مستشفى العلفي بالحديدة صرح طبي شامخ لايزال صامداً في وجه الطبيعة وتقادم الزمن .. كشاهد على عصر الحكم الملكي وما آل إليه الوضع الصحي في البلاد على مدى عهد الإمامة وما وصل إليه في ظل الجمهورية ذلك المستشفى بعد أن شيده الإمام أحمد حميد الدين وأطلق عليه أسم “الأحمدي” استقدم إليه الأطباء الأجانب ولم يعرف الأطباء اليمنيين إلا بعد قيام ثورة 26 سبتمبر ليستقبل أول أطباء يمنيين قدموا من روسيا كان الإمام قد ابتعثهم للدراسة فيها .. وهنا تكون الحكاية التي يرويها الدكتور محمد عثمان مشهور الشابرة .. في لقاء الذكريات الذي أجرته معه الصحيفة يقول: عملت ممرضاً في مستشفى الأحمدي سابقاً والعلفي حالياً وبعد سنة من التحاقي بالمستشفى اختارت وزارة الصحة في عهد الملكية الممرضين الجيدين وكنت من ضمن الأربعة الذين اختيروا لدراسة الطب بروسيا وقد تلقيت خبر اختياري لهذه البعثة بالفرحة والسرور وكنت متحمساً لدراسة الطب حتى استطيع أن أقدم خدمة لوطني خاصة وأن المستشفى لم يكن فيه أي طبيب يمني جميعهم كانوا أطباء من الخارج من روسيا وإيطاليا وغيرها من الدول وكانت منية أن أرى طبيباً يميناً في المستشفى يحل محل الأجانب.. بعد أن استكملت كافة إجراءات السفر توجهنا عبر الطائرة إلى مصر ومن مصر إلى روسيا كنت أشعر وأنا أركب طائرة ولأول مرة في حياتي بإحساس جميل سمعت عن الطائرة ولم أكن أتوقع بأنه سيأتي يوم وأركب الطائرة.. هاهو يتحقق الحلم عام 1957م.. وعندما طارت بنا الطائرة إلى روسيا وبمجرد دخولنا الأجواء الروسية شعرت وزملائي بالذهول عندما شاهدت الأرض بيضاء وهذه مفاجأة أخرى لم ترد يوماً في مخيلتي .. لم أستمتع بالمنظر كثيراً بسبب البرد القارس الذي داهمنا بغتة ولم نستطع تحمله كوننا قادمون من الحديدة وحرارة الحديدة حتى أننا لم نجهز أنفسنا بملابس شتوية لنواجه ذلك البرد والثلوج فمشاهدة الثلج يغطي روسيا كان خارج نطاق خيالنا وتفكيرنا.. هبطت بنا الطائرة ونزلنا إلى عالم العجائب وبلاد من الصعب أن نقارنها باليمن الملكي.. البرد داهم أجسادنا حتى كدنا نشعر بأرواحنا تخرج لولا أن السفارة أرسلت من يستقبلنا ومعهم بالطوهات «ملابس شتوية» خففت عن البرد القارس وظلينا فترة لا نتفاهم مع الروس والدكاترة إلا بلغة الإشارة حاولنا التكيف في روسيا ولم نستطع وبعد عام نقلنا إلى طشقند...ذهبنا للدراسة في جامعة موسكو بعد أن تم توزيعنا بالسكن الجامعي الاساتذة الروس تفاجؤوا أن اليمن أرسل إليهم طلبة الدراسة الطب مؤهلهم الدراسي أنهم درسوا في الكتاب «معلامة» قرآن كريم وعندما سؤلنا عن الفيزياء والكيماء والرياضيات وجدناها أسئلة ليس لها أي حاجة في روسيا فنحن لا نعرف شيئاً عن الفيزياء والكيماء إلا أن الروس قدروا الوضع الذي فيه اليمن بتلك الفترة من الحكم الإمامي وحاولوا استيعابنا لدراسةالطب وبدأوا معنا من البداية أخذنا سنة تمهيدية تعلمنا فيها اللغة الروسية وبعض العلوم الجديدة علينا ودرسنا الطب لمدة عشرة أعوام بزيادة أربع سنوات عن المطلوب للتخرج وعلى الرغم من أننا لم ندرس أي مواد علمية ومعلوماتنا فيها صفر إلا أننا تجاوزناها واستطعنا التكيف معها والاندماج مع الطلاب الروس والعرب والأجانب بل وكنا نتفوق عليهم في كثير من المواد حتى أننا فاجأنا الدكاترة الروس من قدرتنا على الاستيعاب السريع والمضي دون أي عثرات في دراسة الطب لأننا أصررنا بأن لا نرجع الوطن إلا ونحن نحمل شهادة الطب هي التي جعلتنا نتحدى أنفسنا ونحقق الحلم الذي طمحنا فيه وهو أن نكون أول أطباء يمنيين نخدم بلادنا ..