العليمي يتحدث صادقآ عن آلآف المشاريع في المناطق المحررة    نصيب تهامة من المناصب العليا للشرعية مستشار لا يستشار    على الجنوب طرق كل أبواب التعاون بما فيها روسيا وايران    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    العليمي يكرّر كذبات سيّده عفاش بالحديث عن مشاريع غير موجودة على الأرض    كيف طوّر الحوثيون تكتيكاتهم القتالية في البحر الأحمر.. تقرير مصري يكشف خفايا وأسرار العمليات الحوثية ضد السفن    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    صور الاقمار الصناعية تكشف حجم الاضرار بعد ضربة إسرائيل على إيران "شاهد"    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجوف الكنز المخبوء..
مفتوحة ككتاب مكنون.. مكتوب بلغة الكون الأولى .. يستجدي بكل لغات الدنيا روح المبادرة التي ستسهم في فك طلاسمه ونشر خباياه للوجود..
نشر في الجمهورية يوم 30 - 01 - 2010

للجوف ماضٍ عريق وحضارة ضاربة في أعماق التاريخ وأعماق الأرض .. هي كنز يحوي بين جنباته الحضارة والمستقبل معاً .. وأنا أجوب صحراء الجوف القاحلة ووديانها المترعة بالخضرة والجمال تذكرت هذه الحقيقة.. لحظتها غمرني إحساس فظيع بالزهور المستمد أصلاً من حب هذا الوطن.. كيف لا وأنا أمر فوق كنزه المخبوء.
سر التسمية
من على قمة جبل فرضة نهم بدت الجوف أرض معين وموطن الحضارة الأزلي, مفتوحة ككتاب مكنون,حافل بالتاريخ.. مكتوب بلغة الكون الأولى,يستجدي بكل لغات الدنيا روح المبادرة التي ستسهم في فك طلاسمه ونشر خباياه للوجود.
مضت السيارة بنا الهوينى تارة في اتجاه الشمس,وتارة في اتجاه الأرض, على ظهر لسان اسفلتي يتلوى كثعبان ماكر.. هو في الأصل أكثر أماناً من عديد خطوط ثعبانية تنتشر في جبال السعيدة.. نظراً لضآلة مرور السيارات فيه.
بعد مرور ساعتين ونصف الساعة انحرفت وجهتنا صوب الجوف, عبر خط اسفلتي متفرع من خط صنعاء مأرب سيئون.. الرئيس هبت نسائم جافة اشعلت في داخلي لهفة الشوق, وحثت الخطى على استعجال اللقيا .. سألت رفيقاً رحلتي الشيخ مبخوت محمد هضبان والشيخ يحيى الهندوس, عن الجوف وسر التسمية فجاءت الإجابة بأن باطن الأرض غني بالمعادن الثمينة والآثار فقلت في خاطري وربما إن الأجداد قد تنبؤوا بكنوز أحفادهم فأسموها الجوف حتى لا يرحلوا عنها.
وفي المقابل ثمة إجابة أخرى لم تبتعد كثيراً عما سبق,وقد ورد ذكرها في كتاب معجم البلدان والقبائل اليمنية بأن تسمية الجوف جاءت كتعبير تقريبي لطبيعتها الحاضنة للسيول القادمة إليها من جبال صنعاء الشمالية والشرقية وجبال خولان العالية وجبال نهم وهمدان وكذا سيول الأمطار القادمة من جبال نجران ومن جبال صعدة, وأن طبيعتها الصحراوية تحبس مياه هذه السيول لتشكل خزانات جوفية تُعطي النماء لأرض الجوف قاطبة.
تباشير مستقبلية
قبل رحلتي إلى محافظة الجوف بيوم واحد كنت قد التقيت الدكتور ناجي صالح ثوابة الخبير الوطني في الشئون الصحية والبيئية ومحافظ الجوف السابق وبصفته أحد أبناء الجوف المرموقين كان يتحدث بعفوية مطلقة واعتزاز كبير عن محافظته المليئة بالكنوز والأسرار.. فهي على حد وصفه تتميز عن غيرها من المحافظات اليمنية وعن مدن الجزيرة العربية بشكل عام ففي مجال الثروات المستقبلية تمتلك ثروة مائية هائلة مخزونة في أحضانها الجوفية وتكفي لإرواء أراضيها الخصبة وأرض اليمن برمتها.. كما أنها أرض زراعية تربتها عالية الخصوبة ومناخها يتواءم مع مختلف صنوف الزراعات .. وإذا ما استغلت جيداً فإنها سترفد بلادنا بالكثير.. وستكفينا مؤنة الاستيراد وأضرار الأزمات الاقتصادية العالمية المتوالية.
