الحديث عن دور تعز في الانتصار للثورة اليمنية إنما هو محاولة للاقتراب من عمق الحقائق التاريخية، وما أكثرها، فتعز كانت وماتزال حاضرة بقوة في كل معنى من معاني التغيير، السلام، التنمية، الحاضر، الماضي، المستقبل، الفكر والثقافة، فإذا كان في جيب من جيوبها وضعت خطة التخلص من الأمير أحمد في وقت متزامن مع القضاء على حكم أبيه عام 1948م وفيها مورس أول اعتصام طلابي، ومنها انطلق قطار الشباب الذين أسسوا ألوية الجيش وأداروا عجلة التنمية، فهي المدينة التي تدرب فيها ثوار 14أكتوبر وتزودوا بالسلاح ورسمت خطة عملية صلاح الدين الفدائية التي صدّعت رأس بريطانيا، وجمعت قيادات الوطن من أجل لم شتاته في لحظات تاريخية مختلفة. بين عهدين كانت تعز دائماً منارة إشعاع حضاري وطبيعة المدينة أهلتها للعب أدوار متميزة في مسار التغيير ودعم وإسناد الثورة اليمنية 26سبتمبر 1962و14أكتوبر 1963م من دور رموزها وسخاء تجارها وصيحات طلابها وتفاعل رجالها ونسائها مع ضرورات رفض الظلم ومقاومة الاستبداد. تعز التي خنقت نواحيها المجاعات وجور الحكم الإمامي خرجت منها هجرات وتدفقت مجاميع إلى عدن والخارج وطّنت نفسها على الانتفاع من مظاهر حضارة العصر وغذت أحرار اليمن بالمال وسبل الحصول على الدعم متعدد الصور، وتصدر علماء ومثقفون واجهة العمل على التأثير في النظام الحاكم عبر دعوات الإصلاح ثم مقارعته من خلال الخطابة والكتابة ودعم وقيادة جهود تعليم عامة الشعب والعمل التعاوني وتنظيم المعارضة السرية، فكانت تعز قاعدة انطلاق لوعي ثوري بحكم قربها من عدن وتزايد إيجابيات خصائصها كعاصمة فعلية لحكم الإمام أحمد الذي سمع بإصدار صحف فصدرت صحيفة «النصر» في فبراير 1952م كصحيفة حكومية وصدور صحيفة “سبأ” الأهلية بعد عامين وهي خطوة فكرية حركت المياه الراكدة. مآسٍ عاشت تعز مآسي في الأربعينيات عندما كان أحمد حميد الدين ولياً للعهد، حيث فتكت المجاعة بكثير من الناس وفرضت ضرائب لاحقاً على الناس، وجاء فشل ثورة 1948م ليزيد من حالة الشعور بالكبت وكان مخططاً التخلص من ولي العهد في تعز، كل ذلك جعل الإمام الجديد أكثر سلطاناً وفي منتصف الخمسينيات كان شعور الناس بالقهر من عبث العسكر قد بلغ مداه وفشل انقلاب الثلايا، ومع ذلك اهتز الإمام من داخله وفتح نافذة صغيرة للتعليم من خلال أربع مدارس ابتدائية ومدرسة متوسطة ثم مدرسة الأحمدية الثانوية وتحت وقع الثورات العربية وتنامي الشعور القومي تزايد إرهاصات الثورة رغم حيل الإمام وعلاقته بالجمهورية العربية المتحدة. أول اعتصام طلبة المدارس كانوا هم الطلائع الذين استحال صمتهم في تلك الأجواء، ففي شهر أغسطس عام 1962م تفجر الوضع داخل المدرسة الأحمدية في تعز وهتف الشباب من جوفها ضد الإمام ونادوا بالجمهورية، فوجه الإمام بإغلاقها على من فيها فقبل الطلاب التحدي وبدأوا اعتصاماً وقف فيه المواطنون بشجاعة إلى جانب أبنائهم وبالذات النساء، والتجار الذين بادروا إلى إمداد