جاءت تقنيات المسرح السياسي العربي المعاصر نتيجة بحث المبدع والمتلقي في المنطقة العربية عن أساليب وتقنيات جديدة تتماشى مع هذه المرحلة التي اتفق على أنها أزمات وتحولات، لذا جاءت صيغة المسرح الملحمي، والمسرح التسجيلي والمسرح الوثائقي صيغاً حظيت بالاهتمام لأنها الأقدر في التعبير عن احتياجاتنا على أن المبدعين العرب اكتشفوا في إبداع بريخت بداية بذرتين ثمينتين الأولى منهجه في التغريب، فقد اتضح أنه قريب إلى حد ما من تقاليد المسرح العربي الذي كان يطمح دائماً لمحو المسافة بين الممثل والمتفرج، ولكن هذا المبدأ فهم بشكل بدائي جداً أحياناً، في المراحل الأولى فلم ير المخرجون ومنظرو المسرح من بين جميع الشخصيات إلا الراوي، الذي يستعرض أفكاره وأفعاله دون إحساس أو تأثر، والبذرة الثانية، اتجاهه بالسياسة طبعاً وقضايا الساعة التي تطرحها مسرحياته، وقد وجد مسرح الوطن العربي فيها ما كان يبحث عنه لدعم نضاله من أجل الحرية والاستقلال. وهكذا جاء المسرح الملحمي السياسي بتقنياته ليحقق احتياجات المجتمع العربي وذلك من خلال رسالته السياسية جنباً إلى جنب مع رسالة المسرح التسجيلي السياسية وصولاً إلى طبيعة المسرح الوثائقي وكلها مجتمعه من حيث المضمون السياسي وتقنيات التغريب، كشف اللعبة المسرحية ( الراوي الكورس) استخدام اللافتات، التعليمية المباشرة، وأخيراً تقنيات الأفلام والشرائط. واتقف معظم النقاد على أن تقنيات المسرح الملحمي قد تمركزت في عدة عناصر بها تتحقق رسالة هذا المسرح، لذا كان من الطبيعي أن تأتي هذه العناصر مختلفة عن تقنيات المسرح التقليدي الأرسطى، وإذا كان بريخت قد اعتمد على تقنية التغريب (التبعيد الإغراب) Alienationتقنية أساسية لتحقيق هدفه من رسالته المسرحية، فماهية هذا التغريب لقد لخص ذلك بقوله “جعل الشيء المألوف غريباً” الصورة المغربة، هي عبارة عن عرض لشيء، أو لموقف مألوف لنا، في إطار من القول أو الفعل يظهره غريباً، وغير متوقع، وهذا في حد ذاته صدمة المعرفة التي يحدثها الفن”. إن تقنية التغريب هذه إنما تمنح الجمهور فرصة الابتعاد عن الحدث المعروض زمنياً ومكانياً مما يجعل الحكم عليه أكثر موضوعية وحيادية، من ناحية أخرى وجد الكتاب في هذه التقنية وسيلة للهروب من الرقابة بحجة أننا نتحدث عن زمن مضى وولى، ولا نتحدث عن الحاضر مما يحقق للمؤلف مساحة من الحرية كان بحاجة ماسة إليها، إن التغريب ضد الاندماج والتطهير، لذا كان من المنطقي أن يسعى مؤلف المسرح السياسي للوصول إلى الابتعاد بالجمهور عن الاندماج وحالة الإيهام الأرسطية، والوصول إلى حالة من حالات التركيز والوعي واتخاذ القرار مقابل القضية المطروحة، ذلك أن هدف المؤلف ومن بعده المخرج ومعهما الممثل وكافة العاملين في العرض المسرحي الذي ينتمي إلى هذا النوع هو خلق حالة من الانفصال بين الجمهور والمسرح لمنع الجمهور من التوحد مع المسرحية وتمكينه من أن ينقد المسرحية نقداً بناءاً من وجهة نظر اجتماعية “ ولعل هذا الرأي متفق مع رأي الناقدة” ليتيتا داس والاس”Lititia Dac Wallaceالتي أكدت في دراساتها «المسرح والدراما الحديثة» أن المسرح في الأساس وهم يصنع من قبل العاملين في حقل المسرح