تصدح المقدمة الموسيقية لأغنية عبدالحليم حافظ (قلي حاجة) ذات مساء، وأنا، لست أنا، ذهني شارد، وعيني مثل ذهني، فهي أينما كان، كانت وذهني لست أدري، أين شارد؟.. لحظات الشرود وكثيرة.. شرود عن الحاضر، إلى الماضي، أو المستقبل.. شرود عن المكان والزمان، وشرود عن الزمان إلى المجهول، مجهول لا زمان له ولا مكان ، وذهني الشارد في المجهول نرعته المقدمة، إلى حيث كنت ذات مساء ولى منذ زمن بعيد .. ربما عشرون سنة ونيفاً، وربما ثلاثون .. لا أدري لأ أدري، ولكني أدري أين كنت .. نقلتني إلى ما كنت اسمع بعدها. - من : نجوى وليلى، وسامية' إلى سميرة بمناسبة الخطوية. - من : سلوى، وفردوس ، ونجيبة إلى بشرى بمناسبة المولود، ويتربى في عز والديه. - من : رقية، وصباح، وعائشة، إلى بلقيس بمناسبة الدخول إلى القفص الذهبي مع باقة الفل والياسمين. - من : محمد، علي، وأحمد إلى أسعد بمناسبة النجاح في الثانوية العامة. - من : سعيد، مسعد، ومسعود إلى سعيد بمناسبة الوصول إلى أرض الوطن بسلامة الله وحفظه.. ذهني الذي نقلني يعيدني اليّ الآن، صدحت المقدمة الموسيقية لأغنية سواح.. الذهن الذي نقلنا من الحاضر إلى الماضي بأقل من ثانية، نفاذ العبير، وتلاشي النغمات، قد أعادني ، ومقدمة سواح تصدح .. يالها من صدفة فقد كانت سياحة، وذهني يعود بي إلى ذلك الزمان الجميل ، وصوته جزء منه، فأين هو ؟ والتلفزيون قد فرق بيننا وبينه، وفرق بيننا، وبينه هموم ومشاغل الحياة، وكلما مرت السنين، وهي السنين، زادت هموم الحياة، كأنها والهموم في سباق محموم، لا ينتهي إلا بنهاية السنين، ولكنه ذهني يعيدني إليه، فإذا الفارق بيني وبينه، هو الفارق بين الصوت والصدى، وقد أعادني إلى الصدى، وأنا الآن وصدى صوت عبدالحليم يرن في أذني، فهو من الزمن الجميل.. ذهب عبدالحليم وبقي الصدى فلم يذهب مادام الصدى،كم هو عظيم العلم وهو يحفظ لنا الصدى والرسوم .. لم أعد إلى زمن سواح الجميل، فقد كان مشغولاً بالسؤال: أين هو ؟ وإذا مازال هو ، فهل مازال كما كان هو؟ فإذا أنا بكل حواسي أبحث عن الاجابة على السؤال، فلم يعد ذهني شارداً مادام السؤال، سألت وسألت، حتى عثرت على الإجابة: - - أين هو ؟ - حيث هو قلت (دهشاً): - قصدك : حيث ماكان .. رد (مستغرباً): - - وكأنك لا تسمعها، فهو حيث ما كان .. شعرت بالاحراج من رده، كنت غنياً عن السؤال، وهو ان ضغطت على الزر، وأدرت عجلة الشوكة أجابني هو .. كما تغيب عنا أشياء، وهي أقرب إلينا من حبل الوريد، وكم هي المعلومة قريبة في عصر الانترنت، فأغنانا عن السؤال، وكم كنت غنيا عن السؤال ، وأنا أعثر عليه بضغطة زر وتحريك شوكه، عرفت الموعد وأنتظر بلهفة وشوق من ينتظر عزيزاً عليه سيعود بعد غياب طويل، وأنا من غبت، فهي لهفة، وشوق من يعود بعد غياب طويل.. حل الموعد والذبذبات نقلها الأثير وجمعها الراديو فإذا صوتها يعلن عن إطلاق البرنامج عبر الاثير .. المقدمة بعينها .. تنتهي المقدمة، ويطل صوته ، فتصغي أذني .. ليته وصورته حتى أعرفه .. صوته هو هو، وكأني وهو قد عدنا قبل ان نفترق .. الاهداء هو الإهداء، والمناسبات هي المناسبات، والجمل هي الجمل ، والأغاني هي الأغاني وكأنهم قد عادوا كما كانوا قبل أن نفترق .. شعور غامر بالسعادة يلفني، وأنا الآن هم ، وهو هو ، وابتسامة الأمل تشرق في وجهي فمازال هناك من يفرح ويهدي، وأنا من اطفئ نتن الحاضر فرحته، والبسمة .. ما أسعدني الآن، وصوته ينساب ، فكيف حاله قبل أن ينساب ؟.. وكيف استطاع ان يحافظ على بريق صوته الذي أعرفه قبل أن أتركه .. سؤال طرح نفسه وهو ينساب .. سؤال ربما عقلي الباطن .. كثيرة هي الاسئلة وكثيرة هي الأفكار، وأنا في حالة انسجام ، فتخرجني منه إليها، وفي هذه المرة هربت منها إليه .. هربني الأمل وهربتني الفرحة، وأنا الذي لا يستطيع ان يهرب .. ينتهي، ويعود السؤال، وكأنه قد اشفق للحظات لم تزد على ماهو مقرر له .. لم يطرح وحسب، ولكن يلح، والإجابة عليه تخرج من عصر الزر والانترنت، فليس له عندها مكان، ولا أريد أن أسأل حتى لا أوقع، ولا أقع في حرج السؤال، وحرج الإجابة ، فهي إرادة مشلولة، وذهني إرادة حرة، فيرسم الإجابة: قبل ان يجلس أمام من سيلتقط نبرات صوته وينقلها عبر الاثير ، ينزع عن جسمه معطف الحاضر، ويلبس معطفاً لفه، وحفظه داخل الدولاب لفه حتى يصون نبرات صوته من نتن الحاضر ويلبسه حتى يهرب إلى عبق الماضي .. إجابة قاسية تمنيت لو لم تكن، ولكنها قد أسقطت أمنيتي وهو يطل .. أمنية تبعث وأمنية تسقط .. الأمنية (أمنية) فما نيل المطالب بالتمني، وما سقطت سقطت، لم أعد أتمنى ان تطل صورته، يكفي صوته فقد أقع في فخ الإجابة فأفقد لحظات السعادة والأمل وهارب، ولا حانب (متورط). يوليو2008