لليمن السعيد عادات وتقاليد مميزة في توديع واستقبال حجيجها، وتتباين هذه التقاليد من منطقة إلى أخرى من مناطق اليمن ،الأمر الذي يصنع موروثا دينيا غنيا ،ولكن مع الأسف جاءت التقنيات الحديثة والقنوات الفضائية فالتهمت هذه العادات الفرائحية التي كان ينتظرها الناس بفارغ الصبر فأضحى الناس حبيسي مكاتبهم وتلفزيوناتهم...صحيفة الجمهورية زارت إحدى مناطق اليمن الذي اندثر جزءا من هذا الموروث فيها فبقت في أذهان الذين عاشوها يتحسرون على تلك العادات كلما جاء موسم حج. الزمن الجميل قبل سنوات ليست بالبعيدة كانت قرى ناحية السياني وفي زمن الاستعداد للحج تلبس حلة قشيبة من السعادة ،فتمتزج الدفوف بالطبول والملابس البيضاء الملونة في أيام كلها أعياد،يعيش فيها الحجاج ملوكا في تيجان من السعادة ،تحملهم الأكف والأعناق من سهل الى وادي ،وتتردد الأشعار الدينية والشعبية ،كما تزدحم المقايل بذكر الله ، يقول الفقيه علي محمد غالب: كان الحاج يعيش لحظات فرائحية قلما ان يجدها حتى في يوم زفافه، وكانت الدفوف والأكف المصفقة تشارك هذه الفرحة، ويهيم الفقيه علي متذكرا الشاعر اليمني الراحل عبد الرحيم البرعي الذي تربعت قصائده النبوية على كل لسان فصارت اناشيدا يترنم بها الصغار والكبار والرجال والنساء على حد سواء: ياراحلين إلى منى بقيادي هيجتموا يوم الرحيل فؤادي سرتم وسار دليلكم ياوحشتي الشوق أقلقني وصوت الحادي أحرمتموا جفني المنام ببعدكم ياساكنين المنحنى والوادي ويلوح لي مابين زمزم والصفا عند المقام سمعت صوت منادي ويقول لي يا نائماً جد السرى عرفات تجلو كل قلب صادي من نال من عرفات نظرة نال السرور ونال كل مرادي تالله ما أحلى المبيت بمنى في ليل عيدٍ أبرك الأعيادي ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها وأنا المتيم قد نحرت فؤادي لبسوا الثياب البيض شارات اللقا وأنا الملوع قد لبست سوادي يارب أنت وصلتهم وقطعتني فبحقهم يارب فك قيادي فإذا وصلتم سالمين فبلغوا مني السلام أهل ذاك الوادي بالله يازوار قبر محمد من كان دائماً منكم أو غادي بلغوا المختار ألف تحية من عاشق متقطع الأكبادي قولوا له عبدالرحيم متيم ومفارق الأحباب والأولادي صلى عليك الله ياعلم الهدى ماسار ركب أو ترنم حادي ويهز الفقيه علي رأسه بموسيقى متناغمة وهو يردد هذه القصيدة ،وتراءت على مآقيه دموع متلالئة تستجدي اياما خضر قد رحلت ودفنها الجيل الجديد في سراديب النسيان ،ثم يستطرد في سياق حديثه بالقول: كان الناس يذهبون الى منزل الحاج لتوديعه جماعات جماعات وكل جماعة تردد قصائد معينة ،فيما يقوم الحاج بتوديع هؤلاء الناس الذين يهرعون اليه من شتى القرى ويعرج في زيارته على أرحامه وأقاربه وثياب بيضاء ناصعة يرتديها ،وعند الوداع يستعد جميع الناس وعلى صعيد واحد فقير وغني وصغير وكبير وذكر وأنثى لتوديعه ،فيقطعون مسافات طويلة إلى جانبه لتودعيه ودموع غزيرة تنساب على المآقي ،وهي نابعة من قلوب صافية لا يكسوها غبار الأحقاد والاضغان والحسد ،نعم كانت قلوب صافية نقية كالبللور،وكان كل شخص يشعر بالحزن الصادق و الشديد لفراق هذا الحاج او ذاك بغظ النظر عن قرابته به ،بل ان الحزن يلتحم ليشمل قرى مجاورة وبعيدة تشارك في هذا الوداع الحزين ،وتمر الايام وجميع الناس مترقبين عودة حجاج القرى ،وهم يدعون