ويتولد التأثير ذاته من عبارة “الصفائح الشوكية لمناشيره المهولة” التي تنقل إلى الحقل المعجمي لبستان مسالم وإلى معجم العدد الحرفية ما كان معبراً عنه من قبل في لغة حربية.. فالمنشار يمثل لدى الحرفي ما يمثله السيف بالنسبة للمحارب.. فتحويل الدال transcode قائم على مشابهة جزئية: خاصية القطع فيهما.إن الجملة الأخيرة كلها تعمل على إبراز الكلمة الأكثر لفتا للانتباه: المسحاة herse إنها لافتة للانتباه بداءة؛ لأنها تتجاوب في نطق الحرف h فيها مع hoplite فتكرر التقاء الحرفين الصائتين في (Ce hoplite) (sa herse) يعزز الصلة بينهما: الأولى تمثل الصورة المجازية للمحارب والثانية تمثل الكناية لتلك الصورة المجازية.. وتفوق المسحاة، بوصفها كناية، كثيراً، مجرد الأداة الزراعية التي هي دال عليها: فالمسحاة - أيضاً - تكتسب شراسة الصبار.. هذا ما تفعله على ثلاثة مستويات في الآن نفسه؛ ذلك أن كلمة مسحاة herse تعد مفصلاً من نوع ما، رابطة تتقاطع عندها ثلاثة سياقات دلالية، ثلاثة مشتركات من الأفكار التي تعود جميعها إلى الصبار.. وهو نوع الرابطة نفسه الذي وصل ما بين متواليتي السرعة والعجائبية في قصيدة رامبو.. ويتكئ الارتباط بالصبار على المعاني المعجمية الثلاثة لكلمة “المسحاة”: 1. “أداة من أدوات الزراعة مجهزة بصفوف من الأسنان”. يقول نص كلوديل: “سوف يظل يشهر مسحاته، صفاً وراء صف”. 2. شبكة التحصين، قضبان حديدية تستخدم لحماية مدخل حصن. وبذلك تستعمل المسحاة كناية عن التحصن.. والصبار، بافتقاره كلية لرقة وهشاشة النبات، يكون محصناً جيداً.. إن الكلمات (صاري، راية)، و(أحشاء آخر مربع) Le dernier carre ترتبط بالمعنى الثاني للمسحاة.. وعبارة “آخر مربع” مصطلح حربي مستمد من التكتيكات الحربية القديمة: حيث كان الجنود المشاة يصفون على شكل مربع كحصن بشري، فيصنعون بأجسادهم متراساً (عبارة “مربع واترلو الأخير” كليشيه مألوف للدلالة على خندق المقاومة الأخير). 3 - وأخيراً، يولد المعنى الثالث للمسحاة herse الصورة الوحيدة للصبار التي تفلت من مجاز الحرب وتعد في الحقيقة شاذة عنه: “الشمعدان المفر ع” [شمعدان الكنيسة أو المعبد] وهذا تمثيل دقيق للحالة النباتية، لأن جذع الصبار وأوراقه المنتشرة تمثل في الواقع صورة لقنديل ضخم ذي فروع عدة.. مخلصاً للواقع كما هو، وبعيداً عن الحرب أو ما يتعلق بها، لايزال هذا المعنى يكرر الثابت الشكلي مبتدئاً ب “المسحاة” herse، التي يتمثل معناها القاموسي الثالث في: “شمعدان الكنيسة الثلاثي بأسنان للإحكام على الشموع”. إن الكلمات المحورية في النص هي: كادموس Cadmus، البطل المحارب والذي يبذر البذور كذلك، والمسحاة herse التي عرضنا لمعانيها المتعددة تواً: تلك الكلمات تعطينا مفتاح النص كقصيدة نثر.. ومن خلال تلك الكلمات الركائز أو المحورية يتقاطع السياقان المحارب/النبات: وصيغة letendard enracine (الراية المغروسة) هي الصيغة النموذجية كشاهد، لأنها قاسم مشترك بين السياقين في الآن نفسه. إننا نرى الآن، في لعبة الانتقال هذه من شيء إلى شيء، أن كل الدوال تتلاقى في الوقت نفسه بمدلولات عدة.. فالنص يبدأ مع صورة للحرب