قبل أيام كنت أستمع لأنشودة إسلامية للأطفال، راع انتباهي فيها صوت المنشد، الذي كان قبل أكثر من عشر سنوات إماما لأحد مساجد غرب عمّان حيث كنت أصلي التراويح، الشاب الذي كان صوته مقبولا في قراءة القرآن الكريم في صلاة التراويح، بدا وهو يكاد يختنق وهو يحاول أداء الأنشودة مع طفل ربما كان ابنه أو أحد أقربائه حال بقية الفيديو كليبات للمنشدين الإسلاميين، التي أصبحت موضة الظهور مع الأطفال الأبناء أو الأقرباء الأطفال، كما هي موضة الغناء غير الإسلامي برفقة الدويتو النسائي للتجميل ليس غير. الاختناق الذي بدا على المنشد وهو يحاول أداء طبقة عالية تشبه الموّال رغم طبقة صوته المتواضعة، ولدّ عندي ما كنت أتمنّى أن لا أكتبه، وهو هذه اللوثة الجارفة من النشيد الإسلامي المتواضع في الأداء واللحن والكلمات التي بدأت تجرفنا جميعا، لأن المطلوب كان بديلا إسلاميا للغناء الهابط على الفضائيات، فتمّ أسلمة أيّ شيء لملء هذا الفراغ!.
عرف اليسار العربي قبل نحو نصف قرن حركة غنائية فوضوية كان يغنيها أيّ أحد، انتهت بسقوط كل هذه الأسماء المتواضعة في المقدرة، وبقيت منها فقط ما يمكن اعتبارها صاحبة صوت تكنوقراط مؤدلج، إذا جاز التعبير، فانهارت الأصوات الضعيفة ولم يسمع بها أحد وظلّت أسماء قليلة هي التي لم تزل إلى اليوم تذكر إذا ذكر الغناء السياسي، فعلى الجبهة المصرية كان صوت الشيخ إمام الراعي الرسمي لقصائد أحمد فؤاد نجم هو الباقي من حقبة الغناء السياسي تلك، لما يتمتع فيه من درجة فائقة بجمال الصوت ومثله الأداء، وكعادة الساحة اللبنانية الأكثر تجربة في العمل السياسي بقيت اليوم فئة قليلة من الأسماء الكثيرة التي شاعت في الغناء السياسي منذ هزيمة 67 وحتى أحداث لبنان التي لم تنتهِ إلى اليوم، فجوزيف صقر والذي يعرفه الكثيرون من غير العاشقين للسياسة لما كان يمتلكه من جمال صوت في مجموعة مسرحيات الرحابنة، ومن غير المؤدلجين وخصوصا الشيوعيين، لا يعرفون قصائده ومواويله الرائعة التي أدّاها مع زياد الرحباني، ومعظمها تتعلّق في الاضطهاد الذي لحق بالعنصر الشيوعي أمنيا، وكان توظيفا فريدا من زياد الرحباني لمطرب معروف بأغانيه العامة مثل «اللي علينا مشتاق» و»الحالة تعبانة يا ليلى»، في الغناء السياسي، أمّا أحمد قعبور مثلا وهو أيضا صاحب صوت جميل كذلك منذ أغنيته لقصيدة «أناديكم» للشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد، أذكر أنّه في الدورة الرياضية العربية عام 99 ورغم مئات الأكوام من مطربي اليوم، استعانت إدارة الدورة الرياضية العربية بصوته الجميل لأداء أغنية «خيال عبر» في كرنفال عربي جماعي فريد، ومن اللبنانيين خرج آخرون بقي منهم أصحاب الأصوات الجيدة مثل مارسيل خليفة، وغاب الآخرون من الأصوات التي لم تنافس في جودة صوتها وأبقت على حضورها السياسي فقط، حال الكثير من المنشدين الإسلاميين اليوم!.
