حينما اندلعت ثورات الربيع العربي في وجه الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، الذي عانت منه الشعوب العربية ردحاً من الزمن، كان لزاماً أن تسبقه حركات مناهضة للأنظمة وغليان جزئي.. ورغم عقبتي استبداد السلطات وانقياد الشعوب وانحنائها لسياسات الأنظمة، فإن ثمة من سخر كل حياته لتوعية تلك المجتمعات ولم يذعن للاستبداد.وأبرز العديد من المفكرين والأدباء والكتاب والسياسيين أدواراً محمودة في ميدان المقاومة وتحمل تبعات قمع الأنظمة لهم. وثمة من تنبأ بالربيع العربي كنتاج فعلي للسياسات الخاطئة التي مارستها تلك الأنظمة وذلك أمر بديهي.. لكن الغريب أن يضع أحد الأدباء المبدعين صورة شبه مكتملة لملامح هذا الربيع المشرق ويجسد مشاهده وفصوله وحاضره وماضيه في قصيدة نادرة من نوعها، تستحق الوقوف أمامها طويلاً. ونستعرض بين يدي القارئ الكريم هذه القصيدة العصامية الثورية في زمن الانكسار والتي دبجها يراع الشاعر المبدع والأديب المتألق مهدي الحيدري قبيل ما يقارب ال «سبع» سنوات، وتضمنتها مجموعته الشعرية الثالثة التي نشرت قبل ثلاث سنوات “ الطوفان .. يوم تحت التخصيب”. والمدهش في الأمر أن عنوان هذه القصيدة بالذات اختاره الشاعر عنوانا لديوانه الثالث.الموسوم ب “ الطوفان... يوم تحت التخصيب” .. كما أن الغلاف الخلفي للمجموعة قد رصع بثلاثة أبيات فقط من هذه القصيدة بالذات أشارت بأسلوب رمزي عميق الدلالة والإيحاء إلى جوهر هذا التنبؤ الذي دارت حوله القصيدة من أول شطر إلى آخر عجز وَبِِيْ ظَمأٌ إلى الطُّوفانِ لكنْ على سَغَبٍ أَمُدُّ فلا يَمُدُّ وبالطُّوفانِ جُوعٌ لي و لكنْ على ظمأٍ يَمُدُّ فلا أَمُدُّ ويَزْدَجِرُ اليقينُ بخَافِقَينا ستلتقيانِ ! لكنْ ليس بَعْدُ أما عنوان هذه القصيدة فله قصة أخرى بحسب الشاعر ولعله العنوان الوحيد الذي له قراءتان مختلفتان نطقاً وكتابة ومعنى لكنهما متحدان دلالة وإيحاء وحروفاً. الطوفان ... يوم تحت التخصيب الطوفان...يوم تحت التخصيب القراءة الأولى ....... الطوفان... يوم تحت التخصيب ومعناه المباشر أن الطوفان هو يوم واحد فقط لكن أثره قد يصل إلى عشرات السنين حقيقة أما مجازا أو استعارة للسياسة فإنه يوم أيضاً لكنه نتيجِة عشرات السنين من الظلم والطغيان والاستبداد والقهر، وغيرها. وهو بالنسبة للواقع العربي المرير حسب إيحاء ودلالة القراءة الأولى للعنوان يوم قد أطل أزمانه واقترب موعده كونه دخل مرحلة التخصيب..أما القراءة الثانية للعنوان فهي... الطوفانيوم ... تحت التخصيب ودلالته أن الطوفان قادم لا محالة إلا أنه أشد رعباً وهلعاً مما يمكن تصوره لقران الطوفانيوم باليورانيوم لفظاً واشتراكهما في مفردة التخصيب مجازاً في الأولى وحقيقة في الثانية. تشتغل القصيدة على تأكيد حقيقة واحدة هي التنبؤ بأن ثمة طوفاناً قادماً عارم سيحل قريباً لا محالة في ذلك ولا شك، أما مكانه فهو الوطن العربي بدلالة الإشارة المباشرة لمصر، أما طبيعة هذا الطوفان فهي الثورة العامة العارمة التي لا تستثني