وينتهي على النحو نفسه تقريباً. بيد أن هذا الافتراض لا يكون ظاهراً إلا من جهة المعنى.. ولكن فلنختبره من جهة الشكل.. يبدأ النص بكلمة «سن dent، السن الوحيد الذي له صلة بالموضوع في سياق نباتي لأنه السن الوحيد الذي يعني كذلك “البذرة”. وقد مضى النص بكلمة “سن” إلى مدى أبعد بواسطة “المسحاة”: بأسنانها الحادة في معانيها الثلاثة.. مرادف متصل بالنظم يسري خلال الصور والأصوات المتنوعة لهذين المتواليتين أو السياقين المزدوجين.. فالمتواليات تجعل من النص تنويعة على موتيفة واحدة، موتيفة تواؤمها ذو صياغة مركبة من خلال التعبير المتداول: الصبار محارب “مدجج بالسلاح حتى الأسنان”. هذا المقطع الشعري المكتفي بذاته يمثل فكرة خيالية عن قتالية النبات، وتشكل جزءاً من قصيدة أكبر بعنوان “ساعات في البستان”. والمقطع اللاحق عليه هو تأمل فلسفي.. وهو معقد في تركيبه مثله مثل الصبار، ومتصل بصورة مماثلة مع النص.. فالبستان يعد مسرحاً للتأمل وساحة للتجوال في الوقت نفسه.. فمنذ المشائين (7)، صار التجوال دالاً على التأمل. ومن الجانب الآخر - ولوجاً إلى صلب الموضوع، وبالأحرى استكشافاً لمشكلة ما - يكون ممثلاً بصيغة تقليدية بأن يكون اتجاهه نزولاً، حيث تخفي الحقيقة، في أمثولة شهيرة، في قاع بئر.. يتحدث فيكتور هوجو عن “انحدار الخيال” بما يشتمل على المنحدر، والانحدار، والسلم الحلزوني الداخلي، تلك الصور المفضلة عن الخيال منذ الرومانسيين.. وقد استخدم كلوديل السلم الحلزوني في عمل آخر من أعماله، في كتابه Dutch painting إنه يصف لوحة الفيلسوف لرمبرانت ويدون ملاحظة على هامش الصورة، عن السلم الحلزوني الرمزي: الطريق المستخدم ليؤدي بالابن الضال إلى التلاشي في الأفق، قد طوته لوحة رمبرانت، جعلت منه سلماً حلزونياً، هذا الحلزون الذي يوظفه للهبوط درجة درجة إلى أعماق التأمل. إن كلمة “الحلزوني” cochleaire صفة من حلزونة cochlea أو قوقعة، وهو مصطلح طبي يدل على الجزء الحلزوني من الأذن الداخلية.. فحين يصف كلوديل اللوحة، فإنه يصف معاً وفي الوقت نفسه السلم الحلزوني الرمزي والأذن المستقيمة للفيلسوف متيقظ الذهن. ولنعد إلى البستان حيث ينمو الصبار، وحيث تجوال الفيلسوف.. ذلك البستان له شكل شديد الغرابة؛ فهو ليس متعرجاً على شاكلة البستان الإنجليزي، ولا هو هندسي على شاكلة البستان الفرنسي.. إنه ممر يتخذ شكلاً حلزونياً، وينتهي هذا الشكل الحلزوني ببئر.. وبالضرورة ستخمن الكلمات التي يستخدمها كلوديل لوصفه: “الحلزون الذي ينطوي على ممر دائماً ما يردني مرة أخرى لنقطة محورية محددة، كما في لعبة الإوزة، مرتداً إلى أكثر الأماكن سرية، إلى جانب البئر”. إن هذا مقطع تام.. وتقوم وحدته على حقيقة كونه صورة للتأمل، وإصغاء ميتافيزيقيا للكون.. إن تنويعاً مجازياً على كلمة “فيلسوف” Philosophe يقوم بتحويل هذه الصورة: فهو مشاء (مشي البستان)، وهو متيقظ الذهن، وما ورائي ميتافيزيقي (السلم الحلزوني، والبئر). وختاماً، فقد نوعت في النماذج التي قدمتها بغرض أن أوحي بتعددية الأشكال التي يمكن أن تتخذها قصيدة النثر.. لم أدع، بأية حال، أنني أشرت إلى كل الاحتمالات لها، ولاسقت