سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الجوف الكنز المخبوء! مفتوحة ككتاب مكنون.. مكتوب بلغة الكون الأولى .. يستجدي بكل لغات الدنيا.. روح المبادرة التي ستسهم في فك طلاسمه ونشر خباياه للوجود..
للجوف ماضٍ عريق وحضارة ضاربة في أعماق التاريخ وأعماق الأرض، هي كنز يحوي بين جنباته الحضارة والمستقبل معاً، وأنا أجوب صحراء الجوف القاحلة ووديانها المترعة بالخضرة والجمال تذكرت هذه الحقيقة، لحظتها غمرني إحساس فضيع بالزهور المستمد أصلاً من حب هذا الوطن، كيف لا! وأنا أمر فوق كنزه المخبوء.. سر التسمية من على قمة جبل (فرضة نهم) بدت الجوف أرض معين وموطن الحضارة الأزلي, مفتوحة ككتاب مكنون, حافل بالتاريخ، مكتوب بلغة الكون الأولى, يستجدي بكل لغات الدنيا روح المبادرة التي ستسهم في فك طلاسمه ونشر خباياه للوجود.. مضت السيارة بنا الهوينى تارة في اتجاه الشمس, وتارة في اتجاه الأرض, على ظهر لسان اسفلتي يتلوى كثعبان ماكر، هو في الأصل أكثر أماناً من عديد خطوط ثعبانية تنتشر في جبال السعيدة، نظراً لضآلة مرور السيارات فيه. بعد مرور ساعتين ونصف الساعة انحرفت وجهتنا صوب الجوف, عبر خط اسفلتي متفرع من خط (صنعاء، مأرب، سيئون)، هبت نسائم جافة أشعلت في داخلي لهفة الشوق, وحثت الخطى على استعجال اللقيا، سألت رفيقي رحلتي الشيخ مبخوت محمد هضبان والشيخ يحيى الهندوس, عن الجوف وسر التسمية فجاءت الإجابة بأن باطن الأرض غني بالمعادن الثمينة والآثار فقلت في خاطري وربما أن الأجداد قد تنبؤوا بكنوز أحفادهم فأسموها الجوف حتى لا يرحلوا عنها. وفي المقابل ثمة إجابة أخرى لم تبتعد كثيراً عما سبق, وقد ورد ذكرها في كتاب معجم البلدان والقبائل اليمنية بأن تسمية الجوف جاءت كتعبير تقريبي لطبيعتها الحاضنة للسيول القادمة إليها من جبال صنعاء الشمالية والشرقية وجبال خولان العالية وجبال نهم وهمدان وكذا سيول الأمطار القادمة من جبال نجران ومن جبال صعدة, وأن طبيعتها الصحراوية تحبس مياه هذه السيول لتشكل خزانات جوفية تُعطي النماء لأرض الجوف قاطبة. الجد الأول كانت رحلتي إلى محافظة الجوف قصيرة ومشتتة تخللتها فواصل عديدة وقصيرة، تجاوزت مديرية الغيل ودخلت مديرية المصلوب, وفي منطقة القارة التقطت بعدسة عيني صورة عامة لكل شيء، ومن ملامح الوجوه المشرئبة بدت وبوضوح هيئة الجد الأول, فقسمات الأجساد تتشابه، تتكرر وكأن الجميع أبناء لأب واحد، وقد "استشفيت" من على ملامحهم أصالة الإنسان اليمني والشهامة العربية والكرم الحاتمي وكل المعاني السامية التي تميز بها الإنسان اليمني عبر العصور، ومع نشوة اللقيا ثمة سلام مختلف أستوقفني، فالذي أعرفه ويعرفه كثيرون ان قبائلنا باتجاه الصحراء سلامها بعد التحية و«حُيُتو» لا يتعدى المصافحة واصطدام الأنوف, وهو الأمر الذي وجدت صعوبة بالغة في إتقانه حيث لم أستطع «التنشين» !! وأثناء تكرار المحاولات قلت في خاطري ترى هل تستطيع الوقاية الطبية أن تلغي هذه العادة المتجذرة في المجتمع البدوي خاصة مع التفشي المريع لأنفلونزا الخنازير! مدن الطين استمرت رحلتي دون توقف وهذه المرة إلى منطقة «ملاحا» حاضرة «بني نوف» الزاهية، وفوق اديم الذرات الرملية الساخنة وقفت أتأمل المشهد الأكثر روعة, الرايات البيضاء ترفرف في كل مكان, على أسطح المنازل الطينية العتيقة، وفوق السيارات «الشاصات» المكشوفة, تُلقي بتحيتها المسالمة التي بعثت في نفوسنا الاطمئنان. هناك بدت وبوضوح معالم الطراز المعماري الفريد الذي تتميز به مدن وقرى محافظة الجوف فمعظم منازلها طينية تتكون من التبن والطين وهي ذات أسطح مرتفعة الغرفة الواحدة قد تعادل ارتفاع طابقين مما هو متعارف عليه, ورغم ذلك فهي قوية وذات متانة وصلابة تقاوم كل أنواع التعرية الطبيعية والأمطار وغيرها. عاصمة المعينيين