سنرحل مع رائعة للشاعر (القاضي أحمد عبدالرحمن الآنسي) وهي من ديوانه (زمان الصبا).. هذه المرة سنقف عند قصيدة غنائية حُمينية لشاعر من أهم شعراء القصيدة الحُمينية .. وقد اخترت واحدة من قصائده المُشبعة بالصور الجمالية والتعبيرية والتي تفصح عن مقدرة شعرية في إبراز جملة من الأحاسيس والمشاعر الدفّافة التي تفيض بها نفس الشاعر .. وقبل الحديث عن مضمون القصيدة دعونا نورد القصيدة كاملة حتى يأخذ القارىء حصّته من الاستمتاع بها .. تقول القصيدة: أهلاً بسِيْدي وسِيْد الناسْ أهلاً بسِيْدي وسِيْد اهليْ أهلَين يا مُنتهى الأنفاس «1» أهلين يا مُنتهى سؤلي شرّفتني يا قضيب الآسْ يا راعي القلشة المحلي «2» جي«3» فوق عيني وفوق الرأس ما هُوْ على القاع ياخلّي
يا راحتي يا حياة الروح ْ يا سلوة القلب والخاطرْ ما قد مضى من جفاك مسموح لا عاد يا ساجي الناظر «4» لولا اللقا كنت انا شاروح «5» في عشقتك وانتَ لي هاجر جي فوق عيني وفوق الراس ما هُوْ على القاع يا خلّي يا خل والله انا اودك ْ وأنت عالم بما عندي انا ربيعك وانا عندك ْ وانا بروحي عليك افدي جي فوق عيني وفوق الراس ما هو على القاع يا خلّي
هيهات انّ القمر يحكيك «6» وانت المنزّه من النقصانْ كل الملاح يا رشا تفديك والبدر والشمس والأغصانْ تسجد لحسنك وهو يكفيك عن الملابيس يا فتّانْ جي فوق عيني وفوق الراس ما هو على القاع يا خلّي لو خيّروني مائة مجنب «7» وارض اليمن والبنادر لِيْ والمُلكْ واربعمائة مركبْ في داخل الهند تُدفع لِي «8» ما كان قصدي ولا المطلبْ الا انتَ يامن سَبَى عقلي جيْ فوق عيني وفوق الراس ما هو على القاع يا خلّي
والختم يا لابس المُختار «9» صلّي على سِيدْ كل الناسْ محمد المصطفى المختار وآله السادة الأكياسْ ما كرّر العاشق المحتارْ (يا بدر في داجي الأغلاسْ)«10» جي فوق عيني وفوق الراس ما هو على القاع يا خلّي يبدأ الشاعر في المقطع الاول من القصيدة بالترحيب بعزيز وحبيب جاء اليه ويبدو من استخدام الشاعر لعبارة ((اهلاً بسيدي وسيد اهلي )) ان القادم يحظى بمنزلة رفيعة في نفس الشاعر .. أهلاً بك, فأنت غاية ما تتمناه نفسي ويرجوه قلبي ..إن مقدمك ليس مقدماً عادياً فلقد شرّفتني بمجيئك وانت ترتدي ملابسك الجميلة المُزركشة والمُزدانة بالحُلي .. والدليل على ان الزائر شخص مهم ويحظى بحب ومعزة الشاعر فقد استخدم للتأكيد على شدة فرحته بمن جاء هذا البيت الذي يقول : جي فوق عيني وفوق الراس ما هو على القاع يا خلّي إنّ مثلك لا يصح أن يبقى على الارض – مهما كانت جميلة – بل نضعه في حدقات عيوننا ونبني له أعشاشاً فيها إنْ شاء. - أما اذا انتقلنا الى المقطع الثاني من القصيدة فسنجده أجمل من سابقه في التعبير عما تجيش به نفس الشاعر من حُب وعشق ولايستطيع اخفاءه، بل صوّر حالته النفسية والجسدية وكيف أضناه الحُب وعصفت به الاشواق, فقد كان يتلهّف كثيراً على لقاء محبوبه على الرغم مما كابده من مشقة البُعد والغياب ,فقد عاش في غياب محبوبه حالة من الضنى والبؤس والحرمان على الرغم من كل ما قاساه وعاناه إلا ان ذلك لم يكن سبباً لليأس والانكسار والانهزام العاطفي, كان على استعداد تام ان يطوي هذه الصفحة المُرّة في حياته التي عاشها أثناء غياب حبيبه شريطة ان يجود عليه محبوبه بلقاء جديد يكون بلسماً شافياً للجراح ويبدِّد مرارة الحرمان والهجر التي ذاقها ..