إعلان عدن التاريخي.. بذرة العمل السياسي ونقطة التحول من إطار الثورة    الدوري الاوروبي .. ليفركوزن يواصل تحقيق الفوز    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    "القصاص" ينهي فاجعة قتل مواطن بإعدام قاتله رمياً بالرصاص    "قلوب تنبض بالأمل: جمعية "البلسم السعودية" تُنير دروب اليمن ب 113 عملية جراحية قلب مفتوح وقسطرة."    غضب واسع من إعلان الحوثيين إحباط محاولة انقلاب بصنعاء واتهام شخصية وطنية بذلك!    لملس يفاجئ الجميع: الانتقالي سيعيدنا إلى أحضان صنعاء    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    "مشرف حوثي يطرد المرضى من مستشفى ذمار ويفرض جباية لإعادة فتحه"    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    تضامن حضرموت يحلق بجاره الشعب إلى نهائي البطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت بفوزه على سيئون    مجلس وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل يناقش عدداً من القضايا المدرجة في جدول أعماله    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    المنخفض الجوي في اليمن يلحق الضرر ب5 آلاف أسرة نازحة جراء المنخفض الجوي باليمن    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    توضيح من أمن عدن بشأن مطاردة ناشط موالٍ للانتقالي    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لابد من «قونيا» ولو طال «السهر» !
نشر في الجمهورية يوم 14 - 02 - 2014

اشتهرت مقولة الإمام الشافعي رحمه الله : «لا بد من صنعاء ولو طال السفرس، فقد جاء إلى صنعاء مرتين أثناء مرحلة الطلب والتعلم ، في الأولى جاء لطلب الحديث من الإمام عبد الرزاق الصنعاني ، وفي الأخرى جاء لتعلم علم القيافة الذي تفوّق فيه اليمنيون آنئذٍ، وهو من فروع علم النفس في هذا العصر .
وعلى نفس المنوال نسجتُ العنوان أعلاه لهذه المقالة ، مع بعض التعديل ، فقد كنتُ الشهر الماضي في زيارة لاسطنبول تنوعت فيها الأغراض، و وجدتُ يومين فارغين ، ورغم معاناتي من السهر إلا أنني عزمت على السفر إلى مدينة «قوني» التاريخية والواقعة في جنوب إسطنبول، والبعيدة عنها بمسافة اثنتي عشرة ساعة بالباص، لكننا بنعمة من الله وفضله قطعناها بالطائرة في ساعة واحدة.
لماذا قونيا؟
رغم وجود مدن تركية أكثر شهرة من قونيا إلا أنني اخترتها لأنها كانت عاصمة السلاجقة الروم، وهي ولاية الفقيه نصر الدين خوجا المشهور في التراث العربي ب «جحا»، وفيها ضريح ومتحف الشاعر الصوفي الشهير جلال الدين الرومي ، وهي منطلق نجم الدين أربكان للعمل السياسي، ومسقط رأس وزير الخارجية التركي الحالي ومفكر حزب العدالة والتنمية الحاكم الآن، داوود أوغلو.
وقونيا هي المدينة السادسة أو السابعة في تركيا من حيث عدد السكان، حيث يسكنها ما يزيد عن مليون شخص، ويوجد مثلهم في المحافظات «المديريات» التابعة لها، فهي واحدة من 81 ولاية تضمها الجمهورية التركية.
ومع أنها تقع في سفوح وسهول واسعة، واشتهرت بزراعة القمح، حتى قيل بأنها مخزن القمح التركي، إلا أنني لاحظت ونحن نطير فوقها وجود مدينة صناعية كبيرة فيها، مما أظهر ثراءً في أبنيتها، حيث تشهد أطرافها ميلاد مدن سكنية فخمة، وفي القلب منها بدأت العمارات الطويلة تقوم على أنقاض البيوت القديمة، وفيها برج يحتوي على 42 طابقاً وهو الرقم الذي يمثّل ترتيب ولاية قونيا بين ولايات تركيا.
وبالمناسبة فإن تجار قونيا هم الذين بنوا المدرسة التركية في صنعاء، وهم الذين يدعمون ميزانية المدارس التركية في صنعاء وتعز وعدن.
