يقول أحد النقاد الغربيين: “إن الشعر تأطير للخيال”، ولعلّ الجديد في قوله ليس في مفردتي: الشعر، والخيال، فالشعر يفقد أهم ركائزه إن لم يكن فيه خيال، ولكن الجديد هو في استخدامه لكلمة (تأطير) بظلالها الفنية والتعبيرية وفعلها المحدد في التقاط الشعر هذا المحسوس بالكلمة، والمشغول بها عليه أن يقوم بالالتقاط والتأطير للخيال المطلق الهلامي غير المحدود، ويثبته، ويجمده لنا كإطار لصورة ثابتة موثقة، ولعل هذا القول هو الذي استوقفني، وأنا أقرأ ديواناً شاباً قادماً من روح الشعر وخياله، ومن قلب الحدث وواقعيته ومعاناته، وهو شعر يؤطر الثورة والأحداث التي مرت بها خلال عام كامل، ربما مضت تلك الأحداث وقد يطويها الزمن، في ما يطوي، فيعتريها التغيير والنسيان، ولكن أنّى لهذا الشعر أن يُطْوَى أو يُنسى؟! وقد التقطته عدسة الحرف، ووثقته كاميرا الكلمة، وأطرته لحظةً لحظة، وألماً ألما، وطموحاً طموحا. إننا أمام تجربة شعرية شابة ومتمكنة تستأثر باهتمامك من القراءة الأولى على الرغم من قصائد الديوان الطويلة في أغلبها، والكثيرة حيث وصلت إلى (62) قصيدة ضَمّت أكثر من (1624) بيتاً وسطرا شعريا، أطولها قصيدة (حوار في شارع ال 65) التي تتكون من 278 بيتاً من بحر المتدارك (ص 78- 94)، وهو الجزء الأول من قصيدة حوارية ممسرحة تدور بين شخصيتين يرمز إليهما بعلان، وفلتان يحملهما الشاعر كل جدل الأطراف من صراع فكري وقضايا سياسية وفكرية ودينية واجتماعية تمثّل فترة الشهور الماضية جميعها بأصدائها الإعلامية وحديث الناس في كل شارع ومنزل ومنتدى...الخ، وقد كان الشاعر فيها موفقاً على الرغم من طول النص ومحدودية شخصياته إلا أنه قد استوعب تقريبا كل الأفكار التي كانت مطروحة ومتداولة، بكثير من آفاق الشعر والروح الساخرة والموقف الشبابي الواضح الرؤية، ولا شك أن هذا العدد من القصائد هو عدد كبير لديوان واحد مكتنز - إذا ما قيس بما يصدر من مجموعات شعرية في المشهد الثقافي المعاصر-، ولكنه يدلّ على موهبة متدفقة، ومتمكنة من أدواتها اللغوية والشعرية. لكن لماذا هذا الإحصاء حول عدد القصائد وأبياتها؟ إنه مؤشر واضح لشاعرية جديرة بالوقوف معها للتأمل والقراءة، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن اليمن ولاّدة للشعراء في كل مرحلة وعصر، ولكل زمان شعراؤه، ومن صفوف الشباب في ثورة التغيير نبغ عدد من الشعراء منهم شاعر الساحة الأول كما يصفه الدكتور عبد العزيز المقالح في مقدمته لديوانه “عام الخيام”، وهو شاعر كما يبدو لم يسع للأضواء، ولم يتلهفْ وراء القنوات، ولا حتى المنصات الإعلامية المنصوبة في الساحة التي ربما كانت قد حُجبت عنه، فظلّ يتبتلُ في محراب الشعر الحقيقي، ويسجل أحداث الثورة كأصدق ما يكون التسجيل ليفاجئ المشهد الشعري ب (عام الخيام)، وفي هذه القراءة بعض ما استوقفني حول هذا الديوان. أولاً: من حيث الموضوع: إنه كما يحدده العنوان التوضيحي على غلاف الديوان الخارجي (قصائد توثيقية لأحداث ثورة التغيير) ويمضي التوثيق ابتداءً من 15 فبراير 2011م مع أولى القصائد وهي (تائه في شارع العدل)، وحتى نهاية الديوان بقصيدة (في وداع عام الخيام) 31/12/2011م. أيُّ جمعيكَ يُصطفى يا سعيدُ حار أمري.. أصالحٌ – أم حميدُ؟! أيَّ شعبيك