أية فكرة عن كل أصنافها.. ولكن في داخل الحدود المفترضة بالضرورة، فإن هذه النصوص تمتلك كل الثوابت المبينة التي تختلف من نص إلى آخر، بالرغم من أنها كلها تشترك في خاصية الشكل والمحتوى الواصل بينها على نحو لا يمكن التنصل منه، وجعل تكوين المعنى تابعاً لتكرار شكل ما أو التنويع على هذا الشكل.. هذه التبعية بحد ذاتها من شأنها أن تكون كفيلة بإثبات أن هذه القطع النثرية مبنية كقصائد. وأحب أن أمضي لمدى أبعد.. إن قصيدة النثر يمكن تمييزها على الفور؛ فالنص غير منظوم ومع ذلك فالقارىء يشعر بوحدة الشكل فيه كما لو أن له قالباً نثرياً. ومن ثم فإنني أسوق الطرح التالي: إن الفارق بين قصيدة النثر وقصيدة النظم يتمثل في أنه في هذه الأخيرة تكون للقالب الشكلي خصائص دائمة مخصصة لكل الأغراض التي يحتويها، ولكل النصوص التي يرغب المؤلف في إدراجها فيه.. أما في قصيدة النثر، وعلى العكس من القصيدة المنظومة، فالقالب مخلوق ومرتجل لهذا الغرض بالذات، مبني على أساس المحتوى الموضوع فيه وموائماً ومتشكلاً عليه، تماماً كما يكون المحتوى موائماً ومتشكلاً على النظم في القصيدة المنظومة. إن الثابت المخلوق والمرتجل لهذا الغرض هو ما يحل محل النظم.. الثابت الذي ليس مصنعاً سلفاً كما في طريقة النظم.. وهو ليس سابقاً على النص مثلما الحال في العروض.. إنه يخلق هيكله في النص في اللحظة التي يتم فيها إدراك عناصر متكافئة مع بعضها البعض بفضل المعنى، على الرغم من الاختلافات في السطح الظاهري: ومتكافئة مع بعضها البعض بفضل الشكل، بالرغم من الاختلافات في المعنى. فهذا الثابت ليس موضوعاً من قبل التقاليد المتوارثة، كما في الوزن السكندري والوزن عشري المقاطع؛ إنما يتم خلقه بفعل التنظيم الداخلي الخاص للنص.. ويبقى الثابت كما هو من بداية النص وحتى نهايته.. تماماً كما يظل النظم كما هو، يمكن إدراكه دائماً، بغض النظر عن أية كلمات يمكنها أن تعطيه تعينه المتجسّد. الهوامش (1) تكرار الكلمة ذاتها في أوائل الجمل أو الأبيات المتعاقبة. (2) الثوابت هنا بالمعنى الرياضي للمصطلح؛ حيث الثابت هو القيمة الثابتة التي لا تتغير في المعادلة. [المترجم] (3) إشارة إلى يوحنا المعمدان، الصوت الصارخ في البرية. (4) البومبونة pompon: كتلة أو كرة من ريش أو حرير توضع للزينة في مقدمة بعض قبعات الجند. [المترجم] (5) تشير الكلمة في حالة الإفراد، سواء في الفرنسية orniere أو في الإنجليزية rut، إلى الدورة النزوية عند الحيوان أو إلى حالة الاهتياج الجنسي عند بعض الحيوانات. [المترجم] (6) ربما يكون هناك تفسير آخر لعدم استخدام الشاعر كلوديل للكلمة الصحيحة agave للدلالة على هذا النوع من الصبار غير كونه خطأ شائعاً كما فسّرته هيرمين ريفاتير، ففي الأسطورة الإغريقية أن لكادموس أربع بنات إحداهن تدعى Agave، وهو الاسم نفسه لذلك النوع من الصبار الذي تشير إليه المؤلفة، فربما لم يرد الشاعر استخدام هذا الاسم حتى لا يفسر بناء على علاقته بابنة كادموس في الأسطورة الاغريقية فيغير ما قصد إليه في تصوير الصبار في القصيدة. [المترجم] (7) أتباع أرسطو الذين كانوا يتعلمون معه وهم يتجولون [المترجم].