هناك قصائد حُمينية كثيرة تعابيرها وسلاستها وصورها ومعانيها تختلب الألباب… كل واحدة أجمل من الأخرى بإيقاعها وغنائيتها .. غنّى الفنانون معظمها.. والبعض الآخر لم يُغنّ..اليوم سنقف عند إحدى هذه الحُمينيات الجميلة.. وهي للشاعر الحسن بن اسحاق (يامن بخل عنا برد السلام).. دعونا نرى كيف يسوق الشاعر عتابه قائلاً: يامن بخل عنا برد السلام رد السلام في الشر عواجبْ من بلّغك باسر عناّ كلام كلام منه صرت عاتبْ فكيف تسمع قول أهل الملام ماخفت من عين المُراقبْ؟ أما أنا تركي لحُبّك حرام عليْفي كلّ المذاهِبْ يستفتح الشاعر قصيدته بعتاب.. ويتضح من هذا الاستفتاح أن اليأس قد أعيا شاعرنا ولم يجد وسيلة تجعله على اتصال وتواصل مع محبوبه..فحاول تذكيره بأن الشرع والدين يحث على التواصل والتقارب بل إن ردّ السلام من الأمور الواجبة في الشرع.. حاول تذكيره بذلك لعلّه يرق ويلين قليلاً ويخفف من قسوته .. ويسمح حتى بردّ السلام وهذا أقل القليل.. هذا الجفاء كان قاسياً على الشاعر فأخذ يبحث عن سبب له فقال: إذا كان الوشاة قد أفسدوا الود الذي بيننا بوشايات كاذبة وملفّقة، فثق ياحبيبي أن هذه الوشايات ليست صحيحة بل هي مفتعلة ومغرضة.. غرضها أولاً وأخيراً تمزيق حبال حبّنا القوي, فكان من الأفضل أن تتريّث وتتحلّى بمزيد من الحكمة وأنت تتلقّى هذه الوشايات التي لا تسعى إلا لإفساد حياتنا الصافية الهانئة.. وعلى الرغم من كل ذلك فأنا غير مبالٍ ولا مكترث لما يحدث.. كل مافعله الوشاة لن يزيدني إلا إصراراً على حبّك والتمسُّك بك.. ولن يأتي اليوم الذي يمكن أن أهجرك فيه أو أتخلّي فيه عن حبّك.. ويضفي على صدق حبّه هالة من القداسة والجلال حين يقول:- أما أنا تركي لحُبّك حرام علىْ في كل المذاهِبْ **** أنا الذي في فنّ أهل الهوى قريت في السبع المقارِي وفي النوى والقُرب حُبّي سوا والله بذا عالم وداري شاصبر على حُبّك صواب أوغوى واقول هِيْ تجري الجواري أنا الذي دقّيت باب الغرام من قبل ما انظر في العواقبْ في هذا المقطع يُبرز لنا الشاعر قضية خاصة به تفيد بأنه ليس غراً, أي حديث عهد بالهوى والحب.. لا.. إنه صاحب خبرة ومراس في هذا المضمارويمتلك كل الأدوات التي تؤهله إلى ذلك .. كما أنه يعيش حالة من الإتزان العاطفي والوجداني ويضبط مشاعره وعواطفه فلا يتزعزع حبّه أو يتأرجح تبعاً لمد وجزر البُعد والقُرب.. ففي القرب وفي البعد يظل حبه متوهجاً لا يخفت ولا يزول .. ولكي يؤكد صدق هذه المشاعرقال )) والله بذا عالم وداري)).وسواءً كنتُ متعقلاً في حبي لك أوكنت متعقلاً في حبي لك أوكنت متجاوزاً المعقول والمنطقي.. سأصبر على هذا الحب.. ومهما جرَّ على هذا الحب من عذاب ، يجب أن لا ألوم إلا نفسي.. فأنا من دقّ باب الغرام ودلف إلى عالمها الواسع بكامل حريّتي: قلبي الشجي لما نشب في هواك ياخل مازادلي تمالك بل فارق أحشائي وصار في رضاك وقال لِيْ ماعاد انا لك فاحسن بوصلك أحسن الله جزاك قد صرت ناشب في حبالك وحق رأسك يارشيق القوام مااترك هواك حاضر وغايب من حين أحبيتك وأصبحت سجيناً في شراكك حتى قلبي تمرّد علي .. وأنكرملكيتي له ..فقد فارق جوانحي وأحشائي وصار ملكاً لك .. فليس يعيد لي قلبي ونبضات حبي غيرك أنت.. فاعطف على مضناك بوصل تداوي فيه جراحه.. وهناك مسحة من الاستعطاف والخضوع تظهر في قوله((أحسن الله جزاك)).. ويقسم في ختام المقطع السابق بأنه لن يترك هوى من يحبه ويهواه لا اليوم ولا الغد.. ولا في مستقبل الأيام ..وهذا يؤكد شدة صدقه وإخلاصه ووفائه وسعادته بهذا الحبيب كتبت لك من فوق عشرين كتاب قاصد وماجاني جوابك عذّبت صبّك بالتجافي عذاب بالله خفّفْ من عذابك والله مافعلك بصّبك صواب ماترحمه واقف ببابك يقول لك إن شايتم الكلام والا فقُل له لايراقب مازال عاتباً ويسوق أكثر من دليل على أنه غيرمقصّر في حق من أحب.. والسياق يوحي بأن الجفا والصد لم يكن من طرف الشاعر.. فهو لم يدع شيئاً- يحس أنه سيقرّبه من حبيبه- إلا وفعله.. كتبتُ أكثر من خطاب كلها في مجملها كافية لإذابة الحديد..ولكني لم أجد رداً ولا حتى لواحد منها.. إنك بهذا تزيد من وطأة العذاب عندي .. فهل تترفّق بي وتخفف من هذا العذاب.أقسم لك أنني لا أستحق منك كل هذه القسوة والعناد لأنني أحبك وبعد أن أوردت لك كل حججي بما فيها من صدق وإخلاص أتمني أن أجد رداً مناسباً لي .. قُل لي أن أرحل بعيداً عنك وأجنّب نفسي كل هذا العناء. [email protected]