ولابد أن يبقى الجمهور واعياً بهذه الحقيقة وأن نساعده على ذلك بهدم مفهوم الحائط الرابع وهو الذي يؤكد للجمهور ضرورة الفصل بين الجمهور وبين خشبة المسرح وعدم التوحد وفي هذا الصدد تقول والاس” يجب أن يدرك المشاهد أن المسرحية ليست حقيقة وإنما هي«توضيح لحالات يمكن أن تغير ويجب أن تغير في الحياة الحقيقية التي نحياها» وعليه يكون من المنطقي أبعاد المتلقي عن الاستغراق مع الحدث المعروض، وبالتالي قدرته على إقامة المقارنة المطلوبة بين ما يعرض والواقع المعيش ليصل المتلقي إلى الوعي المطلوب لدفعه إلى اتخاذ موقف فاعل في حياته أولاً وفي المجتمع ثانياً. تكتمل تقنيات المسرح الملحمي السياسي من بعد التغريب الذي اتفق على أنه يتحقق بعدة وسائل هي: 1 التاريخية 2 الراوي 3 الشخصيات 4 الكورس 5 الموسيقى 6 القناع 7 التمثيل 8 الإنارة 9 تصميم المناظر الخاصة بالديكور المسرحي. إن تقنيات المسرح السياسي ليست بدعاً من ابتداع المسرحيين العرب، بل هي وسائل سبق أن استخدمها مبدعون سابقون في الغرب وقد زاد كتابنا من الاهتمام بهذه التقنيات حرصاً منهم على أن يقدم العرض للجمهور ويحقق غايته ولا يحرم الرقابة، لذا كان من المنطقي أن يستكمل المبدع في المسرح السياسي استخدام تقنية الرموز وتوظيف الحكايات الشعبية والأساطير والتاريخ موظفاً إياها داخل العروض باستخدام تقنيات التبعيد الزماني والمكاني، ولعلنا إذا قرأنا مسرحيات “سعد الله ونوس” مغامرة رأس المملوك جابر” والليلة الثانية بعد الألف” لسلمان الحزامي نجدهما يشتركان في أن التراث كان منبعهما ومعينهما الذي أخذا منه خاصة حكايات ألف ليلة وليلة، هذا إلى جانب أنهما يلتقيان في كونهما استعانا بتقنيات المسرح السياسي المتعددة، خاصة تقنيات المسرح الملحمي ومن هذه التقنيات كما سبق الذكر تقنية الإبعاد الزماني والمكاني مما يجعل المشاهد يصل إلى إقامة نوع من المقارنة بين الواقع الفني والواقع المعيش مما يحقق هدف المؤلف المرجو. لجأ بريخت لتحقيق تقنية التغريب إلى عدة وسائل مكنته من تحقيق هذه التقنية التي صاغها في العناصر التسعة السابق ذكرها، على أننا لابد وأن نعي جيداً أن الكثير من المبدعين العرب قد اعتنقوا الفكر الماركسي نظراً لإعجابهم بمسرح بريخت وفكره، لذا جاءت الكثير من أعمال كتاب المسرح الغربي معتمدة على تقنيات التغريب البريختي التي حققها باستخدام الراوي (الحكواتي) واللافتات أو عن طريق المسرح داخل المسرح، أو عن طريق التعليمية المباشرة وذلك بالتوجه إلى الجمهور ومخاطبته بشكل مباشر لتوجيهه وتحريضه وقد يلجأ المبدع إلى حيلة فضح اللعبة المسرحية بأن يعلن الراوي أو أي شخصية أخرى في بداية المسرحية للجمهور ما سوف يحدث فيمنع عنهم التقريب والاندماج ليظلوا يقظين وأن ما سوف يقدم ليس الواقع وإنما هي لعبة مسرحية لكسر إيهام المشاهد وتمرينه على أن يظل يقظاً ويبدي الرأي فيما يشاهده. يؤكد «مارتن إيسلن» هذا الرأي السابق في تأييده لدور الراوي ،ووظيفته بقوله «يخبر الجمهور بخلفية الأحداث، ويصف أفكار الشخصيات ودوافعها، وأحياناً يطلع الجمهور عن نهاية المسرحية قبل حدوثها ليحمي الجمهور من الترقب والانتظار ويعطيه فرصة ليفكر ويحكم»..