وأضاف ثوابة: إن ثمة تباشير مستقبلة كشفتها دراسات أجريت مؤخراً عبر الأقمار الصناعية مفادها أن باطن أرض الجوف غني بالكثير من المعادن وفيه مخزون كبير من النفط.
وفيما يخص الثروات التاريخية "الآثار" أكد ثوابة أن تاريخ اليمن القديم مازال في جوف الجوف .. وأن المحافظة لو نالت نصيباً من الاهتمام والتنقيبات العلمية من قبل البعثات الأثرية المتخصصة,فإنها ستكون العاصمة الأثرية لليمن والأجانب والمؤرخين لروعة ما تحتويه من كنوز أثرية نادرة, وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إنعاش الاقتصاد الوطني وتحسين بنية المحافظة التحتية..
لمحة جغرافية
محافظة الجوف عبارة عن سهل واسع يتداخل وصحراء الربع الخالي إلا أنها تختلف عنه بكون تربتها عالية الخصوبة, ولذلك فإن الزراعة وتربية الحيوانات تعد النشاط الرئيس لسكان المحافظة, ويمكن أن تكون إقليماً زراعياً, إذ تحتل المرتبة السادسة بين محافظات الجمهورية من حيث إنتاج المحاصيل الزراعية وبنسبة تصل إلى 5،8% من إجمالي الإنتاج الزراعي ومن أهم محاصيلها الزراعية الحبوب والخضروات والفواكه والأعلاف..
وتعد الجوف المحافظة الثالثة من حيث المساحة بعد محافظتي حضرموت والمهرة حيث تبلغ مساحتها 48،770 كم2 وعدد مديرياتها 12 مديرية بعد إضافة 3 مديريات إليها من محافظة صنعاء, وينتشر سكانها المقدر عددهم ب "550" ألف نسمة في تجمعات سكانية متناثرة وخاصة في عاصمتها حزم الجوف وحول وادي خب والشعف وغيرها من الأودية والواحات التي تتوفر فيها المياه الجوفية.
وهي جغرافياً تقع في شمال شرق العاصمة صنعاء وتبعد عنها بمسافة 170 كيلو متراً, وتتصل بمحافظة صعدة من الشمال وصحراء الربع الخالي من الشرق وأجزاء من محافظتي مأرب وصنعاء من الجنوب,ومحافظتي عمران وصعدة من الغرب, وتحيط بها سلسلة جبلية من جميع الاتجاهات إلا الجهة الشرقية الشمالية,وترتفع عن سطح البحر بنحو "1100" متر وتفصلها عن محافظة مأرب الأثرية صحراء الخبت.
تضاريس المحافظة تتوزع بين مرتفعات وهضاب وسهول خصبة ترويها الوديان أكبرها وادي الخارد الذي يبلغ طوله 60 كيلو متراً وأخصبها وادي خب الغني بالفواكه كالتمور وغيرها.
وفيما يخص المناخ فهو معتدل صيفاً وبارد شتاءً في المناطق الداخلية والمرتفعات الجبلية, ويسود المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية المناخ الحار أثناء الصيف والمعتدل شتاءً في النهار ويميل إلى البرودة في الليل.
بنات عاد
أقام المعينيون مملكتهم في أرض الجوف السهلية بعد أن استغلوا ضعف مملكة سبأ في القرن الرابع قبل الميلاد, وعرفت بمدنها التاريخية على طول وادي الجوف السحيق, وكانت مدينة "قرناو" عاصمة تلك المملكة العظيمة, بالإضافة إلى "براقش" الحاضرة الثانية والعاصمة الدينية وكذلك مدن خربة همدان "هرم" والبيضاء "نشق" والسوداء "نشان" والقارة وينبأ وحزمة أبو ثور .. ومن المعابد عثتر والنصيب,وجبل اللوذ ويغرو وكهف أسعد الكامل.
وبالعودة إلى المراجع التاريخية الموثوقة, فإن التجارة وحماية القوافل كانت القاعدة الأساس التي قامت عليها الحضارة المعينية القديمة مما حدا بالملك الفرعوني, "بطليموس" بأن يصف المعينيين بأنهم شعب عظيم.. وهي شهادة تاريخية واجب كتابتها بماء الذهب, عدها كثيرون مفخرة لحضارتنا القديمة خاصة وأنها صادرة من قائد أعظم حضارة في ذلك الوقت.
