لصنعاء في نفوس كل الشعراء اليمنيين منزلة خاصة، قد لا تحظى بها بقية المدن اليمنية, فهي عاصمة اليمن التاريخية الجميلة والعريقة, فلها كثير مما يميزها عن غيرها.. لصنعاء حب وافر يغتلي في أعماق كثير من شعراء اليمن .. حتى أن صنعاء عند قلة منهم صارت أنشودة جميلة يتغنّى بها بعضهم ويتغزّل بها لدرجة أن بعضهم صار جزءاً من هذه المدينة الفاتنة لا يكاد يقوى على مغادرتها، كالمقالح مثلاً. ولعلّ أبرز من تغنّى بجمال صنعاء وطيبة أهلها الدكتور عبدالعزيز المقالح، والشاعر محمد سعيد جرادة والدكتور محمد عبده غانم .. والأخير هو الذي سنرحل اليوم في أعماق إحدى قصائده التي تبرز حُبّه العظيم لهذه المدينة والتي قرّر البقاء فيها حتى أواخر أيامه.. تغزّل بصنعاء وكتبها شوقاً في أسفاره ورحلاته وجعلها كالفردوس الجميل الذي لا تطيب الحياة إلى فيه.. الدكتور محمد عبده غانم من مواليد عدن وقد قضى في عدن شطراً كبيراً من حياته.. لكنه كان يُخفي في أعماقه نصف حُبّه لصنعاء التي عشقها كثيراً وترجم هذا العشق في كثير من قصائده التي تقطرُ رقّةً وعذوبة.. وهذا ملمح وحدوي واضح نما في أعماق الشاعر منذ زمنٍ بعيد.. ولذلك جاءت قصائد الشاعر ثرّةً وثريّةً وانعكاساً لما يعتمل في داخله من شوقٍ وحنين لعاصمة كل اليمنيين.. ولعلّنا الآن بحاجة إلى أن نعرّج على قصيدته (البعيد القريب) والتي يقصد بها صنعاء.. والتي يقول فيها: يالصنعاءَ لكم طبتِ مقيلا ولكمْ أمتعتِ فجراً وأصيلا ولكمْ أوليتِ عُشّاق الشذى عبقاً من ليلكِ الساجي عليلا لم تزالي مثل ما كُنتِ لنا منهلاً نرتادهُ جيلاً فجيلا كُنتِ حُبّاً قد وردناهُ فتىً وسنرعى عهدهُ شيخاً كليلا كُنْتِ لحناً بالأماني دافِقاً يملأ الآصال إيقاعاً أصيلا كمْ رويناهُ رنيناً خافقاً وارتوينا منهُ نبعاً ومسيلا كمْ رقصنا في هواهُ نشوةً وقصرنا بالهوى الليل الطويلا كُنْتِ يا صنعاء شوقاً شاهقاً كمْ بلغنا في ذُراهُ المُستحيلا سيلاحظ القارئ أن القصيدة تنداح بأسلوبٍ سلسٍ جميل, كل كلمة في القصيدة لها رنين ينساب إلى الأذن كالنسيم العليل الذي يُنعش الجسم بمداعبته الرقيقة له.. من يقرأ المقطع السابق من القصيدة يجد نفسه في جوٍ من المتعة , فالقصيدة تفيض بالصدق العاطفي ..مفردات القصيدة راقصة وإيقاعية, وتسبح في مُحيطٍ من الألق.. دعونا نتابع قراءة القصيدة لنرَ كيف جعل الشاعر من صنعاء مدينة من أجمل مدن الدُنيا -قد لا تكون في نظر البعض كذلك ولكن صدق الانتماء والاندماج الحقيقي هو الذي ينشر على المدينة غُلالة ذهبية تعكس بريق الأصالة والجمال.. فيقول في القصيدة أيضاً: فغدا البحرُ مُداماً قرْقفاً نحتسيها وغدا الصخرُ هديلا ما لصنعاء رأينا لا ولا أهلها في دولة الحُسن مثيلا قد حوتْ من كُلّ فنٍّ اُسّهُ الندى والزهر والوجه الجميلا كُلُّ من حلّ بها قد حلّ في ساحة الفردوس للحُور خليلا كانت صنعاء كنزاً من الجمال المتجدّد الذي لا يبلى.. والشاعر يرى صنعاء وكلّ ما حولها جميلاً فاتناً.. حتى جبالها ليست جبالاً تهزأ بها الرياح والعواصف والأمطار.. الصخر الأصم صار هديلاً يُطرب الأسماع وشدواً يُداعب أعماق النفس.. فصنعاء معروفة بجمالها وبطيبة أهلها.. فهي مدينة حوت كل فن كما يقولون.. وهذا ما يؤكده الشاعر في أن صنعاء توفّرت فيها علامات الجمال الثلاث(الندى والزهر والوجه الجميلا)..والذي قُدِّر لهُ أن يحل بصنعاء فهو محظوظ لأنه حلّ في فردوس تختال فيه الحُور الحسان.. لقد جعل الشاعر صنعاء أكثر جمالاً من الأندلس.. والمضي قُدُماً في أعماق هذه القصيدة يجعلنا نُبحر في بحرٍ من الصور واللقطات البديعة التي تجعل من صنعاء عروساً جميلاً يُكلّلها الوقار والجمال ويُضفي عليها بُعداً من القداسة والتميُّز...فيقول: إيْه يا صنعاء يا من ألهمتْ حاضر الشعر وماضيهِ الجليلا ومضتْ تجمعُ بالفنّ لمنْ هامَ بالفنّ طريفاً وأثيلا هكذا كُنْتِ ومازلتِ لنا في مسار الوحي نبراساً نبيلا لمْ نكُن يوماً غريْبَينِ ولمْ نعرفُ الغربة للقُرب بديلا لم يكُن يفصلنا بعدٌ ولوْ كان ذاكَ البُعد شِبراً بَلْهُ مِيْلا بل نزلنا أنتِ في قلبي وفي قلبكِ الأكبرُ مازلتِ النّزيلا صنعاء مُلهمة الشعراء , لقد فجّرت قرائحهم فجادت بجميل الشعر وأعذبه وأصدقه, فهي النبراس الذي يُضيءُ طريق وحي الشعر, إلى قرائحهم, ونلمحُ في المقطع السابق التلاحم والتلاصق الذي يربط الشاعر بصنعاء لدرجة أنهما معاً جزءٌ واحدٌ من الصعب فصله, فأنتِِ ساكنة في قلبي وفي أعماق وجداني ..أما أنا فنزيلٌ في قلبك الكبير الذي يتسع ليْ ولكل اليمنيين من أبناء هذا الوطن الكبير.. ألستَ معي عزيزي القارئ في أنّ القصيدة ملحمة جميلة صاغها الشاعر بحُروفٍ تتوهّج صدقاً وعاطفةً نحو هذه المدينة التي أحبّها يوماً؟. [email protected]