في شباك القسم الخاص ألقينا على المرضى التحية, فاقترب من الشباك - الشبيه بشباك السجن - نحو 10 مرضى ومن سمعنا منهم رد التحية , لكن أناقة فهمي الشوافي 30 سنة ونظافته أثارت انتباهي, وما أن اقترب وقبل أن يعرف أننى صحفي بدأ يطلبني ما اعتاد معظم أقرانه طلب الزوار : معك حبتين سجارة ؟ قلت: لا أدخن, قال : طيب حق السجارة, قلت ما فيش معي. وخلال استماعي لبوح زملائه من الشباك, كان فهمي يصول ويجول في حوش القسم الصغير والنظيف والمزروع بالأشجار ويحك صلعته بنهم عجيب, ثم يعود ويزيح بزملائه عن الشباك صارخاً في شريط التسجيل : ميتونا جووووووع, والعلاج حقهم جابلي الضييييييق, بالصبح شربتو وكنتو شاموووت .. أشتي أخرووووج , ترك فهمي الشباك فأقبل عبدالناصر العريقي 35 عاماً وقد انتصف من سيجارته وبهيئته النظيفة وخطواته الواثقة, ولباقته دنا قائلاً : شوف .. لايفجعش فهمي , قد احنا أخبر بُه , معُه ألين قلب, لكنه مثلما تشوف غاثي من العلاج اللي ماتتحملوش بطنه اللي اصطبحت قرص روتي على فاصوليا تدي القداد الحموضة فالأدوية هاضمة , واللي مامعوش فلوس يزايد نفسه, يظل طول اليوم ظابح من الجوع وتأثير العلاج , وبعدين كما أنت شايف ولعة الدخان تخلي أكثرنا يعاني نفسه بالسيجارة أهم من الأكل ! والله يحفظ الفراشين اللي ينافعونا بشرائها! أما أمثالك يقصد المحرر اللي ما يدخنوش مانفرحش بزيارتهم, قاطعت العريقي عبدالناصر: لم آت لأوزع التبغ عليكم, بل لأنقل أوجاعكم إلى الملأ , أجاب : لو ما نتش من الصحفيين اللي ياجو لا عندنا ويسجلوا كلامنا بغرض الشهرة والمتاجرة بآلامنا , با أكلمك ؟ أجبته : ما ناش منهم , هات ما عندك ، أولاً مثلما تشوف مش مجنون , فقد دخلت هنا برجلي طواعية عشان أتعالج نفسانياً وأعود لممارسة وظيفة التعاقد في ميناء المخا منذ 16 سنة , أما المهم فهي حالة فقدان الثقة بيننا ومن يعالجوننا في المستشفى, مافيش معاهم إلا أجهزة الصدمات الكهربائية العتيقة , أما الطباخة فالله لا وراك, الفاصوليا نصها حجار, وما فيش تنويع بالوجبات والأهم أن الوجبات لا تشبعنا , فهم يعطونا قرص روتي مع كل وجبة, وأحياناً أواسي نفسي وأمضي باحثاً عن أعذار (ضاحكاً ): فلو أعطونا ما يكفينا من الأكل, فين بانروح عاد ! فالبعض الآن وهو جاوع يفجعك ! كيف لو شبع ! ويواصل العريقي بوحه : أما أدويتهم التعيسة فقد سبقني زميلي فهمي إلى كشف آثارها , لكن الأطباء لا نرتاح لهم بتاتاً, خاصة خلال ممارستهم لطقوسهم العلاجية في إخضاعنا للجلسات الكهربائية بأجهزة المستشفى العتيقة! لا نشعر بأنهم ملائكة الرحمة, إنهم جُلف وأشبه بكهنة آمون !.