بعد عشر سنوات من الدراسة حصلنا على دبلوم طب عام وعدنا إلى الوطن ووجدناه متغيراً إلى ألأفضل وانتقل من الحكم الإمامي إلى النظام الجمهوري أنها الثورة السبتمبرية التي جاءت لإنهاء عهد كهنوتي والقضاء على الظلم والجهل والمرض نعم وصلنا عام 1967م أول أطباء يمنيين هنا كانت المسئولية علينا كبيرة وبلادنا كانت تحتاج إلى أبنائه المتعلمين أكثر من أي وقت مضى للنهوض به وتخليصه من الأمراض التي لحقت به... بدأ مشوارنا في العمل بالمجال الطبي وقد كان غريباً على اليمنيين أن يشاهدوا طبيباً يمنياً وزعت وزارة الصحة الأطباء اليمنيين على المستشفيات وكل منا عاد وله طموح وأحلام يسعى إلى تحقيقها.. أحد الدكاترة المغفور له بإذن الله أحمد صالح تزوج بروسية أثناء الدراسة و الظريف في الزواج أنه عندما أنهينا الدراسة وأوشكنا على مغادرة روسيا استطاع أن يقنع الروسية باليمن والتحضر الذي فيها حتى أنه أوهمها بامتلاكه قصر بالحديدة وصدقت أن قصر الإمامة قصره وأول ما وصلت اليمن أسكنها بمنزل من القش والماء ينقل بالحمير من المدب. شاهدت صوراً للتخلف لم ترها في حياتها فصدمت بتخلف اليمن كما صدمنا نحن بتقدم روسيا.. بعد عامين لم تستطع أن تصمد كثيراً فهربت إلى بلادها مما يدل أن اليمن كانت تحتاج الكثير والكثير حتى تنتقل من وضع مأساوي إلى وضع أفضل يحقق لأبنائه العيش الرغد الكريم.. يضيف الدكتور محمد عثمان الشابرة كانت هناك معوقات تقف أمامنا ونحن نمارس مهنة الطب ونقدم الخدمات الطبية للمرضى فأغلب الناس يلجأون إلى المشعوذين للعلاج والقليل من يأتي إلى المستشفيات نتيجة انعدام الثقافة على الرغم من التطبيب والعلاج المجاني وعندما بدأ وعي الناس يزداد وجدنا إقبالاً على المستشفى وكانت الأمراض المنتشرة حينها الأمراض الوبائية وتضخم الطحال والكبد نتيجة شرب المياه الملوثة.. ومن الأمراض التي واجهناها مرض الكوليرا الذي أودى بحياة الكثير من المواطنين ولأول مرة يدخل اليمن وتم التحرك لإنقاذ المواطنين وردم المستنقعات ومكافحة البعوض والحمدلله جاءت جهود الجميع مكللة بالنجاح. هذا المستشفى شهد مقتل واحد من الأطباء الذين تخرجوا معنا “أحمد صالح” حيث قام أحد الممرضين بإلقاء قنبلة علينا ونحن في الاجتماع ليتوفى طبيب وممرض ومثل وفاته خسارة على اليمن.. وقصة القاتل أنه أحد الممرضين كان مدمن ميروفين عندما اكتشف أمره قطع عنه الميروفين نظراً لخطورته على صحته ذهب واستلم سلاح آلي وقنبلة من المقاومة الشعبية لمواجهة فلول الإمامة وأعداء الثورة إلا أنه استخدمها في حق طبيب ليودي بحياته ونال على الفور جزاءه من قبل المقاومة الشعبية التي اعدمته فوراً. وفي المستشفى تعرفت وأنا ممرض بالشهيد محمد العلفي الذي كان ضابط أمن المستشفى ارتبطت معه بصداقة قبل أن أسافر روسيا وعندما علم بأن الإمام أحمد سوف يأتي لزيارة صديق مقرب له بالمستشفى حينها منع العلفي حراسة الإمام من الدخول بأسلحتهم ويبدو أنه كان يخطط لقتل الإمام وتخليص اليمن من بطشه وجبروته وأثناء خروج الإمام من المستشفى نزل الإمام من الدرج وكان بطيئاً في السير لثقل جسده أطلق عليه النار وظن أنه قد مات إلا أنه أخذ للعلاج في روما.. وأعدم العلفي.. بعد قيام الثورة أطلق على مستشفى الأحمدي بمستشفى العلفي تخليداً وعرفاناً بدوره البطولي في مواجهة الظلم والاستبداد وظل المستشفى إلى اليوم يقوم بدوره رغم تقادم الزمن عليه ورغم الإشاعات من أنه آيل للسقوط وإذا كنا نحتفي ب50 عاماً على قيام ثورة سبتمبر فإني أقول أن الوضع أصبح أفضل مما كان عليه قبل الثورة وإن المستشفى يستعيد عافيته منذ أن عين فيه الدكتور محمد قطقط وجهزت فيه الأٌقسام وعيادات الطوارئ وهي جهود متواصلة بذلت من قطقط وقبلها تواصلت الأعمال للحفاظ على المستشفى من قبل الدكتور عبدالرحمن جار الله والبيضاني والأيام القادمة كفيلة بأن تعيد للمستشفى حيويته في تقديم الخدمات الطبية لمرضى المحافظة وعلى مستوى عالٍ من التطبيب.