كنت بعمر أقل من سبع سنوات وأقف قرب رجل في حارتنا يدعى القاضي محمد الأكوع حين طلبت منه امرأة عجوز صدقة. وبالصدفة وقعت عيناه عليّ وكنت أمسك قطعة نقدية فئة خمسة ريالات وأعبث بشفتي بها، فقال لي: هاتي الخمسة للعجوز... وكان رجلاً مرحاً يحب ملاطفة الاطفال. ابتسمت وقلت له: مابش معي إلاّ هي.. فقال لي إنني لو تصدقت بها لفقير فإن الله سيرجعها لي عشرة أو حتى عشرين ريالاً، وظل يغريني ويحاول إقناعي حتى وجدت نفسي أمد يدي بالخمسة للعجوز... لكنه كان يركز نظره الى وجهي ليقرأ مشاعري بعد أن خسرت الخمسة، وكنت أكاد أبكي فأبي لم يكن يعطيني خمسة إلا مرتين أو ثلاثاً بالأسبوع... ضحك القاضي وأخرج من جيبه ورقة نقدية فئة (20) ريالاً وقال لي: خذيها مش قلت لك إن الله يرجع الصدقة للفقير ضعفاً!!! ترددت في أخذها، فالعشرون مبلغ كبير لم أكن أملكه إلاّ في عيد المسلمين.. لكنه دسها في يدي وهو مبتسم ويداعبني، فطرت بها الى البيت وفرحي لا يوصف!! بعد أسبوعين تقريباً دخل حارتنا رجل فقير وكانت عندي خمسة ريالات فتذكرت كلام القاضي الأكوع وهرعت نحوه وتصدقت بها... بعدها بقيت أغلي بداخلي بانتظار أن يعيد الله لي الخمسة عشرين ريالاً.. وعندما حل أذان المغرب كنت أدعو الله ان يعيد لي الخمسة حتى بدون زيادة، لكن دون جدوى، فشعرت أنني خدعت!!! اليوم التالي وأثناء عودتي من المدرسة ظهراً لمحت شيئاً كأنه فلوس، انحنيت فإذا بها ورقتان فئة عشرين ريالاً.. فرحت وقلت في نفسي إن الله أرجع لي الصدقة، لكنني اكتفيت بأخذ ورقة واحدة وتركت ورقة العشرين ريالاً الأخرى على الأرض وهرولت الى البيت.. عصر نفس اليوم رأيت القاضي الأكوع عائداً من المسجد فقطعت طريقه وسردت له ماحدث معي بالتفصيل وهو يصغي مبتسماً.. ثم سألني: لماذا تركت ورقة العشرين ريالاً الأخرى، فقلت له: إنني عرفت أن الله ارسل العشرين الثانية لبنت ثانية في الحارة تصدقت مثلي فتركتها لها... انفجر القاضي ضحكاً من طريقة تفكيري، وأخبر أناساً آخرين بما فعلت فضحكوا أيضاً بصوت عالٍ، وظل القاضي كلما يراني ينفجر ضاحكاً، وبين الحين والآخر يعطيني خمسة أو عشرة ريالات ويقول لي ان الله يحبني ويرسل لي معه فلوساً وجعالة.. ومن يومها تعودت على اعطاء الفقراء اي شيء مما عندي. في يوم مغادرتنا صنعاء للهجرة الى إسرائيل كانت زوجته وبناته يبكين لأجلنا، ولأول مرة في حياتي رأيت دموعاً في عيني القاضي الذي لم تكن تفارقه الابتسامة.. لم أكن أعرف قيمة ذلك الموقف لكنني بعد أن بلغت الرشد أصبحت أتذكر تفاصيل كل شيء وأتألم كثيراً جداً على خسارة شعب طيب يحب الله، ويحبه الله!!!