«2» لا يخفى على أحد تلك الابتسامة الساخرة التي يقذفها المفكر الإسلامي حسن الترابي في معرض حديثة عن مسائل وقضايا الفكر الإسلامي متهماً الفقهاء بالقصور والضمور العلمي مما يسبب الدوار للكثير من الفقهاء والعامة.. بل ويصيب البعض بهوس التكفير الذي لا يثير مسحة من غبار الحزن عليه، بل يزيد من ابتسامته الساخرة إلى حد القهقهة. وما يهمنا اليوم من آراء الترابي تلك الفتوى التي يصفها البعض بالصاعقة الفقهية على رؤوس المقلدين وهواة النعاس الفكري المتثائب (زواج المسلمة من كتابي)..فهذه الفتوى التي كانت في الأصل استجابة سريعة لمشكلة اجتماعية دينية خانقة في (بلاد الغرب) وهي بقاء المرأة التي تريد الإسلام مع زوجها غير المسلم والذي هو قديماً رأي لعمر بن الخطاب وهو ما عليه الشيخ القرضاوي اليوم ، الذي قاد الترابي في نهاية المطاف إلى مراجعة المسألة من جذورها الذي يقول عنها في إحدى المقابلات الصحفية في (الشرق الأوسط) “ولعل من نافلة القول التذكير بأن رأيي هذا ليس بجديد، فهو رأي قديم، وما كان مجرد خبر، ولكن كان رداً على أعراض كانت تبدو للجاليات المسلمة في أميركا، إذ قدمت إلى أحد المراكز الإسلامية هناك امرأة تريد أن تعتنق الإسلام ولكنها تريد أن تعرف حكم بقائها مع زوجها، الذي ظل على دينه، لكنهم، أي مسؤولو المركز، كانوا بانفعالهم وارتهانهم إلى التقاليد، يوصونها إن هي صدقت بأن تذهب لتقاضي زوجها طلاقا، وبالتالي تخسر ولايتها على الأبناء وتخسر كل تكاليف التقاضي، وهي في أول الخطى نحو الإسلام، وكان ذلك غالبا يصدهن عن اعتناق الإسلام وإشهاره “وبعد هذا ترك التراث الموحش إلى عالمية القرآن وتسامحه.. فعندما سألته الصحيفة” أخلص من هذا الرأي أنكم تتحدثون عن جواز بقاء المرأة المسلمة مع زوجها الكتابي.. وليس الزواج من كتابي ابتداء؟ فرد قائلاً “لا.. كنت تحدثت من قبل عن بقاء المسلمة مع زوجها الكتابي، لكني الآن افتح الأمر لتقدير الأمور جملة ولتقدير عين الزواج، فلا تمنعها آية أصلا في كتاب الله. فلذلك لا أمنعها بتراكم الأقاويل التي عهدناها. فالأقاويل التي عهدناها ركنتنا دائما بأن الإجماع هو إجماع الفقهاء المجتهدين في عصر من العصور. ولذلك نقرأ القرآن فلا نجد ذلك أصلاً، ولذلك ننصرف عنه. وأوصينا بأن نطيع ولي الأمر دائما ولو استلب الحكم منا بالقوة، وهكذا عهودنا كلها. لكن القرآن يصدنا عن كل ذلك صدودا. فنحن لا بد أن نرجع إلى الأصول، الكتاب والسنة، فإن ترك لنا الأمر لكي نقلب فيه، لأنه تركه بوحا هكذا، نقلب فيه ونقول الكلمة عامة أو نقولها خبرا، بعد ذلك نصوب على عين قضية فيه مع هذا التقدير ومع هذه الأحكام العامة. غوص في العمق: أولاً: لا يوجد دليل في القرآن الكريم يمنع من الزواج من الكتابي بل قد أباح الزواج من نساءهم، وكان هذا في اليوم الذي أكمل الله فيه الدين “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ” (المائدة) لكي لا يزايد أحد بممحاة النسخ اليوم ويلغي النصوص لتأخرها نزولاً!، وسكت عن زواجهم بنسائنا لتقديرنا ومتغيرات أحوالنا وهو الذي كان. ثانياً: الآيات الدالة على حرمة الزواج من المشركين لا يقصد به أهل الكتاب فالقرآن يفرق بين المصطلحات وإن كانوا ممن طرأ عليهم الشرك لقوله تعالى: “لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ” وقوله تعالى “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا”. فالتفريق كان واضحا في الآيات بين المشركين وأهل الكتاب مما يؤكد على دقة المصطلح القرآني، فتدبر مثل هذا لهو أمر ضروري للناظر. ثالثاً: قد نعطي للمسألة بعدا أوسع وربطاً أكثر دورانا حول حقيقة الإكراه والعداء، فالمشركون الذين تحدث عنهم القرآن ومنع الزواج منهم ليسوا عموم المشركين بل مشركي ذلك الزمن ،فهو من قبيل العام الذي يراد به الخاص ،والزواج مرتبط بالعداوة والفتنة لا بالمعتقد والعقيدة، ولو كان المعتقد لدخل في ذلك أهل الكتاب، فهم قد بلغ الإشراك بهم في التثليث مبلغه. والحقيقة أن تحريم الزواج مرتبط بحالة القتال والعدوان “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين أن تبروهم وتقسطوا إليهم..” فمنع الزواج من المعتدي هي حالة تبري من الأعداء الذي قد تحول نسائهم إلى أعين لتمرير الأخبار والأسرار القتالية، وهي أيضاً حالة مفاصلة تامة في الولاء والبراء. لذا كان الامتحان في الإيمان في هذه الحالة أمر مهم لاعتبارات أمنية، والرسالة لم تأكد على اختبار الإيمان كموطن العداء والقتال “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ.. “أما الشرك السلمي فلا مشكلة اجتماعية معه فقد نكون الصداقات الاجتماعية، بل والمصاهرة معهم في ضوء قوله تعالى” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)”(الممتحنة). والتأكيد على الزواج من نساء أهل الكتاب في آخر السور نزولا “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)” (المائدة) ليست إلا للتأكيد على حقيقة الزواج المبني على السلم وإن اختلفت العقائد وتغيرت وذلك بربطها بآيات العداء التي ذكرناها سابقا والله أعلم. لهذه الفتاوى صدىً مقلق في مجتمعات حرمت العقل الإسلامي من أبسط حقوقه التدبرية في النص القرآني على ضوء آياته المتناثرة بين صفحاته ومقاصده العليا المنتصرة للحق والخير والسلام، ولذا لا نستغرب دس الرؤوس في التراب حين سماعها، أو رفع الصراخ إلى منتهاه واتهام الناس في نواياهم، فالفرق واضح بين القراءة التجزيئية للنص القرآني خارج مقاصده ،والقراءة الموضوعية النابتة من مقاصده وغاياته..