لحكمة أرادها معدو الرحلة خرجنا من بني نوف مديرية المصلوب من حيث لم نأت, وعبر طريق ترابي سلس متجاوزين عديد مناطق وأودية تتداخل على مساحات شاسعة فيها أراض زراعية غناء وأشجارها وارفة الظلال, بمدائن الطين البديعة, مُشكلة صورة معبرة عن ذلك الامتزاج بين الأرض والإنسان عنوانها البقاء والنماء والخير لكل الناس. بعد أكثر من ساعة ولجنا مدينة الحزم، عاصمة المحافظة، من الخلف فكانت بحق مدينة حديثة في جوف الحضارة، وتقع المدينة القديمة على مساحة حوالي 2 كيلو متر إلى الغرب من الحزم ويطلق على خرائبها «خربة آل علي» ومباني قرية علي أو المدينة كما تسمى أحياناً، مشيدة على أعلى جزء من المدينة القديمة وتظهر هنا وهناك بين المنازل الحديثة أطلال جدران حجرية قديمة وبالمدينة معبدان صغيران على حافة الجانب الشمالي لها, أما أهم الآثار فتقع في السهل على مسافة حوالي 300 متر شمال غرب مساكن آل علي, وحتى سنوات قليلة مضت كان يقوم في هذا المكان معبد ذو مدخل ظاهر للعيان مبني من كتل الجرانيت الضخمة المنقوش عليها مناظر مختلفة وأطلال هذا المدخل باستثناء أحد جانبيه لا تزال راقدة على الأرض. بالاتجاه شمالاً من مدينة الحزم، عاصمة المحافظة، وعلى بعد نحو «7» كم توجد مدينة معين « براقش» ، عاصمة مملكة معين القديمة، رابضة على ربوة صناعية من التراب لحمايتها من أضرار السيول الجارفة وعوامل التعرية التي لا ترحم وأيضاً كحماية دفاعية عند الحروب. بنات عاد أقام المعينيون مملكتهم في أرض الجوف السهلية بعد أن استغلوا ضعف مملكة سبأ في القرن الرابع قبل الميلاد, وعرفت بمدنها التاريخية على طول وادي الجوف السحيق, وكانت مدينة «قرناو» عاصمة تلك المملكة العظيمة, بالإضافة إلى “براقش” الحاضرة الثانية والعاصمة الدينية وكذلك مدن خربة همدان «هرم» والبيضاء «نشق» والسوداء «نشان» والقارة وينبأ وحزمة أبي ثور، ومن المعابد عثتر والنصيب, وجبل اللوذ ويغرو وكهف أسعد الكامل. وبالعودة إلى المراجع التاريخية الموثوقة, فإن التجارة وحماية القوافل كانت القاعدة الأساس التي قامت عليها الحضارة المعينية القديمة مما حدا بالملك الفرعوني, “بطليموس” بأن يصف المعينيين بأنهم شعب عظيم، وهي شهادة تاريخية واجب كتابتها بماء الذهب, عدها كثيرون مفخرة لحضارتنا القديمة خاصة وأنها صادرة من قائد أعظم حضارة في ذلك الوقت. تباشير مستقبلية قبل رحلتي إلى محافظة الجوف بيوم واحد كنت قد التقيت الدكتور ناجي صالح ثوابة الخبير الوطني في الشئون الصحية والبيئية ومحافظ الجوف السابق وبصفته أحد أبناء الجوف المرموقين كان يتحدث بعفوية مطلقة واعتزاز كبير عن محافظته المليئة بالكنوز والأسرار، فهي على حد وصفه تتميز عن غيرها من المحافظات اليمنية وعن مدن الجزيرة العربية بشكل عام، ففي مجال الثروات المستقبلية تمتلك ثروة مائية هائلة مخزونة في أحضانها الجوفية وتكفي لإرواء أراضيها الخصبة وأرض اليمن برمتها، كما أنها أرض زراعية تربتها عالية الخصوبة ومناخها يتواءم مع مختلف صنوف الزراعات، وإذا ما استغلت جيداً فإنها سترفد بلادنا بالكثير، وستكفينا مؤنة الاستيراد وأضرار الأزمات الاقتصادية العالمية المتوالية. وأضاف ثوابة: إن ثمة تباشير مستقبلة كشفتها دراسات أجريت مؤخراً عبر الأقمار الصناعية مفادها أن باطن أرض الجوف غني بالكثير من المعادن وفيه مخزون كبير من النفط، وفيما يخص الثروات التاريخية «الآثار» أكد ثوابة أن تاريخ اليمن القديم مازال في جوف الجوف، وأن المحافظة لو نالت نصيباً من الاهتمام والتنقيبات العلمية من قبل البعثات الأثرية المتخصصة, فإنها ستكون العاصمة الأثرية لليمن، لروعة ما تحتويه من كنوز أثرية نادرة, وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إنعاش الاقتصاد الوطني وتحسين بنية المحافظة التحتية..