سيكون العنوان مكررا على القارئ بلا شك , خاصة وأنه كما أظن قد قرأ الكثير في ذلك، ولكن ليسمح لي القارئ أن أرصد زوايا ونقاطا جاءت بعد تأمل وقراءة لما كتبه مؤرخ العقل الإسلامي أحمد أمين صاحب “ فجر وضحى وظهر الإسلام “ ولما كتبه مشخص ومفكك العقل العربي محمد الجابري في سلسلته “ نقد العقل العربي “ وحتى لا يذهب القارئ بعيدا في مقصودي بالعقل فقد أخذت المفهوم الذي عرفه به الجابري فالعقل هو “ الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعته ثقافة معينة لها خصوصيتاها، هي الثقافة العربية بالذات” والعقل العربي “ تشكل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وبواسطة هذه الثقافة نفسها، الثقافة العربية الإسلامية .” فماهي الأسباب التي أوقفت العقل عن الإعمال و الإنتاج وجعلته يقدم استقالته في وقت مبكر ؟ وما هي المراحل التي مر بها حتى دخل غرفة العناية المركزة ؟ هذا السؤال شغلني في العقد الماضي واستغرق البحث عن إجابته مشورا طويلا من القراءة والبحث والاعتكاف في المكتبة , فخرجت إلى نقاط كثيرة أثقلت كاهل العقل العربي حتى صار كجهاز الكمبيوتر المليء بالفيروسات التي أفقدته السرعة في التشغيل والبحث , بعد أن كان الجهاز ببرامجه الأساسية قادرا على التحرك والبحث بسلام , ولكن لا بد لأي جهاز من إدخال ملفات وبرامج جديدة كي يستفيد أكثر من جهاز الكمبيوتر ذلك , ومع إدخال تلك الملفات يكون فيها ما هو مفيد ويكون ما هو عكس ذلك , والأخطر هو تسرب كثير من الفيروسات إلى جهاز الكمبيوتر دون علم صاحبه , وإذا كان صاحب الجهاز لا يحدث مكافحه كما حصل معنا فقد توقف مكافحنا قرونا وهو ما جعل جهاز كمبيوترنا يمشي زحفا مع توقف كبير بين كل خطوة , ولذا كانت الخطوة الأولى لإنقاذ هذا العقل هو أن نكون مكافحي فيروسات (خرافات وأوهام ومفاسد وبدع ) للتخفيف عن كاهله لينطلق في مهمته المرجوة , أي أن نوطن النقد بين أبناء هذا العقل وننمي تلك الملكة عندهم باستمرار حتى نصل إلى عمق المشكلة فإذا ما وصلنا أدركنا أفضل علاج. وهكذا حاولت خلال هذه الفترة البحث عن أخطر وأهم الفيروسات التي كانت عصية على برامج المكافحة فلخصت الآتي: لقد مر العقل الإسلامي بثلاث مراحل تلقى في نهاية كل مرحلة لكمة أوصلته إلى ما وصل إليه, فاللكمة الأولى جعلته يترنح واللكمة الثانية جعلته يرتمي أرضا و اللكمة الثالثة أدخلته في غيبوبة مازال فيها إلى يومنا, رغم محاولات مهمة بدأت في بداية القرن العشرين لإيقاظه من غيبوبته من قبل مدرسة الأفغاني ومحمد عبده لكن لم يكتب لها الاستمرار بنفس السرعة للأسف لأسباب سأذكرها في مقال آخر . المرحلة الأولى من السنة 10ه إلى نهاية القرن الثاني (200 ه): تتسم هذه الفترة بأنها الفترة الذهبية للفقه وللعقل الإسلامي, ففيها ظهر الفقه والفقهاء وفيها ظهرت المدارس والمذاهب وفيها حدثت حركة الترجمة وفيها بدأت العلوم المختلفة تتشكل وفيها كان المسلمون في أعلى مراحل قوتهم حضاريا, وإن حدث اختلال في رأس الهرم, وفيها تعددت الأفكار والمذاهب وتعايشت بسلام فكان في المدينة الواحدة سبعة من الفقهاء قد يختلفون في مسألة واحدة على سبعة أقول ولا تجد إنكارا من أحدهم على الآخر, بل ظهر في هذه الفترة من يجتهد في سن مبكرة كما درسنا في التراث, وهكذا أستطيع القول أنها الفترة التي لا زلنا نعتاش على أفكارها إلى يومنا هذا , ففيها ظهر عمالقة الفقه الإسلامي سواء من جيل الصحابة أو جيل التابعين أو جيل تابعي التابعين, فنقرأ في هذه الفترة اجتهادات فكرية لكثير من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وزيد بن ثابت ومعاذ وعائشة وابن عمر وابن عباس، ونقرأ اجتهادات ومدارس فكرية كذلك للتابعين ففي المدينة سعيد بن المسيب وعروة وسالم وعطاء والقاسم وعبيدالله بن عبدالله حفيد ابن مسعود والزهري ويحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وربيعة الرأي. وفي العراق شريح والشعبي وإبراهيم النخعي وحماد وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة وزفر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن, وفي مكة مسلم بن خالد الزنجي وسفيان بن عيينة وغيرهم, ونقرأ كذلك الاجتهادات الفكرية لأهم المذاهب الإسلامية انتشارا كمذهب أبي حنيفة وزيد وجعفر ومالك والشافعي والليث والأوزاعي وغيرهم. وقد استمرت هذه المرحلة الذهبية بإنتاج فكري كبير إلا أنها كانت شيئا فشيئا تميل إلى الانغلاق الفكري فبعد أن كانت المذاهب في عهد التابعين (13) مذهبا صارت أربعة فيمن بعدهم وهكذا, والسبب يعود بنظري هو أن المخيلة بدأت تتقلص شيئا فشيئا مع اتساع الذاكرة, وأقصد باتساع المخيلة اتساع النصوص التي يبحث فيها الفقيه, فبينما كان الفقيه يمتلك نصوص القرآن وما تواتر من الأخبار عن النبي (ص) لينطلق في اجتهاده, دون هم البحث عن النصوص غير المشهورة وغير المتواترة والمعروفة عند عامة الناس, أي لم يكن عن الأخبار الخاصة التي توجد عند واحد من الناس ولا يعرفها غيره, وهي التي سميت فيما بعد بأحاديث الآحاد, كما لم يكن همه البحث عن فتوى من سبقه أو من خالفه في بلد آخر, فإن جاءت إليه مسألة جديدة عرضها على الثابت المتواتر عنده من قرآن وسنة, فإن وجد لها إجابة وإلا اجتهد في الاستنباط, فاجتهاده منصب على الاستنباط لا عن البحث عن أخبار الخاصة, وهكذا تعددت آراء ومذاهب ووجدنا منها من خالف كثير من روايات الآحاد التي دونت وجمعت بعدهم , وجاء المحدثون ومن بعدهم ليبرروا لأولئك الفقهاء في ردهم وعدم بحثهم عن تلك الروايات بأنها لم تصل إليهم ولو وصلت إليهم لقبلوها , ونسوا أن يسألوا أنفسهم كيف حق لأولئك الفقهاء الاجتهاد دون البحث عنها !!, ونسوا كذلك أن أولئك الفقهاء ردوا روايات كثيرة وصلت إليهم بطرق قوية ولكنها خالفت أصولهم كما عمل أبو حنيفة ومالك. ولو تأملنا في ترتيب المذاهب زمانيا فسنجد أننا كلما تقدمنا زمنا زادت الروايات التي لم تكن في الجيل الذي سبقه, وهكذا استمر توسع الروايات حتى بدأت حركة التأصيل لحجيتها وأهميتها وجعلها جزءا من الوحي الإلهي, ويأتي على رأس هذه النهاية للمرحلة الإمام الشافعي فقد لخص وجمع في رسالته تأصيل حجية خبر الواحد حتى لو خالف عموم القرآن, وهكذا كانت أكثر مخالفات الشافعي لشيخه مالك و أبي حنيفة فمالك يقدم عموم القرآن وظاهره وعمل أهل المدينة على خبر الآحاد وأبو حنيفة يقدم ظاهر القرآن وعمومه والقياس على خبر الآحاد, لكن الشافعي خالفهم في ذلك , وهنا انتقل الفقه والاجتهاد إلى طور آخر فبعد أن كان الاجتهاد في المسالة قريبا, توجه ذلك الاجتهاد إلى البحث عن خبر الآحاد والسفر لأجل جمعه, إذ لا يصح أن أجتهد وهناك خبر ولو في أقصى الأرض, ومن هنا بدأ الجمع والتدوين للحديث بطريقة منهجية وبشروط يغلب عليها الاهتمام بالسند , ولذا ظهر بعد الشافعي كل المحدثين وظهر قبله كل الفقهاء , مع استثناءات بسيطة هنا وهناك , فظهر من المحدثين تلميذه أحمد – كثير من الفقهاء اعتبره محدثا ومنهم ابن رشد – وظهر البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم من المحدثين, وأما الفقهاء الذين ظهروا قبل الشافعي فقد سردتهم من قبل. ولم نعد نسمع بفقهاء كبار كالتي أنتجتهم تلك الفترة إلا ما ظهر في أقصى الغرب في الأندلس, فقد ظهر ابن حزم ولقي ما لقي جراء مخالفته المذاهب السابقة المشهورة. أما من اشتهر من الفقهاء بعد هذه المرحلة فلا يرقى اجتهاده لأن يكون مذهبا فقهيا جديدا ينافس المذاهب القديمة حتى لو كان عقيلة فذة. كانت هذه هي المرحلة الأولى باختصار والتي انتهت في نهاية القرن الثاني بأول ضربة للعقل الإسلامي وذلك عبر “ اتساع الذاكرة على حساب المخيلة “ وأبرز من يمثل نهاية هذه المرحلة الإمام الشافعي ت 205ه.