أزمة الحضارة الغربية عندما نقول: إن هناك أزمة حضارة ما لا يعني قولنا: إن بقية الحضارات الإنسانية خالية من الأزمات.. وحضارة الغرب واحدة من الحضارات الإنسانية المختلفة. إن لكل حضارة تناقضاتها.. فكراً وممارسة، ومعيار التجربة التطبيقية مؤشر إلى مدى نجاحات وإخفاقات أية حضارة من الحضارات، فبواسطة التجربة تتبين النتائج الكلية لحصيلة الحضارة، كمقدمات وتحديات وإنجازات. والحضارة الغربية تخطت حالة التخلف العلمي وحققت إنجازاتها المادية الماثلة أمامنا، لكنها حملت تناقضات في طياتها حين حيدت المسائل الروحية مغلبة الجوانب المادية على كل الجوانب الروحية والأخلاقية، مما أفقدها قيماً مثالية ضرورية نعدها “إنسانية” تمد الحضارة بعامل توازن موضوعي يمنحها بعداً إنسانياً لازماً يترافق مع كل نجاح مادي تحرزه أية حضارة، ومن الضرورة توافره بكل حضارة.. فالحضارة الفاقدة للقيم “المثل” لا توفر للإنسان الاطمئنان الروحي، بل تكون باعثاً للقلق السلبي في المجتمعات المتحضرة التي اكتفت مادياً، ولكنها تعاني فراغاً نفسياً له آثاره السلبية على الروح الإنسانية الباحثة عن راحة القلب والعقل والضمير ورفاهية العيش والأبدان؛ لأن أية حضارة تعاني فقراً روحياً فهي في الواقع ذات إنجازات مادية، لا تراعي متطلبات النفس وإنما تلبي مدركات “متطلبات” الجسد، فهي بذلك تلغي إنسانية الإنسان مساوية إياه بالمادة، ولذلك تعاني الشعوب الغربية المعاصرة من أمراض نفسية معقدة ذات بواعث متعددة حسب تنوع وتدرج أطوار الحضارة الغربية صعوداً وتراجعاً. إن الحضارة الغربية وفرت للإنسان الغربي كثيراً من الحاجات الضرورية والكمالية فأوصلت مجتمعاتها للرفاه المقصود.. لكنها تركته نهباً للقلق والشعور بالإحباط والخوف من استشراق مستقبله المحفوف بالاطمئنان المنشود بسبب إعلاء هذه الحضارة للقيم المادية على حساب القيم الروحية، وكأن الإنسان يماثل الآلات، وليس كتلة من المشاعر والأحاسيس والآمال. ولقد كنت كتبت في مسارات سابقة عن الحضارة الغربية تحت عنوان “حضارة بلا قلب” وهي كذلك فعلاً. فالحضارة الغربية تنادي بالحرية، ولكن ليس لكل الناس وبالديمقراطية، ولكن للنخب، وبالعدالة والمساواة ولكن للفئات، وبحرية التفكير والتعبير والتغيير، ولكن الأمر يقتصر على كل ذي حظوة، وبحقوق الإنسان ولكنها تنتقص هذه الحقوق بين شعوبها وشعوب العالم العربي والإسلامي والمتخلف، أي أنها أفرغت مفاهيمها من محتواها كمضامين ضامنة حق الحياة الحرة الكريمة للنفس الإنسانية وهي بهذا التوجه تحمل تناقضاً حقيقياً على الصعيدين الفكري والتطبيقي، فهي تنادي بالشيء ونقيضه بوقت واحد. وعندما تعالج مفهوم الحرية وكأنها تعني الاستبداد، وعندما تعالج العدالة كأنها تضمنها الظلم، فيصير مفهوم الكلمة مغايراً لها، وكأنها تقول لنا: إن العدالة ليست وضع الأشياء في مكانها الصحيح والمناسب، وإنما في مواضع أخرى، أي تجعل الكلمة نقيضاً لمعناها، وشكلها نقيضاً لمضمونها. وإذا أردنا أن نأخذ مثالاً واقعياً هو: الأممالمتحدة التي لها قوانينها ومواثيقها وهي تقول إنها أجندتها العالمية التي تطبقها كيفما شاءت، بازدواجية غريبة فتكيلها بمكيالين مختلفين بحيث تكون عادلة لإسرائيل ظالمة للفلسطينيين، وبحيث تكون عدالة دولية إذا كانت لأمريكا وظلماً إذا كانت لشعب العراق.. وقياساً على هذا المثال عانت وتعاني الحضارة الغربية من التناقضات الفكرية التي طورتها الأساليب السياسية الماكرة، وسارت على إيقاعها منذ تكوّن عصبة الأمم حتى الراهن. إن الأزمة الاقتصادية التي تعانيها أمريكا وتابعتها أوروبا هي صنيعة الفكر السياسي الغربي الذي هو نتاج تراكم فكري للحضارة الغربية بجانبه السلبي “المظلم” وهي نتاج سوء إدارتها الرأسمالية المستغلة بمفهومها الإمبريالي الذي أوصل مجتمعاتها لحالة من الاحتجاج للظلم الصارخ الذي عانته طويلاً وتحاول التخلص منه بشتى الوسائل.. الحضارة بمفهومها العام: والحضارة هي مشتركات من الشعر والأدب والفن ومنجزات العلم والتقنية، وهي القيم والمثل والأخلاق والمبادئ. وهي في الحصيلة الكلية التطور.. أي الانتقال من التخلف إلى التقدم ومن الجهل إلى العلم والمعرفة، ومن الشقاء إلى الرفاه الاجتماعي.. والسعادة الروحية والتطلع إلى الأمل والمستقبل الأفضل.. واستشراف للآتي الأجمل.. وتمر الحضارة بمنعرجات هامة، تتخطاها، متجاوزة مختلف التحديات الذاتية والموضوعية، متأقلمة مع مراحل التاريخ تراجعاً ونمواً وجوداً ومصيراً.. والحضارة بمعنى آخر هي صنع التحولات الكبيرة في جميع صعد الحياة الإنسانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية ومن قوانينها الحضارية التجديد والابتكار والإبداع والإنتاج والاكتفاء.. وهي صوغ تمظهرات الحياة الإنسانية بالطرق الملائمة، كإرساء القوانين الضامنة للحقوق كالحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة والحضارة قيمته مادية وروحية الأولى تتعلق بالمنجزات والثانية بالأخلاق، لقد ظل المستشرقون الغربيون يبحثون عن أوجه القصور والثغرات بين الحضارات الإنسانية البعيدة والجديدة، مشيدين بحضارتهم حتى وصل الأمر بهم وصف حضارتهم بالكمال، ولم يكتشفوا إلا بعد جهد طويل مكالب حضارتهم وقصورها في إشباع حاجات الإنسان الغربي، عندما وجدوها: “اكتفاء بالماديات وقصوراً بمختلف جوانب الحياة النفسية والروحية الغربية”. فعادوا أدراجهم ينقدون حضارتهم، ويعددون إخفاقاتها في مجال هام من مجالات الحياة الإنسانية الغربية.