رأيته شارداً غير آبهٍ بأحد من حوله ونظراته تخترق الحواجز والجدران القريبة لتصل إلى آفاق شروده التي تجلت أمامه في لحظات اجترار الذكريات.. بالصوت والصورة مرّ شريط الذكرى فإذا به يتجول في الحقول المزروعة بأنواع من الخضروات والفواكه والحبوب وصوت خرير الماء ينساب على مسامع الذكرى فيعيده بقوة إلى تلك الأيام وتأخذه اللحظات فينسى أنه جالس على كرسي المقهى وكأس الشاي مل الانتظار فصار بارداً.. فجأة يكتشف أنه في المقهى وفي شارع من شوارع العاصمة، حيث لا مزارع ولا مياه تتدفق ولا أصوات للطيور والمواشي بل ضجيج سيارات وهدير موتورات وصياح بشر لا تدري ما سر كل ذلك الصياح في الشوارع والأسواق وفي المقاهي.. أفاق الرجل من سبات الشرود والذكرى وتلفّت حوله وكأنه لايريد أن يعلم من حوله بلحظات شروده القليلة في عددها والطويلة بما مرّت على ذاكرته من ذكريات وأحداث، التفت نحوي فأدرك أني انتبهت لشروده وعودته فقاطعته بالسؤال عن حاله فأجاب: الحمدلله على كل حال.. كنت حريصاً كل الحرص بأن أدفعه للحديث عن لحظات شروده وذكرياته التي داهمته في المقهى دون سابق إنذار فأنسته المكان والزمن وأخذته عن كل ماحوله.. خلال دقائق معدودة حكى لي أنه كان مزارعاً في قريته حيث الماء والخضرة والوجه الحسن، قبل أن يصبح ماء القرية غوراً فتجفّ مياه الغيول وتشحّ مياه الآبار وتباع المواشي وتهاجر الطيور إلى حيث هداها الله أن تهاجر ولم يعد في القرية مايدعوه للبقاء ففكر بالهجرة إلى المدينة لعله يجد عملاً يقتات منه لقمة عيشه.. لم تمض سوى أيام قليلة على وصوله إلى المدينة الغارقة في الازعاج والضجيج وأكثر الأصوات إزعاجاً في نظره أصوات(الموتورات) التي يفوق عددها كل التوقعات. واقع الحال في المدينة فتح أبواب الذكريات.. ذكريات الزراعة والمطر ونمط الحياة الجميل في ظل علاقة وطيدة مع التراب والماء والمهنة التي انقرضت بسبب الجفاف وقلة الأمطار وفي سياق حديثه قال: لو كان في سدود كان الماء سيبقى!! كلام قاله من باب الأمنيات، لكنه على درجة من الأهمية للحفاظ على المياه السطحية والجوفية.. غادر الرجل المكان وهو يرى كل الأبواب مغلقة في المدينة حيث لم يستطع أن يقيم علاقة مودة مع البقاء فيها وهو محق في ذلك، فمن كانت علاقته طيبة بالأرض والزراعة وخرير المياه وأصوات العصافير والطيور والحيوانات لايمكنه أن يتعايش مع البيئة الاسمنتية الجامدة من حوله في المدن ولايمكنه أن يقارن أصوات الطيور بأصوات (الموتورات) عالية الازعاج التي لاتحترم قواعد السير وآداب المرور ناهيك عن أصوات البشر المجردة من كل آداب الحديث والتخاطب. هذه الحكاية جديرة بالتأمل والتفكير فهي ليست حكاية صاحبها لكنها عبرة للكثير من الناس بل لجميعهم ليفكروا بصورة مختلفة في ما يتعلق بالماء والسدود وأساليب وطرق الاستهلاك اليومي للمياه التي تهدد ما تبقى من مخزون وتفتح أبواباً لأزمات أكثر خطورة تبدأ بالهجرة إلى المدن وتتعاظم بعدم وجود فرص للعمل بديلة لفرص الأعمال التي يهدرها ويفنيها الجفاف ويصادرها التصحر في القرى والأرياف والوديان وأسوأ من ذلك أن تصل الأزمة إلى حد مياه الشرب ولابأس أن تأتي هذه الحكاية مع اليوم العالمي للمياه.