حتى لا نصاب بالعقدة النفسية صرنا بحاجة إلى عدم السفر خارج البلد (اليمن) وحتى لا تجتاحنا الأوجاع بتنا بحاجة إلى نبقى نلامس أوضاعنا بهموم مستمرة، وأصبحنا كمواطنيين يمنيين مهمتنا الأساسية هي توقع موعد عودة التيار بعد أن عرفنا موعد مغادرته..وحين كان للسفر سبع فوائد صرت أرى أن السفر الآن يعني حسرة كبيرة في النفوس وسبعة آلام تحرق الأكباد.. عمق المعاناة عندما ترى بلدان الآخرين تُصاب بالذهول على واقع (بلدي) مزري وحالات اكتضاض تعم الشارع اليمني،يصبح السفر موجعا تماما كالمرض وتصبح الطائرة التي تقلك هي سرير مرضك الذي لا تشعر به إلا حين تعود، وترى الفارق الشاسع بين وطنك الذي لو شغلت بالخلد عنه لنازعتك إليه في الخلد نفسك وبين أوطان الآخرين وهذا ما لمسته في الأردن حين شاركت في ملتقى العواصم العربية للشباب العربي الذي تحتضنه الأردن بشكل سنوي. تخيلوا معي عمق المعاناة عندما نجد بلدا كالأردن لا يملك من ثروات المباهج الدنيوية شيئاً، لا بترول ولا غاز مسال ومع هذا تغرق البلاد بالضوء الجارف وتنتظم المواصلات بشكل عجيب لا صوت فيه لأبواق السيارات المزعجة ولا لصياح فلان من نافذة سيارته على علان آخر.. الهدوء يحف المدينة رغم ازدحامها ورغم كثافة السيارات إلا أن التنظيم يُشعرك بأن الشوارع خالية وبإمكانك أن تمر إلى رصيف أخر مغمض العينين.. الفرق كبير...! لقد وقفت كثيرا أتأمل الواقع هناك وأتذكر ما نعايشه هنا،الفرق كبير واسمحوا لي، القبائل هناك والعشائر أيضاً ومع هذا تجد الجميع يتمرغون بثقافة واحدة وبعشق كبير لوطن هاشمي يطبق النظام بحذافيره ولا يعترف بقبيلة هذا أو عشيرة ذاك.. - كنت أتأمل الأضواء النافذة وأتذكر صنعاء عاصمة الحضارة وهي تعج بظلام دامس وألسنة تلعن الظلام وتلعن قائل المثل المعروف ( أن تشعل شمعة خيرا من أن تلعن الظلام) على اعتبار أن قائل المثل كان ربما يُشعل شمعة واحدة في الشهر أو العام ويسكن بعيدا عن أرض السعيدة السوداء.. عقليات أيقنت أن العقليات التي يتمتع بها الكثيرون هي أساس البناء،عندنا بعض منتسبي القبائل يدمرون الأبراج كانتقام من الحكومة متناسين أنهم ينتقمون من المواطن الغلبان قبل الحكام والولاة الذين يعيشون في النور بسبب ثرواتهم ومواطيرهم التي تنير قرى كاملة.. هناك القبائل تتأهب للقاء الزائرين بلباسهم التقليدي حيث يمر السائحون وعلى الوجوه ابتسامات هادئة في حين يمر السائح في بلادنا وهو يرتعش لمجرد أن تحرك الرياح أوراق الشجر خوفا من أن يُختطف.. - ليست الكهرباء هي من جذبتني رغم أن البلاد لا تملك بترول ولا غاز كونها تستورده يوميا،فلقد عرفت أن المياه تصلهم من إسرائيل وهم كحوض مائي يفتقدون لكمية الأمطار وكم ستكون مصيبتهم لو أنهم يزرعون القات مثلنا ويستنزفون به مياه تل أبيب. - لا غرابة أن لا نبارح وضعنا وأن نصاب بالدهشة بمجرد السفر إلى دولة مجاورة أو بعيدة وحتى الدول الفقيرة نجدها تحترم حقوق المواطن وتوفر له الخدمات الممكنة التي تتناسب مع إمكانياتها وراضيين بالحال.. معالمنا الحضارية سؤال للدهشة..؟ - يتحدث التاريخ اليمني عن مواقع سياحية أثرية منتشرة في أرجاء بلادنا لكن الجهات المسئولة تترك الأمر للسائح والزائر ليكتشف ذلك بنفسه وإن أضطره الأمر إلى تقمص دور ماجلان ومهمته في الاكتشاف، بل وستجد مرافقنا السياحية مهملة، خاوية وكأنها مناطق أشباح، والفرق بيننا وبين سياحة الأردن أنهم عرفوا كيف يجملون ما يملكون فلقد جعلوا من البحر الميت(معلما حيا) تزينه الأشجار والمسابح والكورنيش الهادئ فترى الزوار يتوجهون إليه من كل حدب وصوب طامعين في الاسترسال على جنباته طامحين إلى التداوي بأملاحه المضاعفة وبرمله الأشبه بالدواء.. ومع أن بلادنا تطل على بحرين إلا