لم يكن الفنان الكبير أيوب طارش عبسي رائداً للأغنية التعزية، أو مؤسساً للّون التعزي، في المشهد الغنائي اليمني فحسب، بل كان أكثر من ذلك وأكبر، أيوب صوت الصدق، والصدقُ هو الوجع، والوجعُ هو الآه، التي نعبر بها عن كل شيء، والشجن هو كل شيء، نسمعهُ فنشعرُ أنه قادم من مناطق الشفافية والصفاء والبياض في أرواحنا، التي تشوبها أكثر من عتمة، وأكثر من غفلة، وحين نمر على منعطفات الأحاسيس في مسيرة حياتنا الصادمة، نستحضرُ صوته، شاهدا شجيا على إشراقات الفرح القليلة، واشتعالات الحزن الكثيرة، التي يتجاهلها بعض من لا يطربُ للزقزقة، ولا يأسره الهديل، ولكن حين يدخل صوت أيوب إلى الدم حاملا أسئلة الحضور الصادق، المستوحى من جهات التأمل، والمتعلقة بأرواح الأولياء، المقيمين في مدن الروح الفاضلة: «أحباب قلبي شفني هواكم وداء قلبي يشتهي دواكم والله ما يصلح له سواكم فادخلوني في ملا ولاكم» أيوب يستحق الخلود والتكريم، كيف لا!! وهو من يخلد في مسامعنا وأفئدتنا رغبة التعلق بالغيب، ويكرّمنا بتسليط صوته على مساحات الطهر في تفكيرنا: « إن شئت حليت العقد مطلوبنا مدد .. مدد» في صقيع التناسي ، ورتابة التجاهل، يأتي صوت أيوب دافئا ومنعشا ومثيراً. (إن المحبة صبوة من اصطفاها، صفا لي لي في الهوى ألف غزوة حتى غزاني غزالي) يبني صوته في مداركنا قناطر العبور إلى طهارة فكرة الحب، ويلحن الآلام، ويمطر الرضا على جفاف المطامع، ويسحر مريديه (المنصتين لما يقول القلب إن أعطى كلامه) يقفُ القلبُ على شغافه، وترتعشُ الروحُ، وتتسمر اللحظةُ في مكانها المنسي، ويرتفعُ منسوبُ الصبابة والوجد، حين تصافحُ سمعَكَ أنغامُ صوته حاملةً التساؤلَ الحزين: ( ما أدريش كيف قلبك رضي يروى وقلبي ما رضيش أشرب وأشرب من هوى ى ى غيرك ولكن ما ارتويش والضوء في عيني إذا غيبت وجهك ما يضيش خليتني ألقى وجوه الفجر أعشى ما استضيش وأحرقت أعشاشي وأرياشي ولا خليت ريش فارجع إلى أحضان أيامي وخليني أعيش) آهٍ آهٍ كم تمكن صوت أيوب من هذه الكلمات وسيطر بها على مداخل الشعور إلى نفوسنا، ليس مهماً بعد ذلك أن أتطرقَ إلى أن أيوب هو صاحب لحن النشيد الوطني؛ لأن في كل بلد نشيدا وطنيا، وشاعرا يكتب، وفنانا يلحن هذا النشيد، ولكن ليس في كل بلدٍ أيوب، خازن الشجن، والصوتُ السماوي الذي يطير بالهائم حين ينادي: «يا حب قلبينا تلملم في زجاجات العطور» يجر المحبين جرا إلى جنة وادي جيرون، حيثُ أحبابُ قلبه الذين فُتِنَ بهم وهو في حالة الأسى: « آسي وخمر كاسي، تمشي على الكراسي، ترمي على القياسِ، من حاجبين كالنون» عالمٌ من الشجن تجسد في صوت، كأنه لوحة شوق رسمت على صفحة النغم، كأنه مشاعر كثيرة تنبت في واحة الحنين، وتزهر وتثمر ، ويسمونها: أيوب طارش، سنسافر إذاً من عوالم البداية مع (بالله عليك وامسافر) في رحلة شيقة وشجية ومستنيرة وروحانية، لنصل إلى (عاد لي ودي) و(زهرة الوصل) وغيرها، وبين المرحلتين قيثارات شجن مركز ومكثف، إنها حياة أيوب وهو يترك لقلبه مهمة تلحين الحياة، مطراً وعطراً، وطناً وحباً، يشعل أشواق البعيدين، ويصاحب الفلاحين في حقولهم، ويجفف عرق قلوبهم، ويرحل في الجبال والوديان والتهائم. يتحول صوته إلى دموع مسموعة وهو يقاسم الطير غربته وفرقته لحبيبه: (طير أيش بك تشتكي قل لي أنا مثلك غريب كلنا ذقنا هوانا واكتوينا باللهيب حد متهني وحد ظامي مفارق للحبيب لا تقل لي أو أقل لك، كل شيء قسمة ونصيب) كن بخير يا أيوب! يا صوت الآه! يا أجمل غريبٍ جوال!! [email protected]