ويبدو أن محبوبه حقّق له هذا الامل في اللقاء وهو ما جعل الشاعر يستعيد عافيته التي فقد جزءاً منها اثناء غياب حبيبه عنه .. هذا الغياب الذي كاد ان يودي بحياة الشاعر لولا التافتةٍ حانية من المحبوب هي التي أعادت حياة الشاعر الى طبيعتها السابقة.. فعاشا جوّاً من الانسجام والود.. ويمضي الشاعر في المقطع الثالث في التغزّل بمحبوبه وإيراد الجماليات التي يتفرّد بها .. فهو أجمل من كل البشر .. حتى القمر الوضيء المشرق لا يُشبه جمال هذا المحبوب الذي فاق جماله كل شيء ووصل حداً من الاكتمال وأصبح منزّهاً عن كل نقص .. فإذا كان كثيرالحسن والجمال وله من الملاحة والوداعة ما يفوق الوصف .. فليس كثيراً عليه ان تكون الشمس والبدر والاغصان وكل الملاح فداءً له .. بل ربما سجدت له اعترافاً بحقه في الجمال الذي تميّز به محبوب الشاعر. وفي المقطع الرابع يؤكد الشاعر انه قانع بهذا الحبيب الذي يملأ عليه كل حياته.. فهو يحبه الى درجة كبيرة ولا يتنازل عن هذا الحب مهما كانت المغريات التي يساوم عليها .. إنه حُبٌّ صادق يتجلّى فيه الوفاء بأبهى صورة.. حبٌّ أبدي وليس حُباً مرحلياً .. فحتى لو ساقوا له مائة دابة محمّلة بالبضائع الغالية والنفيسة, وحتى المجوهرات وأربعمئة مركب بما تحمله من أشياء ونصبوه ملكاً على العباد والبلاد كل ذلك لا يحقق له السعادة التي يرجوها ولم يسقط امام كل الخيارات والبدائل .. فمطلبه الوحيد هو حبيبه الذي يساوي كل هذه الدنيا بما فيها من مال ومتاع .. فهو وحده من يجعله ملكاً على عرش الوجود .. وهو وحده من تطيب به الحياة وتحلو به العشرة .. ما كان قصدي ولا المطلب إلا انْتَ يا من سبى عقلي ثم ينتهي الشاعر بالعادة التي درج عليها الشعراء الأقدمون منذ عصور الشعر القديمة وهي ختم القصيدة بالصلاة والتسليم على رسولنا الكريم محمد, صلّى الله عليه وسلم .. الهوامش: 1 مُنتهى الأنفاس :غاية ما تشتهيه النفس أو منتهى الرائحة الطيبة في النفاسة. 2 القلشة: لفظة صنعانية تُطلق على الثوب الجميل .. والمُحلّى .. وهو المُزدان بالحُلي. 3 جي: كلمة تُقال للترحيب. 4 لا عاد ياساجي الناظر ..لاعاد : يقصد به التمني أو الدعاء بعدم العودة. 5 شاروح: أي سأذهب ضحية الهجر. 6 يحكيك: يُشبهك أو يماثلك. 7 مجنب : تُطلق على الدابة المحملة بالبضائع في العامية اليمنية. 8 تُدفع لي : أي، تُدفع لي ضرائب ما تحمله من البضائع. 9 المُختار : نوع من اللباس يُصنع من الحرير المخطّط. 10 (يابدر في داجي الأغلاس) هذه عبارة مأخوذة من قصيدة اخرى كانت تُغنّى بحيث اشتهر الغناء بها. [email protected]