ومما جاء في معجم البلدان بأن الجوف من أرض مراد وله ذكر في تفسير قوله تعالى " إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه" رواه الحميدي وهو في أرض سبأ.. أما الهمداني فقد ذكر في صفة جزيرة العرب : الجوف هو منفق من الأرض بين جبال نهم الشمالية التي فيها أنف اللوذ وبين الجبال الجنوبية المتصلة بهيلان من بعد ,وسعة مابين الجبلين .. مرحلة من أسفل وطوله مرحلة ونصف ويفضي إليه أربعة أودية كبار, فأولها الخارد ومخرجه فيما بين جنوبه ومغربه..وساقي الخارد من فروع مختلفة فأولها من مخلاف خولان في شرق صنعاء فيصب إليه غيمان وما أقبل من عصفان وثربان وخبوة وحبزير.. وقال نشوان: والجوف المطمئن من الأرض والجوف اليمامة والجوف واد باليمن تسكنه همدان.
وقد اشتهرت بعض مدن ومواقع الجوف وذاع صيتها بشهرة مملكة معين مثل مدينة البيضاء التي كانت تعرف قديماً باسم " نشق" والتي مازالت معالمها ومعابدها باقية حتى اليوم, وكذلك مدينة السوداء التي كانت تعرف قديماً باسم نشان وقد اشتهرت السوداء بصناعة المعادن, وقد عثر فيها على بقايا خامات المعادن المختلفة وأيضاً أدوات تستعمل في التعدين وفي تحويل المعادن إلى أدوات كما يوجد فيها مجموعة من المعابد يطلق عليها معابد بنات عاد لأن أعمدتها مزخرفة بزخارف غاية في الروعة والجمال تمثل أشكالاً آدمية لنساء.. وحيوانية "وعول" وهندسية تضاهي معابد بلاد الرافدين.
وهناك النقش الشهير والذي يعرف بنقش النصر والذي يعود للملك السبئي المكرب إيل وتر بن ذمار والذي يذكر بأن مدينة السوداء "نشان" تعرضت لحملات عسكرية لجيوش سبأ وأن المدينة تعرضت للخراب والدمار هي وأسوارها وقصرها الملكي.. وقد حظيت أغلب تلك المناطق بزيارة المستشرق الفرنسي " جوزيف هايفي" في العام 1969م لتتوالى بعد ذلك زيارة الرحالة والمستشرقين حتى وقتنا الراهن.
الجد الأول
كانت رحلتي إلى محافظة الجوف قصيرة ومشتتة تخللتها فواصل عديدة وقصيرة ..
تجاوزت مديرية الغيل ودخلت مديرية المصلوب, وفي منطقة القارة التقطت بعدسة عيني لقطة عامة لكل شيء.. ومن ملامح الوجوه المشرئبة بدت وبوضوح هيئة الجد الأول, فقسمات الأجساد تتشابه، تتكرر وكأن الجميع أبناء لأب واحد..
وقد استشفيت من على ملامحهم أصالة الإنسان اليمني والشهامة العربية والكرم الحاتمي وكل المعاني السامية التي تميز بها الإنسان اليمني عبر العصور.. ومع نشوة اللقيا ثمة سلام مختلف أستوقفني .. فالذي أعرفه ويعرفه كثيرون ان قبائلنا باتجاه الصحراء سلامها بعد التحية و"حُيُتو" لا يتعدى المصافحة واصطدام الأنوف,وهو الأمر الذي وجدت صعوبة بالغة في إتقانه حيث لم أستطع "التنشين" !! وأثناء تكرار المحاولات قلت في خاطري ترى هل تستطيع الوقاية الطبية أن تلغي هذه العادة المتجذرة في المجتمع البدوي خاصة مع التفشي المريع لأنفلونزا الخنازير؟!
مدن الطين
استمرت رحلتي دون توقف وهذه المرة إلى منطقة "ملاحا" حاضرة "بني نوف" الزاهية .. وفوق اديم الذرات الرملية الساخنة وقفت أتأمل المشهد الأكثر روعة, الرايات البيضاء ترفرف في كل مكان,على أسطح المنازل الطينية العتيقة .. وفوق السيارات "الشاصات" المكشوفة, تُلقي بتحيتها المسالمة التي بعثت في نفوسنا الاطمئنان.