أحدا بدلالة الإشارة المباشرة للثورات حسبما سيأتي في نسق القصيدة. على أن ذلك ليس مجِرد خيال أو أضغاث أحلام بل هي قراءة لمنطق الواقع والطموح والمقدمات والنتائج في إطار ثلاثة مرتكزات رئيسية سيقوم عليها طوفان القصيدة هي في الحقيقة الثلاثة المحاور أو المرتكزات التي قام عليها طوفان الربيع العربي. المرتكز الأول لطوفان القصيدة وهو إياه المرتكز الأول لطوفان الربيع العربي التصوير الشعري لمشهد الاحتقان التراكمي الداكن والغضب العربي المتتالي الذي بدأت غيومه تلبد سماء الشعور الرافض عند الإنسان العربي هذا الشعور الغاضب الرافض الطامح المكبوت المغبون بدأ يتشكل في صورة مد وجِزر وأشرعة تعد وغيوم غاضبات تلبس الآفاق ورعد وبرق وِِجِد ومجِد وعجِاجِة.. وهذه هي المكونات أو المواد الأساسية للطوفان. وبهذه الصورة استهل الشاعر قصيدة التنبؤ بالربيع العربي على النحو التالي: فضاءٌ مائدٌ ودمٌ يَمُدُُّ وأشْرِعةٌ بِمَرْفَئِهَا تُعَدُّ وغَيمٌ تَلْبس الآفاق غَضْبَى يُكَفْكِفُ دَمْعَها بَرْقٌ وَرَعْدُ وحَشْوُ عَجَاجةِ اللَّحَظَاتِ جِدٌّ دَجُوْجِِيٌّ يَمُوجُ به الْمجدُّ وإذا كانت هذه المواد الأساسية للطوفان قد توفرت لدى الشعب العربي بل دخلت مرحلة التخصيب فقد أصبح الطوفان قدراً لابد منه والمسألة بالنسبة له مسألة وقت ليس إلا ... ولأن هذا الطوفان في تصور هذا المقهور العربي على ما يحتمله من الموت والغرق لكنه المنقذ الأقدر من القهر والظلم والاستبداد هو بتصوره السبيل إلى الحرية والعدالة والخروج من جحيم الأنظمة العربية الديكتاتورية لذلك لا يتردد عن التصريح بالشوق والحنين لمجيء الطوفان. وَ بِِيْ ظَمأٌ إلى الطُّوفانِ لكنْ على سَغَبٍ أَمُدُّ فلا يَمُدُّ وبالطُّوفانِ جُوعٌ لي و لكنْ على ظمأٍ يَمُدُّ فلا أَمُدُّ ويَزْدَ جِرُ اليقينُ بخَافِقَينا ستلتقيانِ ! لكنْ ليس بَعْدُ إذا فهو الطوفان ...القدر القادم القائم الحائم في سماء الشعور العربي الذي دخل مرحلة التخصيب مازال لحظتئذ حال كتابة القصيدة يتشكل في شعور ومشاعر وخلجِات الإنسان العربي المقهور تحت وطأة أنظمته الديكتاتورية المستبدة التي صادرت حقوقه وكتمت حريته وسرقت ثروته وعبثت بمقدرات أمته واتخذت مواقف باسمه خالفت كل قناعاته ورغباته يتشكل الطوفان إذن من غيظ وغضب الشعور العربي المتكاثف عبر المواقف المتراكم فوق الأيام، يتشكل من قهر الرجال المستحم بنيران القهر، يتشكل من الأرزاء المشدودة فوق الأرزاء، يتشكل من الشعور المستدام بالذل والغبن، يتشكل من الحزن العتيق الذي شاخ في عيون العواتق اللاتي ولدن معه، يتشكل من رفض الحر الثاوي خلف صمته يعد لبعثه موته. بِبِاسْمِ اللهِ مَجْرِيهَا اسْتهلَّتْ وَوَكْفُ الغَيظِ يَشْكُمُهَا ويحْدُو بِقَهرٍ ... يَسْتَحِمُّ بنارِ قَهرِي بِأَرْزَاءٍ ... لأَرزَائِي تُشَدُّ بِحَدٍّ ... يذبحُ الذُّلَّ الْمُسَجَّى بأَردِيَتي التي فيها أَحُدُّ بِحُزنٍ ... شاخَ في حَدَقِ اللَّواتي رَضَعْنَ بِهِ صِغاَراً وهْوَ مَهْدُ بثاوٍ ... في أَكِنََََّتِهِ يُوَاري عُطَاسَ الْبَعْثَِ في موتٍ يُعَدُّ بثأرٍ ... يَخْصِفُ العَثَراتِ قَسْراً ويَعْصِفُهُنّ هُوْجاً تَسْتَبِدُّ ولأن هذا الطوفان منجمو الأول هو الغيظ والغضب والرفض، فهذه إذن هي أغلى ما في حياة الحر المقهور فإن الشاعر لا ينسى أن يؤكد على هذه اللفتة المحورية فَزُمُّوا الغيظَ ليس لنا جميلٌ سِوَاهُ وليس مِنهُ اليوم بُدُّ وبي ظَمَأ.. وبالطُّوفان لكن لنا قَدَرٌ.. وَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ ويتخيل الشاعر غده القريب، ويخيل له أن ساعة الصفر دقت فاندفع الطوفان واندفع معه الشاعر كناطق رسمي باسم طوفان المشاعر العربية المتفجرة، وإن شئت فقل باسم طوفان الربيع العربي مندفعا ليتشظى صبره وليقتل موته وليهدم هدمه وليثور بثورته ثأرا لثأره سَئِمْتُ الصّبرَ يا غَضبي تَشَظّى ليُقْمِرَ من تَشَظِّيكَ الْمَرَدُّ أُسَمِّمُ من نَقيْعِ القَهْرِ مَوْتي عَسَى مَوْتي يَمُوتُ فأَسْتَقِدُّ وأهْدِمُ من غُبَارِ الهَدمِ غَبْني فَرُبَّتُما أشِيْدُ بِمَا أَهُدُّ أَثُوْرُ بِثَورتيْ ثَأْراً لِثأْري وَ كَيْلا يَفْقَدَ اللَّدَدَ الأَلَدُّ وينتبه الشاعر لحظتئذ إلى أن الطوفان لم يأت بعد ويستشعر لحظتها عظمة الإنسان العربي وقدراته وإمكانياته التي لو فعلها كغيره لرقى إلى الثريا لكن كيف يفعلها وهو في السجن كيف يستطيع يوسف عليه السلام أن ينقذ مصر من الهلاك وهو في السجن لا بد له أن يتحرر أولاً فيلتفت الشاعر إلى مصر الكنانة أم الدنيا وأم القهر العربي المعاصر فيعهد أبو الديكتاتورية العربية المعاصرة ويلفي إليها بهذه الأسئلة العاتبة الملتهبة الساخرة. سَلوُ رأسَ الكِنَانَةِ كَيفَ يَعدُو بِقَعْرِ الْجُبِّ يوسفُ أو يُعِدُّ وكيف يَعِي القَصيدةَ آعْجَمِيٌّ عَيِيْيٌّ وهْيَ فُصْحَى وهْوَ حِقْدُ وكيفَ وصولُنا الأَقصى ونحنُ نروح بطورِ “سيناكُو” ونَغْدو وكيفَ يشبُّ حُلْمٌ أَسلَمَتْهُ لِيُرضِعَهُ لدى الميلادِ وأدُ متى يا مصرُ تَسْتَعِرُ الأَثَافي وثالثةُ الأَثَافي فيك بَرْدُ وأخير لا بد من تصوير الواقع العربي المرير الذي تعيشه شعوب الطغيان الديكتاتوري القبيح المرتهن موقفاً وسياسة للغرب وأيضا لا بد من أخذ صورة أخرى للغرب ودوره وتعاطيه مع قضايا الأمة العربية في ظل ارتهان الديكتاتوريات العربية له، بأسلوب إشاري ساخر ومفارقات غاية في الروعة والإبداع والصدق الشعوري تَنَاوَرَتِ الشِّيوخُ.. فنصفُ “عِلْجٍ” يمدّ يَداً و نِصفٌ يَستَرِدُّ ونحنُ “بِمَكْهَن” ابْن أبي رُوَاغٍ نردِّد ما يَودُّ ولا نَوَدُّ على أَملٍ كَعَجْزِ النَّخلِ.. نتلُوا حُدَانا علَّ عجزَ النّخلِ يَحْدُو نقودُ الْعِجْلَ مُتَّهَماً ليقْضِي عليه السّامريُّ غداةَ يغدو فيقضي السّامريُّ بأنَّ هُوذا بريءٌ واليَسُوعُ هو الْمُعِدُّ ويقضي السّامريُّ بِصَلْبِ “جالا” قصاصاً بالصَّليبِ ولا مَرَدُّ ونحن “بِمَكْهَنِ” ابْن أبي رَوَاغٍ نَشُدُّ بِكَعْبِ “ هِيلارِي” ونَشْدُو بأصْدقِ كِذبَةٍ عَهِدَتْ إلينا بأنّ لَها ... وَلَيسَ لَهُنَّ عهدُ