أن ما يمكنك أن تراه، بعضا يترقبون الأسر و العوائل وآخرون مخزنين وصنف ثالث يتمشون راجلين والسواح سلعة تخشى الغرق في البحر ولعل عدم الترويج أحد أهم أسباب هذا الانحدار.. حياة الأنباط - وإذا كانت بلادنا تحتوي على آثار على مستوى المباني والقلاع والمناطق الأثرية فإن ما يروج له كثيرا هو سد مأرب ومعبد الشمس، ومع هذا يفتقد الكثيرون إلى معرفة الكثير من المعالم الحضارية والجمالية في مأرب نفسها أو في عدة مناطق يمنية مثل حضرموت وشبام وحوف - المهرة وذمار وسيئون فالبتراء في الأردن صارت مقصدا لعدد كبير من السياح العرب والأجانب على السواء الذين يذهبون إليها لتصوير مدخل القصر الملكي للملكة بتراء والتعرف على بعض معالم حياة الأنباط وكيف سكنوا الجبال.. ومع أن الملكة بتراء ليست بشهرة الملكة بلقيس التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وذُكر معبدها (عرشها) معبد الشمس الذي هده هدهد سليمان في رحلة تجوال دون إذن من سليمان عليه السلام كأعجوبة ربانية ومعجزة قام بها الذي عنده علم من الكتاب، إلا أن البتراء تم الترويج لها سياحيا بشكل أدى إلى أن تزخر بذلك الكم الكبير من السواح.. لقد عرف النشامى حقيقة الانتصار للموجود ولو كان ضئيلا فيما نحن نتباهى دائما بحضارة الثلاثة آلاف سنة دون أن نثبت أننا من كان لنا في سبأ ومساكنهم آيات وجنتان ولم يعرف الكثيرون أن الله ابتلى أصحاب الجنة هنا، ويتداول آخرون أن قوم عاد لم يكونوا في اليمن، بل ويؤكد خبراء أن أهل الكهف في الأردن وليس في جبل صبر بتعز.. الأردن رياضيا بطبيعة الحال لم يكن تركيزي على المعالم الأثرية بقدر ما رأيت الفارق في البنية التحتية الرياضية لهم وبين بنيتنا التحتية وملاعبنا الرياضية، لديهم هناك مدن رياضية مثل مدينة الحسين التي نفذنا فيها عمل تطوعي يتعلق بالنظافة و رأينا ما تتمتع به المدينة من ملاعب ومتنفس كبير..وبزيارتنا للنادي الارثوذسكي فؤجينا بما يحتويه النادي من ملاعب للسلة والطائرة والتنس والذي لفت نظري أن النادي يملك مسبحين دوليين وبمدرجات كبيرة فتحسرت على حال اتحاد السباحة في بلادنا الذي لا يملك حتى (بانيو) وهو اتحاد عام معني بالتفاعل مع أحلام الرياضيين لتوفير مسبح قانوني لهم وللبطولات التي يقيمها.. - العديد من الملاعب التي رأيتها كانت رائعة لا تحتاج كل هذه الضجة التي تحيط بملاعبنا وعناء صيانتها، ملاعب معشبة بمدرجات فيما عندنا ملاعب ترابية إلا فيما ندر وأخرى تشكو الجفاف وبعضها بلا مدرجات مناسبة وبلا أسوار تجعل الجماهير على حافة الدخول لأرضية الملعب بكل بساطة.. بدو رحل فارق شاسع بين بلاد لا يملك ثروات بقدرنا، لا يجني ضرائب القات، ولا يُصدر البن والخضروات وبعض الفواكه، بلد لا يحتكم على بئر واحدة بترول ولا أنبوب غاز، بلد ليس بحجم مساحة بلادنا. ولا يُطل على أي بحر ما يعني عدم تمتعه بأي صفات جغرافية ليشكل منافذ بحرية تمكنه من تحقيق دخل اقتصادي وبالتالي لا يملك أي ثروة سمكية تمكنه من تعزيز الاقتصاد.. هو أيضا بلد لا يعتمد على الثروة الحيوانية كونه ليس زراعيا بالدرجة الأولى ولا تطحنه الأحزاب السياسية كما طحنتنا.. - ألا تريدون بالله عليكم أن لا نتحسر ونحن في اليمن حبانا الله بما لم يحبوا به الكثير من الدول..! نحن أفضل سياحيا واقتصاديا ومساحة وثروة مكتنزة في أرضنا المعطاء ومع هذا يلوكنا “فك” الفقر ليل نهار، تعتصرنا ظروف الحياة وكأننا بدوٌ رحل، لا ماء، لا مصدر آمن للكهرباء، لا عائدات تذهب في مكانها الصحيح، فقط يعترينا الوجع عندما نجد أن المشيخة تفتك بنا من يوم لأخر ومن عام للذي بعده، صرنا تحت رحمتهم فقد أثبتوا أنهم أقوى من الدولة ومن الشعب الذي أراد أن يستجيب له القدر دون أن يُرد الحياة.