وليست مصطنعة كالتي نجدها في الإشارة ومعناها. وبناء عليه نستطيع أن نستبدل إشارة بإشارة أخرى في نطاق علم معين بغير أن يتغير المعنى..»[15] كما حاول الأنثربولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس وفق منهجية بنيوية «استخراج القوانين الصوتية والنحوية والصرفية من مادة الكلام العادي، ذلك أنه يوجد تماثل بين الأبنية اللاشعورية للعادات وبين أبنية اللغة، فالنشاط اللاشعوري للعقل يتضمن فرض أشكال على المضمون وهذه الأشكال واحدة لكل العقول بمعزل عن تغيرات التاريخ. وعلى ذلك فإن دراسة الوظيفة الرمزية كما يعبر عن نفسها في اللغة تبرهن على ذلك بوضوح، ومن ثم يصبح من الضروري الوصول إلى البنية اللاشعورية الكامنة وراء كل مؤسسة وكل عادة للوصول إلى مبدأ صحيح للتفسير لبقية المؤسسات والعادات الأخرى.. هكذا تبدو المظاهر المختلفة للثقافة كمجموعة من اللغات كل منها يعبر عن جانب أو مظهر أو بعد واحد من أبعاد المجتمع، فالثقافة كلها ماهي إلا مجموعة من النظم الرمزية، في المستوى الأول منه تقع اللغة، وقوانين الزواج والعلاقات الاقتصادية والفن والدين. وكل هذه الأنظمة الرمزية تستهدف التعبير عن بعض مظاهر الواقع الاجتماعي والفيزيائي.. هكذا تتحول العلاقات الإنسانية الأصيلة بين البشر إلى ما يشبه العلاقات القائمة بين الظواهر الطبيعية..»[16] و«مادام الإنسان قد خرج من العالم المادي الصرف فإنه يعيش في عالم رمزي وما اللغة والأسطورة والفن والدين إلا الخيوط المتنوعة التي تحاك منها الشبكة الرمزية». وكما يقول بودلير «كل ما في الكون رمز، وكل ما يقع في متناول الحواس رمز يستمد قيمته من ملاحظة الفنان لما بين معطيات الحواس المختلفة من علاقات». بيد أن السؤال الذي يطرح هنا هو: كيف يمكن استثمار الرمزية من أجل فهم أعمق للتجربة الدينية؟ الهوامش: [1] بول ريكور، الخطاب الديني بين الشعرية والرمزية، ترجمة عبدالمجيد خليفي، مدارات فلسفية عدد13 [2] بول ريكور، نظرية التأويل. ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، طبعة أولى 2003.ص.110. [3] اريك فروم، اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1992, ص.15. [4] عبدالمنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثالثة 2000، ص,. 384.385 [5] اريك فروم، اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ص.15 [6] اريك فروم، اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ص.16.24. [7] اريك فروم، اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ص.176. . [8]بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى،2005 ص.374 [9] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، معهد الإنماء العربي، بيروت، الطبعة الأولى1988، المجلد الثاني، ص.627 [10] فرديناند دي سوسير، دروس في الألسنية العامة، تعريب صالح القرمادي، محمد الشاوش، الدار العربية للكتاب، طرابلس، ليبيا، 1998، ص 113 [11]J. Chevalier, A.Gherbranti, Dictionnaire des Symboles, traduit par Jacques Ratel, Paris, Dessain et]Tolra, 1981, Page 09 [12] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية،ص.624-637. [13] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، ص.627. [14] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، ص.624-628 [15] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، ص.628. [16] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، ص.629.