أصطفي أو أعادي جفَّ قلبي، وأنت منه الوريدُ صوتُ أيوبَ شدَّني.. أين أمضي حين يأتي من ساحتيكَ النشيدُ؟! إنها بدايةٌ واضحةٌ لشاب غير مؤدلج يحتار في الأمر بين ساحتين، لكنه يحسم الخيار ويصطفي جمع الشباب وصوتهم، والشباب وحدهم، ويختار وسطية الطرح مع الانحياز الكامل – دون شكٍّ – إلى ثورته وثورة أقرانه من الشباب الحر الذين خرجوا يبتغون وطناً خاليا من كل سوء، لم يمسسه قهر ولا جبن، وهو أبيض كبياض قلوبهم، ونقي كفجرهم المرتقب. إذاً هذه هي رسالته وهذا موقفه الواضح البيان الذي ستعبر عنه كل قصائد الديوان، إنه متأمل للأحداث متماهٍ معها، وفي ذات الوقت منفصل عنها يصفها ويقيمها ويحدد ملامحها، ولا تحجبه المعاصرة، ولا تضلل رؤيته الأصوات الكثيرة ولا الضجيج عن التوصيف الحقيقي الهادئ، إن ذلك التائه في شارع العدل قد حدّد موقفه وعرف سبيله، ومضى بخطى ثابتة في هدفه، لأنه الوطن والشباب، وهو الدماء الزكية، والمكان والزمان، والتراث والأصالة، إنه اليمني بكل محبته وصموده وجَلَدِه وطموحِه، إنه جميع ذلك مؤطراً في (عام الخيام). ومن العنوان يضعنا الشاعر بين طرفي: الزمان والمكان في جدليتهما الأزلية وضديتهما الديالكتيكية، فالعام سيظهر بيومياته وقضاياه وشهدائه وعوالمه في سير قصائده، وكذلك المكان سيتجزأ ويتفرق، ويأتي من كل شارع وحارة، وقرية، ومدينة في عموم اليمن – تماماً كما جاء شبابها من كلّ ركن في اليمن- ليتوحد من جديد في وجدان الشاعر وديوانه، إنه جدل المتنوع في الواحد والمتفرق في الفرد. ثم نلاحظ من البداية، ومن العنوان هذا التناص المبدع الذي سيظهر بعد ذلك واضحا مسيطرا في عموم الديوان كلوحة الفسيفساء التي أشارت إليها “جوليا كريستيفا” في تحديدها لمفهوم التناص، (عام الخيام) يحيل الذهن إلى أعوام العرب الكثيرة التي مرت بهم كعام الفيل، وعام الحزن، وعام الوفود، وعام الرمادة... وغيرها من الأعوام المستمرة في حياة العرب المتواصلة حتى عام الجراد، ثم عام الخيام أخيراً. ذلك هو العنوان ثم سيلتقي القارئ في نصوص الديوان بالكثير من التناص مع أهم منابع البلاغة العربية ومحدداتها، مع القرآن الكريم، والحديث الشريف، ومع الشعر العربي بامتداد عصوره منذ امرئ القيس مروراً بالمتنبي، وانتهاءً بالبردوني والمقالح، وبيحيى الحمادي كل هؤلاء يحاورهم الشاعر، ويتشرب بثقافتهم التي تدلّ على ميراثه الواسع من الثقافة، واطلاعه الكبير حفظا وحضورا وتفاعلا. ولكن هذه المناصّات لا تقف عند مجرد الاقتباس أو التضمين –وهو المستوى الأول في التناص- ولكنها تأتي بصورة تجديدية يؤازرها الانزياح في معانيها مما يكسب تجربته الكثير من الوعي التجديدي المقصود وينقل استخدامه للتناص وتوظيفه نقلة أعلى في المستوى الدلالي. كانت تغني.. وكان الحزن أغنيةً تجري الرياح بما لا تشتهي (اليمنُ) إلى أن يقول: الناس والأرض والأيام تجهلني وفي دمي يقطن السكانُ والسكنُ إنه استيعاب لموروث المتنبي، ولكن بروح جديدة ذات انزياح يحاول تأصيل الواقع. ألا ليت الشباب يعود يوماً ليعلم كم بساحتنا معمّر وكلّ أعلام الشعر ورفاق الحرف وعلاماته ظاهرة حاضرة، يحاورهم الشاعر ويتممهم في تقابل منتج في دلالاته، مستغلاً وحدة الوزن وبحره وواحدية الموضوع في طابعه التحرري: (أفقنا