كانا يتجولان في الحديقة العامة ،جلسا على أحد المقاعد الخشبية , وهناك أمسك بيدها النحيلة،نظر، إليها بحب ، تحول نظرهُ إلى يدها، ثم قال : - سأقرأ لكِ الكف فأنا بارع في ذلك . لا زالت الدهشة تسيطر عليها، والعرق يتصبب من جبينها، أخذت توبخ نفسها في صمت: “لابد أنّي أخطأت عندما وافقت على الخروج معه “ شرع في قراءة خطوط كفها الأيسر، أشار إلى الخط الأول، وقال: - هذا خط الحب، ثم دقق النظر وأضاف لابد أنكِ مررتِ بتجارب كثيرة ومتنوعة، لكنها كانت مؤلمة وفاشلة. بدأ قلبها يخفق بشده : + “لا لن أصمد أمام هذه الكلمات التي تنكىء جروحي” . تظاهرت بالدهشة والعجب، ثم قالت : صحيح ؟!... وما الذي يجعلك َمتأكداً أيها العبقري ؟! أجابها في ثقة : لأنهُ شديد التعّرج وحافل بالرتوش . ثم انصرف لمتابعة القراءة، هذا هو خط الحياة، ستعيشين حياة صاخبة، ومليئة بالأحداث، وستتزوجين برجل تحبينهُ، وسترزقين بثلاثة إ أولاد، ، ربما قد أحدهم يموت .! انتفضت من على الكرسي، سحبت يدها عن يدهِ ، وقالت مذعورة: - “ولماذا “.؟! أجابها مبتسماً: - لا تخافي؛ فهذا كله من علم الغيب، والأعمار بيد الله وحده. تناول يدها من جديد، وراح يقرأ لها المزيد : أصبحت أرى بوضوح ؛فالخوف ساعد على ضخ الدماء إلى عروقكِ ، ثم أشار إلى الخط الثالث ،وقال : -هذا هو خط المال، اتسعت عينيه، وفرك إبهامهُ على الخط، وأردف فرحاً: يبدو أن السنوات القادمة ستحمل لك الخير الكثير، ستعيشين في نعمة ،وتموتين في فراش وثير وستعطى مما أعطاك الله. أحجم عن القراءة فجأة، يبدوا أنهُ قد انتهى، توقعت أن يترك يدها، لكنه رفعها عالياً حتى قابلت كفها قرص الشمس, ثم صرخ كأنه فاقد للشعور: يدك تشبه يدها...روحكِ قبساً من روحها أنتِ هي... أجل أنتِ هي. أجابتهُ مندهشة: من ؟ (أنستازية ) (أنستازية) مَنْ ؟! حبيبتي... لكنها كانت تهتم بتقليم أظافرها، تحرص على أناقة هندامها ،لم تعد تفهم شيئاً مما يقولهُ، بدأت تشعر بالذنب والندم ؛ لأنها وافقت على الخروج معهُ ،وهو أستاذها في الجامعة،ينتابها الخوف ، تخشى أن يراها أحداً بصحبته؛ فيشي بهما، قطع سلسلة مخاوفها صوتهُ المحتج: ألا تصدقين أنَكِ تشبهينها ؟ َمنْ ؟! (أنستازية ) وكيف لي أن أصدقكَ... فأنا لا أعرف (أنستازية) هذه؟! قال معللاً: لقد قابلتها هناك قبل ثلاثين عاماً. أجابتهُ محاولة الاستفهام : ها .. أين ؟ -في بلاد الثلج، بلاد القبعات الصوفية، والمعاطف الثقيلة، لكني خذلتها.. نعم خذلتها ، فقد كنت مضطراً إلى العودة إلى بلدي بعد أن أنهيت دراستي هناك ، لم أتمكن من اصطحابها معي، لذا تركتها في حديقة تشبه هذه الحديقة ، واليوم هأنذا أعود لأخذكِ معي . أجابت حنقه، مستهجنة الجنون الذي هو عليه: لكني لست (أنستازية) أنا فتاة في عمر ابنتك ، مجرد تلميذة تقوم بتدريسها في الجامعة ، أنا لن أكون هي ،فأنا لا أعرف ( أنستازية ) و(أنستازية ) لاتعرفني . خيم الصمت بعد أن احتدم الجدل، أخذت تمعن النظر في ملامحه الحنونة، ومعطفهُ الأنيق، وحذائه اللامع، وبدأت تغفر لنفسها انجذابها إليه، لكن عيناه المتعبتان، ذوات الهالة السوداء تحتهما، أثارتا في نفسها التساؤل عن مصدرهما. بعد لحظات كان قد استجمع شتاته المبعثر من بلاد الثلج وهنا حيث هما، وطلب منها بعبارات رقيقة العفو عنه، كونه خرج عن النطاق في حديثهِ معها. هزت رأسها عدة مرات مقدرة وضعه وانفعاله، ثم باغتها بسؤال، كأنَما قد تسلل إلى نفسها، وقال: هل تعرفين ما سبب هذه الهالة السوداء تحت عيني؟ أجابتهُ مؤكدة ً: لا. أجابها وقد بدأ العرق يتصبب منه ،وينداح على جبينه وفوديه. إنَي مصاب بتهدل في شرايين القلب . أخرجت من حقيبتها منديلاً قماشياً ثم ناولته إياه ، حينها كان موعد اللقاء قد أوشك على النهاية ، استقلا الحافلة قافلين , وقد تحول الظل إلى ظلين، وعلى متن الحافلة كانت تجلس إلى جواره مغفلة الأنظار المحملقة بهما ، بادر إلى إعادة المنديل إليها مع اقتراب الموقف، لكنها طلبت منه الاحتفاظ به كذكرى من (أنستازية ) . آذار/2007