وعلى ذكر المدارس كان مسؤول المدارس التابعة للخدمة في افريقيا واليمن أ. فاتح، ورئيس القسم العربي في الأكاديمية الدولية باسطنبول ومشرف مجلة حراء أ. نوزات صواش قد أرسلا معي مرافقاً ودليلاً وهو أ. إلياس شان أوغلو الذي أحسن مرافقتي، حيث يتقن العربية بعد أن كان مديراً للمدارس التركية في السودان لمدة عشر سنوات وفي المغرب لمدة تسع سنوات، وكان قد حضر إلى شقتي في إسطنبول قبل الفجر وأخذني بسيارته إلى مطار إسطنبول، حيث عبرنا من آسيا إلى أوربا فوق جسر البوسفور، ولأول مرة لم نتأخر ثانية واحدة حتى وصلنا المطار الذي كان يزدحم بالناس في طوابقه الأربعة، كأنه منى أو مزدلفة!
وبعد أن صلينا الفجر في مسجد المطار طارت بنا «التركية» كأنها تسابق خيوط الفجر التي كانت بدأت بالتسلل من بين أطباق السحب الكثيفة.
وبعد ساعة كاملة كنا نهبط في مطار «قونية» بينما كانت الشمس ترتفع في محاولة للظهور في مشرق هذه المدينة الشديدة البرودة والتي جعلتني أحن إلى برد إسطنبول مع أنه أشد من برد صنعاء!.
وعندما وصلنا إلى بوابة المطار لسعنا زمهرير هذه المدينة حتى كأننا قد دخلنا إلى ثلاجة، لكن دفئ استقبال أ. دلاور وحرارة الحفاوة والكرم القوني غمرانا بالدفئ ، حيث سار بنا المضيف في طرقات المدينة الباردة والخالية من المارة في هذا الوقت المبكر، ثم صعد بنا إلى هضبة مزروعة بأشجار غابية حديثة إلى أن حطّ بنا في أجمل مطاعم المدينة الذي يُمكِّن الطاعم من رؤية المدينة كلها، لولا سحب الدخان وبعض الأتربة التي كانت تمنع رؤية الأحياء البعيدة، وذلك بسبب المدافئ التقليدية التي تعمل بالفحم، وكانت مقاطيرها تشمخ في أعالي البيوت الفخمة التي تتكون في الغالب من ثلاثة أدوار، وكانت فلل كثيرة تبدو في أسطحها الألواح الخاصة بتوليد الطاقة الشمسية وذلك بسبب غلاء الغاز في تركيا.
قونيا أيقونة سلاجقة الروم
اختلفت المصادر التاريخية حول اسم هذه المدينة، فهناك رواية تقول: إن أصله أفريقي، وجاء من إيقون أية علامات أو إيقونية. بمعنى أم ، وأنها فتحت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأصبحت تسمى «قونية».
وهناك من ذهب إلى أن هذا الاسم تركي بمعنى: إسكن يا أخي، وأن هذا الإسم أطلق عليها منذ 1071م ، بعد أن قام القائد السلجوقي الشهير ألب أرسلان بفتحها، ثم صارت عاصمة لسلاجقة الأناضول «الروم» وبعض الدول في تلك الأثناء كالدولة الكرمانية ولمدة استمرت 211 عاماً، ضمن معارك الكر والفر بين تلك الدول في تلك الحقبة التي ازدهرت فيها قونيا وصارت أهم مركز للعلم والثقافة في الأناضول. وكان قد انتزعها من الكرمانيين السلطان العثماني بايزيد الأول.
ومن المهم الإشارة إلى أن سلطنة السلاجقة الأتراك قد تمددت من وسط آسيا وإيران إلى هذه المنطقة التي كانت تسمى بآسيا الصغرى أو بلاد الروم أو الأناضول، وكانت جزءاً من الدولة البيزنطية.