من الإنصاف بمكان القول إنّ بداية عهد النشيد الإسلامي كانت مرحلة منافسة بالجودة، أظهرت عددا من المنشدين أصحاب الأصوات المميزة التي لم نكن نعرف أسماءها إلا بالأسماء الحركية، ومعظمها من المنشدين السوريين الذين كانوا يؤدون قصائد لشعراء مصريين مثل سيد قطب وهاشم الرفاعي، من هؤلاء المنشدين أبو الجود صاحب طبقة فريدة في الصوت، وكذلك أبو دجانة والترمذي وأبو مازن، ومعظمهم اعتزل النشيد بعد أحداث الأخوان المسلمين في سوريا بداية الثمانينيات من القرن الفائت، وبعضهم عاد منشدا صوفيا كما فعل أبو الجود نفسه بعد غياب طويل. المهم أنّ فترة غياب المنشدين أصحاب الأصوات الحقيقية، ونهوض ما يطلق عليه بفترة الصحوة الإسلامية استدعت ظهور طفرة غير نوعية، متواضعة وغير مؤهَّلة من المنشدين الإسلاميين، وعلى اعتبار أنّ الحديث في نقد تجربة النشيد الإسلامي، للأسف، كان يعتبر كالخوض في الإسلام محرما، زاد من حجم تخلّف هذا الفن الذي كان من الممكن أن يحمل رسالة عظيمة، فاليوم تتعرّض تجربة الغناء الهابط للنقد الفادح من المختصين، وتسفيه مستوى هذه التجربة، وصل في لقاء مع الشاعر أحمد فؤاد نجم أن وصف صوت مصطفى قمر بأنّه صوت أنثوي لا يحمل أيّ طرب تتلقّاه من فم رجل، وهو ما كان ينطبق على أحد الذين قادوا النشيد الإسلامي في الثمانينيات والتسعينيات والذي كان يصرّ في أدائه على تقليد أصوات النساء واستخدام نفس الطبقة الأنثوية في الغناء، لكن يسمح بالطبع بانتقاد مصطفى قمر على الفضائيات كصوت أنثوي، فيما يعتبر الخوض بنفس الحالة بالنشيد الإسلامي تطاولا على الإسلام، والإسلام نفسه!.
الغناء هو الغناء، لا يصبح غناءً إلاّ بالصوت الذي يقدر عليه، وهذا الصوت بعد ذلك يمتلك رسالة، ممكن أن تكون سياسية أو عاطفية أو دينية أو حتى إنسانية قبل ذلك، لكن ما لم يمتلك هذا الغناء أبجديات الصوت أولا فمصيره إلى الزوال، فالكلمة فيه مطلوبة، لكن القصائد الغنائية موجودة على الكتب واليوم في الفضاء، ووحدها لا تكفي، ومن الممكن أن يغنّي أصحاب الأصوات الجميلة من قصائد قديمة، يعني لا يضيفون جديدا على الكلمة بل الجديد في الصوت الذي ينشده المستمعون، فقد سبق مثلا لأم كلثوم أن غنّت لأبي الفراس الحمداني وغنّى ناظم الغزالي له أيضا، كما غنّى من المنشدين الإسلاميين أبو دجانة لابن الفارض، فكلهم لم يضيفوا على الكلمة جديدا لكنهم أضافوا الصوت الجميل الذي لا يمتلكه العدد الأكبر من المنشدين اليوم، ناهيك عن غياب الرؤية السياسية للنشيد في ضوء العمل على ما يطلبه فضاء الإعلام الخليجي، فلم تعد الأنشودة الإسلامية اليوم أصلا تعبّر عن موقف سياسي، من أجل الحصول على التوزيع المناسب فضائيا، فلم أسمع مثلا عن أنشودة إسلامية تتعرّض للاحتلال الأمريكي للعراق كأبرز حدث سياسي عربي خلال السنوات الخمس الماضية بسبب وجود مواقف إيجابية لبعض الدول الخليجية أصلا من احتلال العراق، وبقيت بعض أناشيد فلسطين عرضية باعتبار الموقف الرسمي العربي المعلن متقارباً ، فيها، فلسنا اليوم أمام أفكار وإنّما أمام الصوت العنصر شبه الغائب عن النشيد الإسلامي، الأمر الذي دعا قامة إسلامية كبيرة كالداعية عائض القرني للموافقة على أداء إحدى قصائده من قبل فنان العرب المعروف محمد عبده، واشترط للأحكام الشرعية فقط عدم اصطحاب الموسيقى!.