على فجر يوم صبي) ولكنَّ صنعاء لم تُصْبهِ (خرجنا من السجن شُمّ الأنوف) وعدنا إلى اللحد من ثقبه (إذا الشعب يوماً أراد الحياة) وغنّى لها.. مات من حُبّهِ إنه تفاعل إيجابي وتناصٌّ موظف بوعي وقدرة فائقة، وهكذا تمضي مناصات الشاعر الحمادي حتى مع المقدس من النصوص: لأنا أطلنا صبرنا.. طالت الأفعى ولمّا زحفنا أقبلت حيةً تسعى ولكنها تدري، وندري بأن من تفرعنَ بالأسحار لا يُتقنُ البلعا سنأتي بموسانا على كل ظامئ فقد شدَّنا وتراً ولذنا به شفعا سيُفلَقُ هذا اليمُّ يوماً.. وحينها ستكشفُ عن ساق لتجتازه (صنعا). إنه استلهام للنص المقدس القرآني وتوظيفٌ في موضوع الثورة الذي هو نفسه موضوع الديوان الثوري. ذلك كان أول ما يلفت في استخدام الشاعر للغة من توظيف وإزاحة في المعنى التناصي، ثم تستوجب هذه القراءة بعض الوقفات مع لغة الشعر في ديوان (عام الخيام). ومن هذه الوقفات أن لغته صافية من الغريب واضحة وقوية تعبّر عن روح معاصرة واضحة المطالب والأهداف لغة لا تشوبها شوائب الغموض على المستويين القاموسي والدلالي، فهي لغة سهلة عدا مفردتين فقط في عموم الديوان: في قوله: ( وبقدر النهب يقال له: يا حَيَّهلاً.. بالأحضان) فكلمة (يا حيَّهلا) قاموسية غير مستخدمة، وهي اسم فعل أمر بمعنى اقبلْ أو عجّلْ، وفي لامها عدة لغات منها السكون ومنها الفتح بتنوين وبغير تنوين.، وفي قوله في قصيدة زفرة وطن: (لنا في غرفة التعذيب شعبٌ من الليل المنونصِ لا يُفيقُ) وكلمة (المنونص) كما يأتي معناها في المنجد: نوّص القنديل: ضعف نوره، ونُوّص القنديلُ: أُضعف نوره (عاميةٌ سريانية). ولعل الشاعر أراد بهاتين المفردتين القاموسيتين التعبير والاستعراض المعرفي ليبرهن على سعة معرفته باللغة فأتى بهما. ثانياً: من حيث التشكيل: ويتجلى في اهتمامه باللغة من حيث البناء، واللعب بها ومعها، يظهر ذلك في موضوعات البلاغة العربية القديمة فيما يُسمى بالمحسنات البديعية مثل: الجناس: بنوعيه التام والناقص: وهو كثير في عموم الديوان ولدى الشاعر ولعٌ بهذه التقنية، وهي مما يضيف إلى المعنى ظِلالا كثيرة تخدم النص، وتزيد بهاءهُ وشاعريته، مثال ذلك. سبأ التي كانت هنا أمست لجارتها سبيّة (ص58) أحاول أن أمدّ إليه كفّي فتخذلني القريحةُ والقروحُ (ص 60) يا صاحبَ الفخِّ والفخامة وعاشق الزعم والزعامة (ص 66) ويصل الجناس ذروته في الديوان -بما يذكرنا بتجارب الشعراء الكبار قدامى ومحدثين، ولعل أوضحهم الشاعر العراقي أحمد مطر، مع اختلاف الموضوع - في قصيدة بعنوان (كاريكاتير) والتي هي بالفعل لوحة ساخرة: “العلاقاتْ أصبحتْ تأتي على (قات) والصداقات إن أتت تأتي صدى (قات) والحماقات كلها تأتي حما (قات) هكذا تقضي بلادي وقتها والعمرُ أوقات إنه أوقات أو (قات)”. وهكذا يمضي الشاعر في اصطياد الجناس مما يزين المعنى ويرفعه في أغلب استخداماته. اللعب بالحروف من أجل المعنى لعبا مشتركا بين لغة النص وبين القارئ، حيث يجعله مشاركا في الفعل الإبداعي وليس مجرد متلقٍ سلبي، بل يكون إيجابيا في قراءته، ويكمل النص، يظهر ذلك –مثلا- في قوله: (خرجنا ل حاء وراء وجيم وعدنا بجيمٍ وراء وحاء) (ص48)، وهنا على القارئ أن يجمع الحروف ليكتمل المعنى المقصود، ويظهر تناقض الخروج والعودة بين الحرج والجرح.