المعتصمين بالماء والغذاء أياماً وليالي متواصلة ومارس الناس حيلاً وغالطوا العسكر من أجل إيصال الغذاء للطلاب المعتصمين، وحسب تعبير صاحب كتاب “تعز غصن نظير في دوحة التاريخ العربي” محمد محمد المجاهد فقد حمل كثير من الناس رؤوسهم على أكفهم من أجل إمداد الطلاب وكانت ملحمة خالدة مثلت أنصع صور التبشير بقيام ثورة 26سبتمبر 62 شعر معها الإمام بالقلق فقبل نصيحة تسريح الطلبة من المدرسة بسلام، وفر الطلاب المغادرون للمدرسة بعيداً عن تعز واستقر بعضهم في عدن وشهدت المدينة بعد هذه الحركة غلياناً فكانت أشبه بشجرة حان وقت قطف ثمارها. عام التظاهرات المظاهرات الطلابية الثورية كما في مايو من نفس العام والتي اصطخبت بها مدننا وصفها أديب اليمن الكبير عبدالله البردوني في اليمن الجمهوري ب«الزحف إلى أبواب ثورة سبتمبر، صوت الوطن وصحوة ضميره». وفي 18سبتمبر 1962م سرى الهمس في أنحاء تعز وعمّت حالة ترقب حدث عظيم أصبح حقيقة أعلنتها إذاعة صنعاء بعد ساعات “مات الإمام” وبعد ثماني أيام أعلنت الجمهورية العربية اليمنية وسقطت الإمامة كنظام وقامت الحرب. رسالة جديدة عندما وصلت إشراقة شمس الثورة إلى بؤرة الظلام لتبدده بدأت مدينة تعز رسالة جديدة تشدها إلى جميع جنبات الوطن، فقد استقبلت تعز آلاف الشباب من جميع الأنحاء، باعتبارها مدينة النور الذي تعاظم به يوم السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م ففي تعز جرت تعبئة الشباب المتقاطر إلى المدينة قبل إرسالهم في قوافل الحرس الوطني إلى صنعاء والشمال لمقاومة فلول الملكية البائدة الرافضين للثورة وبعد عام واحد فقط بدءاً من 14أكتوبر 1963م وضعت تعز نفسها تحت تصرف الثوار الذين فتحوا جبهة تحرير الجنوب المحتل وأصبحت قاعدتهم التي ينطلقون منها في عملهم الفدائي ضد المستعمر الأجنبي وعملائه فكانت تعز منبع البركان المدمر للرجعية والاستعمار وإزاء قدرها هذا صمدت أمام المعادين لهذا المسلك والذين كان ردهم العدائي سبباً أنتج وضعاً صعباً، حيث عاشت تعز فترة عصيبة من انفجارات القنابل والألغام في شوارعها وبجانب المساجد ودور السينما وأماكنها المزدحمة والآمنة، إلا أن جميع سكان تعز آمنوا برسالتهم ودور مدينتهم وتقبلوا ما يحدث بمعنوية نادرة الشمم وتفاعلوا مع برامج الإذاعة الموجهة لثوار الجنوب من نهاية عام 1964م لنصرة الكفاح المسلح. في ظل ثورة سبتمبر شهدت مدينة تعز حركة عمرانية وتغييراً اجتماعياً ملحوظاً بالهجرة الجديدة إليها واستقبالها الآلاف من المهاجرين العائدين والمقاتلين المنطلقين منها وأيضاً العرب القادمين من جمهورية مصر العربية مقاتلين للدفاع عن ثورة سبتمبر وأطباء ومعلمين ومهندسين وعمال بناء ساهموا في تأسيس معالم الثورة التعليمية والصحية والعمرانية فكانت تعز منذ السنوات الأولى للثورة متصدرة قيادة تجسيد إرادة التغيير الثوري بما اكتسبته من مؤسسات وكوادر بناءة شاع خيرها وعطاؤها عبر الوطن وربوعه. الانتقال