في العادة يفتش “الجمهور” عن ما يشبهه ليطمئن إليه، أو ليقربه من تصوره لنفسه و للحياة، أو ما أرادوا أن يكونوا عليه ربما. لهذا يكون رواج الفنان بين الناس متصلاً في جزء كبير منه بهذه الفكرة: أن يكونوا هم البطل في الشاشة، والفنان انعكاس لصورتهم ومشاعرهم، ليست المسألة بالضرورة استلاباً للفنان، ولكنها تتعلق بشروط عمل أكثر حساسية لتوقع الناس بشكل لا يتنافى مع مهاراته وتصوره لاستقلاليته. يمكن القياس في ذلك على نموذج احمد زكي، الذي ارتبط جزء كبير من حضوره بالفكرة الرومانسية عن الرجل “العصامي”، والذي أسس “نجوميته” على امتياز الموهبة ودون اتكال على فكرة من قبيل “فتى الشاشة الوسيم”، أو تذرع بالكوميديا و(التهريج) باعتبارها المنفذ الأسهل إلى الجمهور. تقرب المخيلة العامة احمد زكي من الصورة المصرية الشعبية الشائعة، ملامح ابن البلد “الغلبان” ولكن المثابر و الرومانسي أيضاً، تبدو ملامحه قريبة للناس ويمكن عبرها التعرف على صورة الكثير منهم، ذلك محبب للغاية ويمنح نوعاً من الألفة تجاه شخصيته كفنان أو إنسان، علاوة على ذلك كان أحمد زكي ذا مهارة عالية في صياغة تجربة سينمائية شخصية غلب على أدواره تمثيل “المصري اللي تحت”، واستحضر في تجربته الشغف غير المعقد للفرد البسيط الذي يتمسك بأي فرصة تنقله للأعلى، بكل التصورات الرومانسية لهذه الفكرة وامتدادها في الحلم اليومي للملايين. تبدو سيرته الشخصية أيضاً تمثيلاً حقيقياً لهذا الدور السينمائي الممتد بأشكال مختلفة في تجربته: الفرد البسيط الذي أصبح “فوق” أخيرا، ذلك جعله أقرب إلى الناس، و أكثر التصاقاً بالحلم الشخصي للعديد منهم. في مستوى آخر تبدو مغامرات احمد زكي السينمائية الأخيرة جزءاً من رصيده الأهم، ذلك حاصل في فيلم مثل “ناصر56” الذي استطاع أن يلتقط بحساسية عالية ملامح مرحلة مهمة في مصر عبر أهم رموزها آنذاك “جمال عبد الناصر”، لقد كانت قدرته على التكيف بمهارة عالية مع دور “ناصر”، وبتكلف اقل من التجارب السينمائية السابقة التي تم فيها تأدية دور “ناصر”، وتقديمه بشكل قريب مما يراه الناس ويحبونه تجسيدا لمهارته العالية كممثل سينمائي. الأمر كان أكثر تعقيداً حين أدى دور “أنور السادات” في فيلم “أيام السادات”، حيث يبدو الأخير شخصية أكثر درامية من “ناصر”، وكون صورة “السادات” ليست مستقرة على تقدير جماهيري واحد. كان ناجحاً في تقديم “السادات” رغم أن تمدد الفيلم الزمني في حياة “السادات” بأكملها قد اضعف تركيز احمد زكي على طور واحد من شخصيته، كما فعل في فيلم “ناصر”، وهو ما جعل كثافة الشخصية بمعنى ما اقل في أدائه، وقرب هذا الأداء في كثير من الأحيان من التقمص للملامح والحركات بدل الاندماج في التعبير الحميم عن شخصية الرجل. تتوقف حياة احمد زكي عن الاستمرارية بشكل درامي ومؤثر، لقد انتهى بالسرطان وهو يؤدي آخر أدواره كفنان سينمائي، كان الفيلم اسمه “حليم” ويتعلق بسيرة الفنان “عبد الحليم حافظ”، وكان “زكي” يعلن استمرار عن حلمه في تأدية هذا الدور. في المسألة رومانسية كثيفة، ويبدو التقاطع بين الشخصيتين “حليم، وزكي” مؤثراً بشكل حقيقي. ينتمي الاثنان لنفس الجذر الاجتماعي البسيط، وقصة صعودهما و نجاحهما الفني تكثيف لتحول اجتماعي مصري قصير ومهم في فترة استمرت بين الأربعينيات والثمانينيات، صعد فيها إلى السطح نماذج “عصامية” من قاع المجتمع، كانت نجوميتهما تعبيراً عن حلم مصري، وانعكس عليهما شغف الناس وتعلقهم بما لم ينجحوا فيه واستطاعاه هذان الاثنان. لكن مصيرهم الحزين كان متعلقاً بجذر الفقر، أمراض تصيب الفقراء عادة وتقضي عليهم. هكذا كان الأمر بالنسبة ل “حليم” الذي استنزفه المرض حتى مات، وبشكل اقل احمد زكي الذي مات بسرطان الرئة وهو يؤدي سيرة “حليم” الرومانسية التي انتهت بسبب البلهارسيا!.