يخطئ من يظن أن النجاح مرهون بمقدار ما نتحصله في حياتنا من محسوس نحوزه بين أيدينا، أو أن ضرورته تقتضي أن يكون العائد كبيراً وهامشه واسعاً بأية طريقة جاء، ومن أي سبل التوائية حصل.. لقد خاب من اقتنع أن الحياة لا نجاح فيها إلا إذا كان هذا النجاح كبيراً وبشكل كبير، وتعلمنا الأيام والأسوياء من الناس الذين أخذوا قسطاً وافراً من النجاح أن النجاح الكافي هو ما يحتاجه الإنسان وليس النجاح الزائف المراوغ الذي يفترس عمر الإنسان فيظل متعطشاً للمزيد دون أن يشعر بالارتواء. من يستطيع أن يقول لا في الوقت المناسب ويقاوم الشهرة والأضواء والثروة والجاه والسلطان؟ صحيح أنه لا سقف للطموحات في هذه الدنيا، لكن مقتضى الحكمة تدعونا إلى أن نكون منضبطين حتى في طموحنا إلى النجاح، فلا لف ولا دوران بحجة أن الغاية تبرر الوسيلة، خاصة وأن حقيقة الإنسان على الأرض أنه مزدوج التكوين، يحوي ما هو منظور وما هو غير منظور، يحوي الباطن كما الظاهر، فيستحيل تحقيق أي توازن دونما تحقيق توازن بين كل من الظاهر والباطن. جاء في حكم وقصص الصين القديمة أن ملكاً أراد أن يكافئ أحد مواطنيه فقال له: امتلك من الأرض كل المساحات التي تستطيع أن تقطعها سيراً على قدميك، فرح الرجل وشرع يزرع الأرض مسرعاً ومهرولاً في جنون.. سار مسافة طويلة فتعب وفكر أن يعود للملك ليمنحه المساحة التي قطعها.. ولكنه غيّر رأيه وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد. سار مسافات أطول وأطول وفكر في أن يعود للملك مكتفياً بما وصل إليه.. لكنه تردد مرة أخرى وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد والمزيد.. ظل الرجل يسير ويسير.. ولم يعد أبداً ، فقد ضل طريقه وضاع في الحياة، ويقال إنه وقع صريعاً من جراء الإنهاك والتعب، لم يمتلك شيئاً ولم يشعر بالاكتفاء والسعادة؛ لأنه لم يعرف حد الكفاية أو القناعة. متى نعي أن النجاح إذا كان نظيفاً وعفيفاً مبتعداً عن استلابه سلباً والتلصص عليه خفية؟ إنه النجاح الحقيقي حتى وإن كان بسيطاً ومتواضعاً إلا أنه سيكون له طعم خاص ومذاق رائق، ومثل هذا المفهوم يدلنا إلى أن أسوأ ما يحدث، أن يوجه المرء مجهوده واهتمامه لمنحىً واحد, فإهمال الأمور الأخرى يعني ترك فراغات قد حان وقت العمل عليها، وما ذلك إلا لأن الكيان يعمل كوحدة، وشحذ نشاطه وتسريعه يعني شحن ذبذباته وتسريعها كيفما وجهها صاحبها. ويحكى في هذا السياق أن أحد التجار أرسل ابنه لكي يتعلم سر السعادة لدى أحكم رجل في العالم، وعندما وصل أنصت الحكيم بانتباه إلى الشاب ثم قال له: الوقت لا يتسع الآن، وطلب منه أن يقوم بجولة داخل القصر ويعود لمقابلته بعد ساعتين.. وأضاف الحكيم وهو يقدم للفتى ملعقة صغيرة فيها نقطتان من الزيت: أمسك بهذه الملعقة في يدك طوال جولتك، وحاذر أن ينسكب منها الزيت...أخذ الفتى يصعد سلالم القصر ويهبط مثبتاً عينيه على الملعقة.. ثم رجع لمقابلة الحكيم الذي سأله: هل رأيت السجاد الفارسي في غرفة الطعام؟.. والحديقة الجميلة؟.. وهل استوقفتك المجلدات الجميلة في مكتبتي؟ ارتبك الفتى واعترف له بأنه لم ير شيئاً، فقد كان همه الأول ألا يسكب نقطتي الزيت من الملعقة، فقال الحكيم: ارجع وتعرف على معالم القصر، عاد الفتى يتجول في القصر منتبهاً هذه المرة إلى الروائع الفنية المعلقة على الجدران.. شاهد الحديقة والزهور الجميلة.. وعندما رجع إلى الحكيم قص عليه بالتفصيل ما رأى، فسأله الحكيم: ولكن أين قطرتا الزيت اللتان عهدت بهما إليك؟.. نظر الفتى إلى الملعقة فلاحظ أنهما انسكبتا.. فقال له الحكيم: تلك هي النصيحة التي أستطيع أن أسديها إليك.. سر السعادة هو أن ترى روائع الدنيا وتستمتع بها دون أن تسكب أبداً قطرتي الزيت. فهم الفتى مغزى القصة، فالسعادة هي حاصل ضرب التوازن بين الأشياء، وقطرتا الزيت هما الستر والصحة.. فهما التوليفة الناجحة ضد التعاسة. لست أدري لماذا يتعامى بعض الناس عن حقيقة مفادها أن التوجه ضمن منحى واحد وعدم الانفتاح على مناحٍ أخرى، وفي غياب الاعتدال يضيع التوازن، فقد قال إدوارد دي بونو: أفضل تعريف للتعاسة هو أنها تمثل الفجوة بين قدراتنا وتوقعاتنا، بمعنى أن التوازن الحياتي أولى الخطوات نحو النجاح، وبمعنى آخر كما وصفه البعض أنه وعند توجه المرء لإتمام أعماله في الحياة العملية الخارجية من منطلق مفهوم الباطن، حينئذ وحينئذ فقط يهون المسار ويختصر المجهود وتستولد الفرص ويخلق الوقت للعمل على مختلف مناحي الحياة. ونؤكد هنا أن تفعيل التوازن هو عمل دؤوب، متواصل ومستمر دائماً وأبداً, فالتوازن السليم هو ما يتأتى بعد تقييم التوازن في كل مرحلة ومتزامنة مع كل جديد وكل معرفة متقدمة على درب التطوّر في الوعي...إذ إن تحديد المرء للتوازن وتصوره له يختلف مع توسعه في المعرفة، وتعمقه في فهم قانون الحياة، وما يجب ألا يغيب عن البال أن عدم التوازن - أي الانقطاع أو الإفراط في تأدية عمل ما - قد يحوِّل حتى العمل الإيجابي إلى سلبي، وهذه حقيقة اسألوا عنها من لم يدم نجاحهم طويلاً لفهمهم الفوضوي عن النجاح الذي حسبوه بما يحووه في أيديهم.