في حياة الأمم والشعوب شخصيات مؤثرة لفتت الانتباه فكثر الحديث حولها من خلال الفكر الذي تحمله والاتجاه الذي تنتمي إليه.. وهناك العديد من الشخصيات التي أثرت في واقعها واكتسبت شهرة وأضحت مثار جدل واسع بسبب النهج الذي تسير عليه، والتفكير الذي تجعله طريقاً تسير عليه نحو أهدافها..ومحور شخصيتنا هنا شاعر عربي كبير أكثر ما يوصف به أنه شاعر الحرية والتمرد والمنفى. شاعر وصفه الكثير من النقاد بأنه أتى بما لم تستطع الأوائل أن تأتي به من خلال أشعاره التي اعتبرها الكثيرون بأنها مدرسة شعرية قائمة بذاتها وذلك لأن أشعاره وقصائده جاءت على شكل «اللافتة» التي يرفعها المتظاهرون من حيث الإيجاز والسهولة والموقف المحدد والهدف التحريضي أو ما يسمى في الأدب الحديث بقصيدة «الومضة» فمن هو أحمد مطر هذا الشاعر الذي أثر في الحركة الشعرية العربية وأصبح شعره بلا شك كسياط بيد جلاد لا يرحم. لما سئل الشاعر أحمد مطر أن يعرف عن نفسه بنبذة قصيرة قال: إن أقصر قصة كتبها إنسان هي التالية «رجل ولد وعاش ومات» ثم استرسل «وأنا أعتقد أن سيرتي شأن أي مواطن آخر في أوطاننا الجميلة يمكن أن تروى على النسق نفسه بشيء من التطويل لتكون كالتالي : رجل ولد ولم يعش ومع ذلك سيموت». ولد الشاعر أحمد مطر في مطلع الخمسينيات ، ابناً رابعاً بين عشرة أخوة من البنين والبنات في قرية «التنومة» قرب البصرة في العراق، وفيها نشأ وترعرع ومنها استمد حلمه وأمله وواقعه ومشاعره، ووسط غابات نخيل شط العرب هناك قضى طفولته الأولى، وقد وصف قريته ذات مرة بأنها «تنضح بساطة ورقة وطيبة وفقراً، مطرزة بالأنهار والجداول وبيوت الطين والقصب والبساتين وأشجار النخيل التي لا تكتفي بالإحاطة بالقرية بل تقتحم بيوتها. في آواخر السبعينيات من القرن الماضي غادر أحمد مطر العراق إلى الكويت حيث عمل هناك محرراً ثقافياً في صحيفة «القبس» وفيها بدأ نجمه يتصاعد، فقد كانت لافتاته الشعرية تتصدر افتتاحية الصحيفة على صدر صفحتهاالأولى واعتبر مطر «القبس» بمثابة الأم التي تحتضن ولدها وترعاه. ولم يستمر أحمد مطر كثيراً في الكويت بسبب أن قصائده ولافتاته الصريحة أثارت حفيظة مختلف السلطات العربية فغادرها إلى لندن عام 1986م وبصحبته رفيق دربه الشهيد «أبو حنظلة» ناجي العلي الذي اغتيل فيها بعد عام من وصوله، ومن لندن أطلق أحمد مطر العنان لقلمه وفكره بالتوجه بالنقد اللاذع ليس للأنظمة المستبدة فحسب بل إنه هاجم بشدة حالة المواطن العربي الذي يلتزم الصمت، ولا ينطق بكلمة رفض أو يطلق صوت غضب، فتحدث بسخرية عن الأحزاب التي لا تعدو أن تكون «دكاكين سياسية» في بعض الأقطار وهي رغم ذلك تنشق كل يوم عن بعضها، ويقول شعراً في هذا السياق: أكثر الأشياء في بلدتنا الأحزاب والفقر.. وحالات الطلاق عندنا عشرة أحزاب ونصف الحزب.. في كل زقاق كلها ينشق في الساعة شقين وينشق على الشقين شقان.. وينشقان عن شقيهما من أجل تحقيق الوفاق!! وعندما تعرضت أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م لهجمات مدمرة من قبل تنظيم القاعدة اعتبر مطر أن هذه الهجمات ما هي إلا نتاج سياسة واشنطن تجاه المسلمين فقال: لئن نزلت عليك اليوم صاعقة فقد عاشت جميع الأرض أعواماً وما زالت.. وقد تبقى على أشفار زلزالك وكفك أضرمت في قلبها ناراً ولم تشعر بها إلا وقد نشبت بأذيالك11 ثم يسخر من مخابرات أمريكا المركزية وفي نفس الوقت يستنكر من سياسة الكيل بمكيالين فيقول: أتعرف رقم سروال .. على آلاف أميال وتجهل أرقماً في طي سروالك؟ أرى عينيك في حول فذلك لو رمى هذا ترى هذا وتعجب لاستغاثته ولكن لا ترى ماقد جنى ذلك!! ثم يعرج مطر إلى القول إن الإرهاب ماهو إلا صنيعة أمريكا وهي التي جندت من أجله وفي سبيل نمائه الكثير من الأموال: بفضلك أسفر الإرهاب نساجاً بمنوالك ومعتاشاً بأموالك ومحمياً بأبطالك..!! فهل عجب.. إذا وافاك هذا اليوم ممتناً ليرجع بعض أفضالك؟! وفي نهاية قصيدته سخر مطر من قوة أمريكا الصناعية والعسكرية وحذرها بأنها مهما بلغت من القوة فإن إذلالها سيأتيها من حيث لا تتوقع: إذا دانت لك الآفاق أو ذلت لك الأعناق فاذكر أيهاالعملاق أن الأرض ليست درهماً في جيب بنطالك ولو ذللت ظهر الفيل تذليلا فإن بعوضة تكفي .. لإذلالك!! ولأن الكثير من النقاد أطلقوا عليه لقب شاعر الحرية فأن هذا اللقب لم يكن عبثياً ، لأن مطر سخر قلمه كثيراً ليسخر من الحرية التي تتشدق بها بعض الأنظمة العربية والنظام العالمي الجديد، فيقول في قصيدة يرثي بهاالحرية عنونها ب«دمعة على جثمان الحرية»: أنا لا أكتب الأشعار فالأشعار تكتبني أريد الصمت كي أحيا.. ولكن الذي ألقاه ينطقني ولا ألقى سوى حزن .. على حزن.. على حزن.. أأكتب أنني حي على كفني؟؟ أأكتب أنني حر وحتى الحرف يرسف بالعبودية لقد شيعت فاتنة تسمى في بلاد العرب تخريباً وارهاباً .. وطعناً في القوانين الإلهية ولكن اسمها والله.. لكن اسمها في الأصل.. حرية وفي قصيدة أخرى تحمل اسم «صدمة» يسخر من الحرية الزائفة بالقول: شعرت هذا اليوم بالصدمة فعندما رأيت جاري قادماً رفعت كفي نحوه مسلماً مكتفياً بالصمت والبسمة لأنني أعلم أن الصمت في أوطاننا .. حكمة ..!! لكنه رد عليّ قائلاً : عليكم السلام والرحمة ورغم هذا لم تسجل ضده تهمة الحمد لله على النعمة من قال ماتت عندنا حرية الكلمة ..!! ويتحدث شاعرنا مطر عن زعيم النظام العالمي الجديد الذي أطلق إبان هجمات سبتمبر بأن ما يقوم به من حرب ضد ما يسميه الإرهاب إنما هي العدالة المطلقة ، وقد تناسى هذا الإله الجديد كما يسميه مطر أن العدالة المطلقة لا تكون إلا لله الواحد. وبعد هذا التمرد والخروج من دين هذا الإله المزيّف يعلن مطر أنه لن يتنازل قيد أنملة عن كرامته وأرضه حتى وإن لاقى في سبيل ذلك الويلات والصعاب وأصناف البلاء : أنا لست عبداً لعبد مريد أنا واحد من بقايا العباد إذا لم يعد في جميع البلاد سوى كومة .. من عبيد العبيد فأنزل بلاءك فوقي وتحتي وصُب اللهيب .. ورصّ الحديد أنا لن أحيد .. لأني بكل احتمال سعيد مماتي زفاف ومحياي عيد سأرغم أنفك في كل حال.. فإما هزيز .. وإما شهيد..!! وبعد هذه التناولة لابد من التنويه إلى أن مطر استحق بكل جدارة أن يحمل لقب شاعر الحرية والتمرد ، إنه الشاعر الذي قدم لنا فناً شعرياً رائداً ومميزاً ، وانتج إبداعاً جديراً بالقراءة والدراسة والنقد .. إنه مزيج من المنفى والغربة والحزن والأسى والثورة والسخرية والحب .. إنه أحمد مطر .. وكفى ..!! المراجع : * أحمد مطر شاعر المنفى محمد عايش * مجلة الحدث الكويتية العدد 24 يوليو 1998 * اللافتات.