هناك بدت وبوضوح معالم الطراز المعماري الفريد الذي تتميز به مدن وقرى محافظة الجوف فمعظم منازلها طينية تتكون من التبن والطين وهي ذات أسطح مرتفعة الغرفة الواحدة قد تعادل ارتفاع طابقين مما هو متعارف عليه, ورغم ذلك فهي قوية وذات متانة وصلابة تقاوم كل أنواع التعرية الطبيعية والأمطار وغيرها.
توجهنا صوب منزل الشيخ مبارك بن غرزة شيخ مشايخ قبائل "دهم" الجوف الذي رغم عبث الشلل الذي بدأ يتسلل إلى ساعده الأيمن إلا أن لسانه طلقة مفعمة بعبارات الترحيب وحفاوة الاستقبال.. وكان إِلحاحه شديداً بأن نبقى في ضيافته,إلا أننا كنا أكثر إلحاحاً بالرحيل..
صورة معبرة
لحكمة أرادها معدو الرحلة خرجنا من بني نوف مديرية المصلوب من حيث لم نأت, وعبر طريق ترابي سلس متجاوزين عديد مناطق وأودية تتداخل على مساحات شاسعة فيها أراض زراعية غناء وأشجارها وارفة الظلال, بمدائن الطين البديعة, مُشكلة صورة معبرة عن ذلك الامتزاج بين الأرض والإنسان عنوانها البقاء والنماء والخير لكل الناس.
بعد أكثر من ساعة ولجنا مدينة الحزم عاصمة المحافظة من الخلف فكانت بحق مدينة حديثة في جوف الحضارة وهي كما يفيد
كتاب معجم البلدان والقبائل اليمنية مدينة تاريخية كغيرها من مدن الجوف الأخرى ومما جاء فيه " الحزم مدينة ومركز إداري في وادي الجوف، قال الدكتور أحمد فخري الحزم اسم مدينة حديثة شغلت موقع "هرم" القيمة وهي الآن مقر الحكومة بالجوف.. وتقع المدينة القديمة على مساحة حوالي 2 كيلو متر إلى الغرب من الحزم ويطلق على خرائبها "خربة آل علي" ومباني قرية علي أو المدينة كما تسمى أحياناً .. مشيدة على أعلى جزء من المدينة القديمة وتظهر هنا وهناك بين المنازل الحديثة أطلال جدران حجرية قديمة وبالمدينة معبدان صغيران على حافة الجانب الشمالي لها,أما أهم الآثار فتقع في السهل على مسافة حوالي 300 متر شمال غرب مساكن آل علي, وحتى سنوات قليلة مضت كان يقوم في هذا المكان معبد ذا مدخل ظاهر للعيان مبني من كتل الجرانيت الضخمة المنقوش عليها مناظر مختلفة وأطلال هذا المدخل باستثناء أحد جانبيه لا تزال راقدة على الأرض.
عاصمة المعينيين
بالاتجاه شمالاً من مدينة الحزم عاصمة المحافظة وعلى بعد نحو "7" كم توجد مدينة معين " براقش" عاصمة مملكة معين القديمة رابضة على ربوة صناعية من التراب لحمايتها من أضرار السيول الجارفة وعوامل التعرية التي لا ترحم وأيضاً كحماية دفاعية عند الحروب .
ولم يكن يعرف علماء الآثار عن هذه المدينة شيئاً,رغم تميزها بالمعالم الحضارية والتاريخية, لأنها كانت ومازالت مطمورة تحت الرمال, حتى اكتشفها المستشرق "هاليفي" أثناء زيارته مدن وخرائب الجوف القديمة في العام 1870م موفداً من أكاديمية الفنون الجميلة بباريس,وعند زيارته المدينة قرأ على معالمها اسمها مكتوباً بالخط المسند, كما أشار هاليفي أن هذه المدينة وباقي الخرائب الأثرية في الجوف من أغنى مناطق اليمن والجزيرة العربية بالآثار, ولكن للأسف لم يتم حتى اليوم أي أعمال حفريات وتنقيبات أثرية علمية ومنظمة في هذه المدينة ,سوى النبش العشوائي من قبل لصوص الآثار والتاريخ.. وفي ذات السياق ثمة وصف بديع للباحث المصري محمد توفيق في كتابه آثار معين في جوف اليمن .. بأنها تقع على أكمة من الطين منحدرة الجوانب,تعلو على سطح الأرض بخمسة عشر متراً, وهي مستطيلة الشكل من الشرق إلى الغرب طولها أربعمائة متر في عرض مائتين وخمسين متراً,وقد أثبتت النقوش على أنها صنعت على أيدي عمال مهرة جداً,وبواسطة آلات دقيقة أيضاً,فإن أحجام الحروف متناسقة واستقامتها متوازية وقياس الأبعاد بينها تتناسب, وعمق الحفر فيها جميعاً متساو, وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مقدار ما وصل إليه أهل معين من الفن الرفيع والذوق السليم.