من عدن ومثلما كان للتجار والمهاجرين من أبناء تعز والمغتربين دورهم البارز في دعم وإسناد الأحرار وتمويل الثورة فإن المواطنين الذين كانوا يقيمون في عدن حصلوا على الدعم وتحرك منهم مجاميع إلى تعز للتهيئة والإعداد والتعبئة والانتقال إلى ساحة معركة الثوار ضد أعداء الثورة من خلال قوات الحرس الوطني وتشكيلات أخرى. المناضل أحمد قحطان الجنيد وهو من أوائل الملتحقين بالحرس وصف حالة الزخم الثوري هذه حيث قال: استقدم الشباب الوطني الثائر من عدن فتركوا أعمالهم من أجل الدفاع عن الثورة والنظام الجمهوري الذي تكالب عليه الرجعيون والعملاء فكان الواحد منا يحصل على “بطانية” وعشرين شلناً فينطلق ضمن مجاميع من عدن إلى تعز وكان معظم هؤلاء من نواحي محافظة تعز وكان تدريبهم في صالة ليشكلوا طلائع الثورة. تعليم عسكري من هؤلاء الشباب من ابتعثوا للدراسة في مصر عبدالناصر وحصلوا هناك على التدريب والتأهيل في المعادي وكان كثير من الخريجين والقادة فيما بعد في الحرس وأربعة ألوية أغلبهم من تعز قاتلوا ضد أعداء الثورة ومعهم إخوانهم من الجنوب ومن كل ربوع اليمن واستشهد البعض وأصيب آخر وانتصرت بهم الثورة، لكن مدينة تعز ومواقع صالة والحوبان تميزت بأنها كانت تبني جناحين للنسر اليماني فهناك تدرّب الثوار لدخول معارك الدفاع عن الثورة والجمهورية وفي نفس الوقت يتم تعبئة وتدريب وتسليح أبطال وفدائيي الكفاح المسلح في الجنوب وتلك من أبرز مميزات دور تعز في الثورة اليمنية الواحدة. قاعدة انطلاق ويرى قحطان أن تعز كانت دائماً مدينة السلام وتتسم بالمدنية وحاضن للقوى المؤمنة بالقانون، وهذا من أسباب انجذاب كثير ممن خرجوا إلى بعد استقلال الجنوب وكذا الحديدة التي طابعها مدني فكانت تعز قاعدة انطلاق لثورتي سبتمبر26 و14أكتوبر 63وفيها خرجت تظاهرات رافضة لانقلاب 5نوفمبر 1967م والأحداث التي أعقبت فك الحصار عن صنعاء وتحديداً أحداث اغسطس 1968م. تعز الثقافة والمدنية أ.د عبدالله الذيفاني يرى أن تعز طبيعتها مدنية وعاصمة للثقافة اليمنية ولم تكن يوماً إلا مع التغيير نحو الأفضل ويضيف: في عام 1948م جاء تشكيل الفدائيين في تعز من أجل الانتصار للثورة في هذا العام والتي لم يكتب لها النجاح.. وفي تعز حدث انقلاب عام 1955م وبعد قيام ثورة 26سبتمبر أصبحت ورشة عمل نشطة تدرّب فيها الحرس الوطني كأول تشكيل عسكري ونواة للجيش الوطني وكان مركز الإعداد والتدريب في صالة بمثابة أكاديمية عسكرية.. كما كانت تعز ورشة حقيقية بالنسبة لتعبئة وتدريب مقاتلي ثورة 14أكتوبر كما أن تعز بطبيعتها المدنية والثقافية لم تكن سوى ملهمة الثوار. حالة طارئة ويؤكد الذيفاني أن تعز لم تعرف السلاح إلا الآن، وانتشار السلاح بيد البعض لم يأتِ إلا بفعل مقصود وممنهج وهو أمر ليس طبيعياً ولا عادياً وإنما جاء من جاء بالسلاح للإساءة إلى مدينة تعز وانحيازها الدائم إلى التغيير، إلا أن هذا الأمر حسب د.