في رحاب قوله تعالى: “{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} في سورة الكهف الآية: “29” {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}. يظن كثير من الناس ومنهم من يعنى بتلاوة القرآن وتفسيره أن الله تعالى يخير في الآية بين الإيمان والكفر، ومن الأساتذة من يعتبر الآية دليل الحرية في الفكر والتفكير وإبداء الرأي مما يدل على عظمة المنهج في القرآن الكريم، وهو يخير بين الحق والباطل والإيمان والكفر دون إكراه أو قهر أو قسر، والحقيقة أن الآية لا تخيّر كما ظنوا أو زعموا لما يأتي: أ لأن التخيير يستخدم له حرف “أو” لا حرف “الواو” وفي الآية حرف “الواو” لاحرف “أو” فلا تخيير في الآية إذاً كما هو واضح بين. ب لأن التخيير يكون بين شيئين حسنين كلاهما خير وبر وصلاح وإصلاح، ولا سيما حين يكون المخير رحيماً كريماً لطيفاً خبيراً، فالطبيب يخيرك بين دوائين أحياناً، فإن لم تجد الأول استعملت الثاني، وكلا الدوائين ناجع مفيد، وسبيل للشفاء من الداء، بإذن الله الذي يفعل مايشاء، ولا يعقل ولا يقبل أن يخيّر المريض بين دواء ناجع فاعل وآخر سم قاتل، والآية نزلت في كفار متكبرين من قريش رفضوا أن يجلسوا مع الفقراء المؤمنين في مكةالمكرمة، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخصهم بمجلس لايحضره غيرهم ليحاوروه، فنزل قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا وأتبع هواه وكان أمره فرطا28}”الكهف:28” {وقل الحق من ربكم} إلى قوله مرتفقا لينحسم الموقف ويبين حكم الله في المساواة والعدل والإنصاف، وأن الله تعالى يحب ويؤثر أهل الإيمان والحق ولو كانوا فقراء. ويكره ويمقت ويتوعد أهل الكفر والباطل ولو كانوا أغنياء، لأن الغني غني النفس بما تحمل من عقيدة التوحيد السليمة مع العزة والكرامة، لا غنى المال في ساحة الشرك واتباع الهوى، وأن الرشد قد تبين فعلى الخلق اتباعه وأن الغي هلاك ودمار فعلى الناس اجتنابه، فمن شاء الرشد والحق فليؤمن كما أمر الله وليستقم، واللام في “فليؤمن” هي لام الأمر، والله يأمر بالإيمان والعدل والإحسان، ومن رفض الإيمان والحق والرشد “فليكفر” واللام هنا وإن كانت جازمة وهي لام الأمر فالأمر هنا قد خرج عن معناه الأصلي إلى التهديد والوعيد والإنذار كما يقرر علم البلاغة، لأن الله يأمر بالكفر والباطل والطغيان، بل ينهى عن ذلك وعن كل فحشاء أو منكر، ويتوعد من يفعل ذلك بعذاب أليم، وندم مقيم في الدنيا والآخرة. ودليل أن المراد من قوله تعالى: {ومن شاء فليكفر} التهديد والوعيد والإنذار، لا التخيير أو الاختيار هو: ذكر العذاب الذي هدد الله به من كفر في الآية “29” من الكهف: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} فمن آمن نجا وفاز وظفر، ومن كفر فقد هلك وخاب وخسر. ويؤيد هذا قوله تعالى في سورة الإنسان الآية “3” :{إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} أي بينا للإنسان طريق الحق وطريق الباطل، وعرفناه سبيل الإيمان وسبل الشيطان والطغيان والكفران، فإما أن يؤمن فيهتدي ويكون “شاكراً” وإما أن يكفر ويضل فيكون “كفوراً” وجاءت بصيغة المبالغة لأنها الأكثر، وجاءت مع الشكر بدون صيغة المبالغة لأنها الأقل، حيث قل من يشكر وكثر من يكفر، فإن آمن وشكر نجا وفاز، وإلا هلك فندم وخاب وخسر فجاء بعد ذلك العقاب لمن كفر، فقال تعالى في السورة نفسها الآية “4” {إنا أعتدنا للكافرين سلاسلاً وسعيرا} فتدبر.