لهم بالعودة سالمين غانمين ،ومنتظرين كذلك مايعودون به من هدايا رمزية طعم اخر للعودة ويطلق الفقيه علي محمد غالب حسرة ملتهبة وهو يردد: كان لعودة الحاج طعم آخر يتذوقه كل الذين فارقوه والذين انتظروا عودته بفارغ الصبر،وكانت كل القرى تنتظره وعلى مسافات بعيدة من مسقط راس الحاج أو قريته يهرع الجميع لاستقباله بالرقصات والأهازيج والأناشيد ،وتستمر الطبول والدفوف تقرع وهو محمول على الأعناق تارة ويمضي على أقدامه بين المستقبلين تارة أخرى ،وعند وصوله المنزل يقوم بتوزيع الهدايا من مسابح وكوافي بيضاء وماء زمزم ،كما يتم توزيع الحلويات على الأطفال وتتساوى الأفراح في هذه المناسبة عند الصغار والكبار وهي أفراح حقيقية لا يشوبها أي كدر،وبعدها تتزاحم الأكلات الدسمة في كل المنازل التي تستضيف الحاج لتهنئته ،وفي المقيل يكثر ذكر المصطفى صلى الل عليه وسلم ،وتتوارد الأسئلة على الحاج الذي يجيب على كل ما يتعلق برحلته الى مكةالمكرمة. حجاج بيت الله محمد قايد صالح هو الآخر لم يستطع أن يمنع تنهيدة انطلقت حارة من أعماقه واطرق مليا كأنما يعيش ذكريات جميلة ،ثم أردف يقول: تلك ايام حقيقية عشناها بلا كدر ولاهم ،فكان احدنا يتمنى ان يكون حاجا اكثر من ان يتمنى ان يكون عريس ،فالحاج له شان كبير ،وله احتفالات وتقاليد تمتد لعدة ايام غدوه الى الحج ورواحه منه،وكثيرا من الناس الذين كثرت سنوات حجهم الى بيت الله الحرام أطلق عليهم اسم الحاج ،فظل هذا اللقب المميز مرافقا لأسمائهم حتى مماتهم وانتقل إلى أبنائهم مثل الحاج علي فجاء ابنه واسمي صادق الحاج علي ،وآخرين كثيرين كالحاج احمد والحاج غانم رحمهم الله،وبالعودة الى هاتيك الايام الخضر فإنني اشعر بالحسرة عليها لأنها ايام حقيقية عشتها من عمري على عكس هذه الايام الجافة التي يغدو ويروح الحاج دون ان يدرك احدا بذهابه الى الحج من عدمه وان درى احد فلا يقيم للموضوع أي اعتبار فأضحت الايام تمر في قالب من السام ،ولا تكاد الفرحة البسيطة تتجاوز الساعات الأولى من العيد وللأطفال فقط ، اما الكبار فقد اضحوا يعيشون بلا فرح ، وحتى توزيع أضحية العيد يتقاسمه الجميع دون ان يلتفت احد لفقير او مسكين ،على عكس زمان فقد كانت الأضحية خاصة بالفقراء والمساكين أكثر من غيرهم ولا توزع في الأولوية الا لهم ،وحتى عند استقبال الحاج يذهب النصيب الأكبر للفقراء والمحتاجين الذين كان العيد لأجلهم ،ومن هنا كان ينشا التكافل الاجتماعي ،كما ان الأفراح والأناشيد والرقصات التي ترافق ذهاب الحاج وعودته كانت تبعث الألفة بين القلوب فلا يبقى مكان للحسد والحقد ،وكان اعتقاد الناس ان الحاج يعود صافيا من الذنوب فيصير قلبه ابيضا صافيا خاليا من الذنوب التي غسلها في الحج ،وهكذا كان الحاج عند حسن ظن الجميع ،ويمضي محمد قايد مستطردا في سياق حديثه بالقول: رعى الله هاتيك الأيام الحلوة والجميلة ،لقد كانت رائعة وصافية ونقية بكل ما للكلمة من معنى ،فيا ليت أيام الصفاء تعود. أسير في دروب القرى المتناثرة والخالية من أي فرح بموسم الحج فيمر عليها الموسم كما تمر بقية الأيام الأخرى خاليا من الفرح وفي قالب من السأم ،وأحاول ان أفتش في ذاكرتي عن فرح صنعه لنا هذا الجيل حتى نعيشه بلا منغصات، فأجد أن الأيام ليست أكثر من قالب عملاق من السام تستوي فيها أعياده الدينية.