الذيفاني أمر طارئ ربما قصد به البعض تشويه تاريخ المدينة ويبقى ظهور السلاح حالة طارئة في تعز والطارئ سيزول ولن يدوم إلا ما هو أصل وجوهري. واقع الحال هذه السمة وتلك الخصوصية لتعز جعلتها قبل الثورة قبلة لأبناء اليمن وفيها نشأت تنظيمات سرية وبها وجد التعليم الحديث مكاناً لا سيما بعد أن اهتز عرش الإمام أحمد بفعل حركة 1955م وتنامي الشعور القومي وخصوصية تعز. تاريخ مجيد تعز كانت عبر تاريخها المجيد حاضرة، وعلاقتها وثيقة ومستمرة في فعل التغيير في اليمن، هذا الأمر لا يُزعم زعماً ولايدّعى ادعاءً إنما هو تاريخ حسب رأي أ. فيصل سعيد فارع، مدير عام مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة. دور محوري وأضاف قائلاً: كانت تعز حاضنة وعاصمة للفكر والثقافة منذ تأسست فيها أول مدرسة إبان الدولة الأيوبية وتواصل هذا الدور وتأسس أكثر فأكثر في عهد الدولة الرسولية وتواصل في التاريخ الحديث الأمر الذي جعل دورها محورياً و ارتكازياً في تاريخ اليمن والحركة الوطنية كحاضنة لفعل التغيير ولأبناء اليمن منذ ثلاثينيات القرن العشرين والتأسيس لحركة معارضة لنظام الحكم الإمامي ولعبت دوراً محورياً إلى جانب عدنوصنعاء في التهيئة لثورة 1948م وحركة 1955 والتأسيس لفعل التغيير الذي نحتفل به اليوم وهو ثورة 26سبتمبر عام 1964م فكانت تعز حاضرة في التهيئة والإعداد للثورة ولو لم يمت الإمام أحمد قبل أسبوع من انفجار الثورة السبتمبرية لكانت انفجرت في تعز. الدفاع عن الثورة واستطرد قائلاً: هذا الدور الارتكازي لتعز في قيام الثورة السبتمبرية وفي الدفاع عنها وتجسيد مبادئها والانتصار لأهدافها تواصل في التأسيس لانطلاقتين: دعم وإسناد حركة الثوار ضد الاستعمار البريطاني في الشطر الجنوبي من الوطن “سابقاً” التي انطلقت شرارتها في 14 أكتوبر 1963م كون تعز مثلت حاضنة للثوار ومنطقة تعبئة وتدريب لمناضلي ثورة 14أكتوبر وكان هذا الدور محورياً أيضاً. حضور مستمر وتواصل دورها في حماية النظام الجمهوري وتجربة الثورة التي عانت من تدخلات وأعداء من الداخل والخارج لمدة ثماني سنوات.. تداخلت أجواء الثورة اليمنية وتواصل حضور تعز في الفعل الثوري في فعل التغيير ولاتزال في قلب الحالة الثورية مثلما هي حاضرة في تاريخ الوطن. تعز اليوم رموز وعشرات المناضلين الذين حملوا مشاعل التغيير فكانوا رواداً وتنوع عطاؤهم الثوري على امتداد مسيرة النضال الوطني فكانوا فرساناً في ساحة الفكر وميدان الكلمة الثائرة، أسخياء بالمال والجهد والدم، وطاقات هائلة في كل مجال. عمل وبناء ومن تعز تدفقت أفواج الشباب إلى ساحة البناء والإعمار في مختلف مجالات التنمية في ربوع الوطن.. أما واقع حال تعز اليوم فيقول: تعز واحة المدنية .البعض يريد الإساءة إلى مدنيتها ونقل قيم البداوة من خارجها وسلاح القبيلة إلى شوارعها، تعز لن تكون إلا مدنية اختارت وستنتصر لمشروع الدولة المدنية ما دام فيها الحامل الاجتماعي لهذا المشروع ، كما كانت منذ فجر الثورة اليمنية.