رمضان .. أهلاً ومرحباً بالضيف الكريم الذي سرعان ما يمضي، ففي رمضان تتضاعف الأجور وتصفد مردة الشياطين وتفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النيران فهو شهر خير وبركات..،ونحن المسلمين ينبغي علينا أن نستعد له أفضل استعداد، ورغم ذلك لابد من سلبيات ومعوقات وهموم تثقل كتف المواطن.الحرية فطرة إلهية متركزة في وجدان الإنسان وعقله ومشاعره وروحه،والأدلة العقلية والنقلية كثيرة لامجال لذكرها كما أنها ليست هي الهدف في هذا المقام إذ أن هدفنا هنا هو الحديث عن عوامل ترسيخ الحرية في سلوك الفرد (يومياً) نعم سنكتفي هنا بالقول الذائع المشهور المنسوب إلى الفاروق (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)؟ غير أن النفوس المتوحشة التي طغى عليها حب التسلط دفعت بالمجتمعات والأمم إلى تنكب الطريق فخضه البعض لطغيان البعض وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم{ كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين}بل أن القرآن أشار بوضوح إلى العلة التي أرسل الله من أجلها الرسل{ولقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} والقسط هو العدل الذي هو الوجه الآخر للحرية وحاميها في آن غير أن ترسيخ العدل في المجتمعات احترام الحريات والحقوق ليس ..بالسهولة فمهما بلغت الكتب السماوية بوعظها وقوانينها وضوابطها وتعاليمها من القوة، فإنها لن تثني الظلمة المستبدين عن ممارسة الظلم والاستبداد ، ذلك أن رفض الظلم يأتي من داخل المجتمعات وإلى هذا أشار القرآن كأنه يقول لنا: كما أن للفيزياء والكيميا وغيرها من أمور الحياة قوانين وأسباب فإن للمجتمعات قوانين وأسباب تدفعه نحو التغيير سلباً أو إيجاباً { إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وتغيير ما في النفوس إيجاباً يأتي ثمره للتعاليم السماوية كما أشارت الآيات السابقة{ ليقوم الناس بالقسط} نعم هذه التعاليم تتمثل في جانبها النظري التربية على الإقرار بالوحدانية لله فقط، شريطة أن يأتي هذا الإقرار من الإنسان بطريقة يرسمها الفرد بنفسه باقتناع ذاتي دونما إكراه ولا ينبغي للرسول أن يزيد على البلاغ المبين الواضح، ذلك أنه من التناقض بمكان أن يخلق الله الناس أحراراً ويعلمهم بواسطة الرسل أنهم أحرار وأن الشرائع السماوية هدفها حماية حرياتهم وكرامتهم وحقوقهم وأن أول درجات الحرية هو تحرير الأرواح. ثم يأتي ليكرههم على اعتناق الدين. وحاشا رب العزة وهو القائل( لا إكراه في الدين) والقائل ( قل أمر ربي بالقسط) إن الله يأمر بالعدل وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلمات الله) وخاطب خاتم الرسل قائلاً (وأمرت لأعدل بينكم) وإذن نحن أمام سيل هادر من الآيات الدالة على الحرية، جاءت لترسخ في النفوس الجانب النظري لمعاني الحرية والتحرر..فإذا ما اقتنعت النفوس أو المجتمعات بهذه المبادئ نظرياً وآمنت بها دون إكراه، نجد أن القرآن الكريم قد انتقل إلى ترسيخ هذا المعنى في (34) سجدة يومياً تقول لك لا خضوع لأحد غير الله، وثانياً:اعلم أيها الإنسان إياك أن تستطيل على البشرية بعبادتك فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأشد المنكرات هو ظلم الناس واستبدادهم ، بل إن خالق البشر وهو منزل الشرائع يقول لنا أن أعظم الذنوب هو الشرك بالله، ثم يوضح إن الشرك صورة من صور الظلم ( ان الشرك لظلم عظيم) وتأتي الزكاة لتحرر النفس البشرية من العبودية للمال فتأمر الفرد بأدنى درجات التحرر المتمثل بإخراج نسبة (2% وفق شروط منها وجود نصاب وحولان الحول الخ الصوم وتحرير الأرواح وهنا نصل إلى الهدف الرئيس للمثال وهو علاقة الصوم بالحرية والتحرر، فلا شك ولا ريب أن صوت المعدة يغلب صوت العقل، ويأتي في القوة بعد شهوة البطن شهوة الفرج ثم باقي الشهوات وإذا سلمنا بقوة شهوتي البطن والفرج فإن الصوم يأتي محرراً للأرواح من هاتين الشهوتين فكيف يصل الصوم بالفرد إلى عشق التحرر وممارسة الحرية والذود والدفاع عنها بل والعيش لها لأنها معراج الأمة الحضاري؟ يأتي الجواب: أن الصوم أول مايقدمه للفرد هو تحرير إرادته على أن هذه الكلمة البسيطة تحرير الإرادة، لها مدلولات عميقة نفسياً ثم تربوياً ثم فكرياً ثم سلوكياً ثم سياسياً ثم اجتماعياً وثقافياً على اختلاف في الترتيب لهذه المجالات: نعم إن الفرد يبدأ بترك شهواته على مضفى أعني شهواتي البطن والفرج ثم بعد ساعات يشعر بلذة الانتصار، كونه استطاع التحكم في شهواته وإذا استطاع تأجيل شهوته لساعات شريطة أن يستحضر هذا المعنى تحرير الإرادة من خلال إرشاد الرسول في هذا المقام “فإن سابه أحد أو قاتله فليقل أني صائم” أنها برمجة نفسية نبوية يقول لك فيها تذكر أوقف جماح غضبك أنت في مدرسة الصوم، أنت في دورة تدريبية مدتها شهر كامل هدفها. تربية وبناء شخصيتك، فإذا استحضرت هذا المعنى في كل أبان الدورة لاشك أنك ستصبح مالك لإرادتك في بقية العام، وشيء آخر في تشريع هذه الدورة التدريبية هو أن الله عز وجل جعلها في الأشهر القمرية أي أن الصيام ينتقل بين سائر الفصول حرارة وبرودة واعتدال الجو وكذا وجود الفاكهة في فصل وغيابها في آخر.. كان الذي أمر بتشريع هذه الدورة يقول لك: لابد أن يكون التدريب متغير متناسب شدة ورخاء حتى لاتأخذ نفس الفرد لوناً واحداً في جو واحد من التدريب.. إذ أن النفوس تختلف بتكيفها مع الحر والبرد كما أن الشهوات تختلف أيضاً، على سبيل المثال: حينما غابت معاني وأهداف الصوم وجدنا أناساً يصومون ويتقاتلون على أتفه الأسباب، بل تجد بعضهم قد تشقق فمه والتهبت حنجرته وهو ممسك مصمم بقوة عصامية على إتمام صيامه، لكنه ببساطة لا يستطيع الصبر أمام استفزاز أحد أقاربه أو جيرانه، فينبري للقتل ناهيك ما دونه!! وعند القراءة التربوية والنفسية لهذا التصرف، نجد أن يعود إلى عدة أمور أهمها: أن تربى اجتماعياً ودينياً وثقافياً أن الصيام هو حرمان وكبت للنفس، وبالتالي: فإن اندفاعه إلى القتل أو ما دونه يكون بمثابة إفراغ مافي النفس من معاناة يرى أنها مصادرة لحقوقه، أما إذا نظرنا إلى السبب الثاني وراء هذا الاندفاع فهو أن هذا الصائم البغل الملجوم عن العلف يعيش من نعومة أظفاره حالات القهر والمصادرة والكبت للحرية، فهو يعيش حالة التربيط من لحظة الولادة مروراً بفترة الطفولة الأولى فالمدرسة.. إلخ وإذا ما حاول طرح سؤال في أي مجال لايجد الإجابة الموضوعية، فمثلاً الوالدان مقدساته مهما كان خطأهما والأخ الأكبر كذلك، مروراً بالجد الأكبر وعاقل الأسرة والعشيرة..إلخ، إذ لانقاش مع هؤلاء مهما كان التساؤل موضوعياً؟ وهنا سيتحول الصوم إلى العكس تماماً فبدلاً من تربية الفرد على تملك إرادته والتحكم فيها يصبح الفرد عند صومه في حالة نزق وطيش وخفة عقل وحماقة، بخلاف سائر الأيام.. بل ومن الغرايب أننا كثيراً مالاحظنا وشاهدنا أناساً ممن كانوا يتخلون ويستحضرون بعضاً من معاني وأهداف الصوم، ذلك أن بعضهم إذا واجهته مشكلة ما في شهر رمضان يقول: دعونا نصوم وبعد رمضان سيكون لنا موقفاً آخر.. فهذا السلوك كان أقرب إلى معاني الصوم، غير أن الحاصل اليوم هو العكس، فالصوم أصبح مدرسة للنزق والحمق .. إلخ.. ولا داعي لذكر تصرفات البعض ممن أفطروا في رمضان بحجة أنهم مجاهدون في سبيل الله حرب العصبية القبلية، ذلك أن هذا الشكل الغريب الذي استباح الدماء ببرودة أعصاب لابد له إن يبرر إجرامه بهذه الصورة الفجة المثيرة للغثيان، أن تديين غريب الأطوار ذلك أن العرف الأعوج والعصبية القبلية فوق التشريع السماوي وفوق القيم الدينية .. وبالتالي: فإن من أبسط الأشياء إزهاق روح واستحلال دم صائم خارج من المسجد بعد صلاة المغرب لتناول طعام الإفطار فيتلقاه أشباح من قبيلة الطرف الآخر أمام منزله بالرصاص وأن لم يكن له علاقة بالقتل.وبعد...هل نكون قد ظلمنا إبليس أن قلنا أنه مسكين بكل ما تمله كلمة مسكين من معانٍ مقارنةً بهذا النوع ممن يفطرون أو يصومون ويقتلون الأبرياء بأعصاب باردة لقد كان الجاهليون يحترمون الشهر الحرم وإن التقى فيها الخصوم فهل إبليس كان غائباً عنهم حاضراً مع أدعياء التدين المتمسح بالإسلام إلى حد إثارة الغثيان وهل ظلمنا إبليس في هذه الحالة؟ عودة إلى تحرير الأرواح وبناء الإرادة لقد استطرد القلم وحق له ذلك فالحديث في هذا المجال له شجون أن معاني الصوم إذا لم تتحقق في بناء الإرادة- إيجاباً وكظم الغيظ إزاء السب والشتائم وإنما احتراماً وتهيباً للدماء ..فإن الصوم يصبح لا معنى له، وإذا وجد هذا النوع من الصوام فأنهم “هنا” أقل شاناً من الحمير الملجمة- الممنوعة عن التبن والحشيش. إن الثورة المادية في الغرب التي أقامت حضارة لا روح لها ولا قلب كان السبب وراءها هذا النوع من التدين الغث فقال فلاسفة الإلحاد: لا نريد دين الكنيسة،وإنما نريد ديناً آخر- يقصدون قوانين وضعية وتربية على النظام واحترام القانون وكفى وهاهو اليوم الغرب يحاول العودة إلى ثقافة أكثر ضمانة نابعة من الذات وليس من القانون وبعد دراسات وبحوث وجدوا أنه لا ثقافة ولا قانون ولا قيم إن لم يكن هنالك دين عالي المصدر يحترم ذاتياً غير أن هذه العودة أمامها عوائق..وأكاد أجزم أن الغرب قد يصل إلى مبتغاه والعكس سيكون عندنا ..نعم الغرب تمرد على الدين واتجه نحو الإلحاد بصورة واضحة أما نحن فإن للكاعة الدينية بلغت منتهاها، إجرام مغلق بالتدين والسؤال:هل تحرير الأرواح سيعود إلينا كثمرة للصوم هل....الانتصار على الشهوات أياً كانت بات عسيراً؟ الجواب: أنه ليسير جداً أن تنتصر على شهواتنا ولكن بإحياء معاني الإيمان العاقل الواعي- إيمان قائم على العقل والوجدان في آن إن الإيمان القائم على الجانب العاطفي فقط سرعان ما يعصف به موقف عاطفي مماثل أو أقوى من وهذا هو ما نسميه باللكاعة الدينية- أعني مغالطة النفس ثم تنتظر مغفرة ورضواناً بل ننتظر ما هو أهم وهو صلاح المجتمع؟أن لله تقدست أسماؤه ربط صلاح المجتمع بأسباب تتمثل في صلاح النفوس –حتى يغيروا ما بأنفسهم ومالم تتغير النفوس بدءً من تحرير الأرواح ثم تحرير الإرادة ثم استقامة السلوك فاستقامة المجتمع فإننا ستكون كالذي يخلط الأقذار بالعسل أو كالذي يغسل الثوب بأفضل المساحيق ثم يعمد إليه وهو مبلول فيمرغه في التراب ثم يعيده إلى المغسلة ثم يمرغة في التراب وهكذا دواليك فما مصيرها القماش؟ ما مصيره من حيث القوة أليس الوهن جراء المساحيق وما مصيره من حيث النقاد والجمال؟ أليس القتامة- غبرة ترهقها قترة؟ ثم ما هو حال غاسل الثوب؟ هل استراح من العناء والشقاء؟ هل وهل إلى مبتغاه من نقاوة الثوب وسلامته ودوامه في القوة والجمال والأناقة؟ الجواب متروك للقارئ.