فيما يقول الدكتور فهمي الأغبري بأن لها أربع بوابات فتحت في منتصف كل ضلع من أضلاع سورها تقابل الواحدة منها الأخرى, مازالت ثلاث منها تحتفظ بأجزاء كبيرة منها بينما الرابعة وهي الشمالية مندثرة تماماً ..
بوابة الصحراء
وبسبب قرب قرناو من صحراء الربع الخالي ما تزال أغلب آثارها مطمورة تحت الرمال, فهي تحديداً تقع عند الفتحة المؤدية إلى تلك الصحراء في تماس مع السهل الفسيح, الذي يرويه وادي مذاب "الخادر" أي في منتصف المسافة بين جبل اللوذ الذي يقع إلى الشمال منها على بعد 20كم وجبال يام الذي يقع في جنوبها وبنفس المسافة..وقد تعددت أسماء هذه المدينة الأثرية في أغلب المراجع التاريخية مابين معين,قرناو, قرنوس ,أو كما يسميها الكتاب الكلاسيكيوم اليونانيون "كرنو" .. وهي تعد من أروع المعالم الأثرية والتاريخية في الجزيرة العربية.. ولها أربع بوابات من الجهات الأربع حيث يتم الولوج إلى تفاصيلها من البوابة الغربية وهي من أحسن البوابات,أما البوابة الجنوبية لم يتبق منها إلا بعض من أجزائها ويوجد بالقرب منها قصر ملكي كبير لا تزال بعض شواهده
ظاهرة حتى يومنا هذا، وقد تغيرت بعض احجار القصر بسبب حريق نتج عن الصاعقة أو الرياح أو الحروب التدميرية التي كان يقوم بها الملك السبئي كرب ال وتر لإخضاع مدينة قرناو لمملكة سبأ كما توجد بالقرب من هذه البوابة مقبرة المدينة التاريخية والتي تشكو تعرضها لأبشع عمليات النهب والنبش والتخريب لمحتوياتها بحثاً عن الكنوز والتماثيل الذهبية والبرونزية التي كان ملوك هذه المدينة يضعونها كشواهد قبورية لهم..ما البوابة الشرقية فلا زالت قائمة على جدرانها نقوش بأحرف المسند ويوجد بالقرب منها بقايا بناء مطمور بالتراب والاحجار، أما بوابتها الشمالية فهي مطمورة كلياً بما فيها سورها.. أما بعض أحجارها فهي متناثرة هنا وهناك في تلك المنطقة.
بقايا جدران
كما أن لكل بوابة من هذه البوابات سوراً يحيط بها فالبوابة الغربية هي الأحسن حالاً فسورها المبني من الحجر الأبيض المنقول من الجبال البعيدة، ولا تزال بقاياها في غاية المتانة والروعة والدقة، فهو يتكون من 28 حبلاً حجرياً في إحدى جهاتها، منقوشة أربعة منه بأحرف المسند بأسفل السور.
أما في الجهة الأخرى فالمتبقى 30حبلاً منقوشة منها أربعة في أعلى السور وبالنسبة لأحجار السور فهي كبيرة الحجم حيث يبلغ طول الواحدة منها من المتر والنصف إلى المترين وبعرض متر واحد، وقد تم قطع تلك الأحجار بطريقة منظمة ونحتت بطريقة جميلة حيث تبرز الحجر إلى خارج بحوالي 15سم.. فيما يحدد نقش مكتوب على السور بأنه بني عليه ستة أبراج دفاعية كنظام أمني لحماية هذه المدينة من أي غزو قد تتعرض له.
والواضح للعيان أن أغلب أجزاء هذا السور مطمورة تحت الخرائب التي تغطي موقع المدينة إضافة إلى تراكم الأتربة والرمال بفعل عوامل التصحر، كما أن نظام بناء السور قد بني على شكل دخلات وخرجات، نظام المزاوجة بين الحجرة الواحدة والأخرى.. وأن مباني المدينة كانت تستند على السور مباشرة ففي الجانب الغربي من السور توجد بقابا بعض الجدران العمودية للمنازل مستندة على السور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.