ولم تكن قد عُرفت باسم تركيا حينئذٍ، وفي سنة 462ه وصل إلى قونيا جيش السلطان السلجوقي العظيم ألب أرسلان الذي فتحها وفتح غيرها من المدن مثل قيصرية، مما دفع امبراطور بيزنطة إلى إعداد جيش ضخم يصل إلى 300 ألف مقاتل اجتمع من عدد من الشعوب النصرانية، ولم يكن مع السلطان ألب أرسلان سوى 15 ألف مقاتل لكنهم كانوا أرقاماً صحيحة، حيث استكملوا عدة النصر من أسباب مادية ومعنوية، والتقى الطرفان في معركة تاريخية فاصلة تسمى «ملاذكرت» سنة 463ه بعد أن لبس القائد وجنوده الأكفان حتى سموا بالجيش المكفّن، وانتهت المعركة بأسْر الامبراطور وهزيمة جيشه، مما أدى إلى تغيير التاريخ، حيث انساحت الدولة السلجوقية بعدها في سائر مناطق الأناضول، وسيطرت عليها وأدخلتها نهائياً في عالم المسلمين.
وفي تلك الأثناء حدثت خلافات بين السلاجقة مما أدى إلى انقسام السلطنة إلى عدد من الدول، ومنها دولة سلاجقة الروم التي أسسها في الأناصول سليمان بن قتلمش سنة 470ه / 1077م واستمرت 224 سنة إلى أن سقطت على أيدي المغول سنة 700ه / 1300م.
وتمكّن داوود بن سليمان من السيطرة على قونية سنة 480ه ، واتخذها عاصمة، لأنها كانت من أجمل المدن البيزنطية في آسيا الصغرى، وتحولت من مدينة مسيحية بيزنطية إلى مدينة إسلامية تركية.
وبعد فتح مدينة نيقية القريبة من اسطنبول اتخذها عاصمة له، لكنها سقطت في 491ه / 1097 بيد جيوش الحملة الصليبية الأولى التي بدأت الزحف من هناك لغزو العالم العربي، فتراجع سلطان السلاجقة الروم قلج أرسلان إلى الخلف وأعاد قونية عاصمة، لكنها سقطت أيضاً في نفس العام بيد جحافل الصليبيين، وقد استعادها هذا السلطان، وصارت قاعدة لمقاومتهم، ثم استقر بها بعد أن أنزل هزائم متتالية بالغزاة.
هذه هي قونية التي صارت أيقونة لسلاجقة الروم المسلمين، وظلت عاصمة لحوالي قرنين من الزمان، ولذلك فإنها عُرفت كمدينة تاريخية مكتظة بالآثار ، رغم أنها لا تبدو كذلك لأول وهلة.
مدينة جديدة و آثار قديمة
بحكم أن قونيا مشهورة كمدينة تاريخية، فقد كنت أتوقع أن أشاهد مدينة عتيقة، مثل الأحياء القديمة في إسطنبول، لكنني فوجئت من الوهلة الأولى بأن المدينة حديثة، فظننت بأن المدينة القديمة قد انحصرت في مساحة ضيقة كصنعاء القديمة، أو القاهرة القديمة، لكن ظني تبدّد عندما وصلت مع الأدلاء إلى قلب المدينة، حيث رأينا عدداً من المساجد والمتاحف التي لا يظهر عليها البلى وسط ساحات عصرية فسيحة، حيث قامت حكومة أردوغان بالاهتمام بهذه الآثار في قلب المدينة، وأحاطتها بساحات مرصوفة وحدائق بهيجة ومتنفسات جميلة، حتى أن عتاقتها لا تظهر إلا لمن يتفحصها.
ومن أهم آثار هذه المدينة
1 - ضريح ومتحف مولانا جلال الدين الرومي ، وسنتحدث عنه في مقام آخر .
2 - جامع السلطان سليم الثاني، والذي حكم بين 1566 – 1574م، وكان قد بنى هذا الجامع عندما كان حاكماً لقونيا في عهد والده السلطان سليمان القانوني، حيث أمر ببناء مسجده الجميل بجانب ضريح مولانا جلال الدين الرومي.
3 - جامع العزيزية، وهو من أهم الآثار العثمانية بجانب جامع السليمية.
4 - جامع علاء الدين، وهو أكبر وأقدم جامع في عهد السلاجقة، وسمي باسم السلطان علاء الدين الذي كان من أواخر حكام السلاجقة بل وعاصر مؤسس الدولة العثمانية وتعاون معه في دحر البيزنطيين.
ذهبنا قبل صلاة الظهر إلى زيارة هذا الجامع الذي يعتلي تلة عريضة وسط المدينة، وبجانبه بقايا قصر السلطان، وتحفُّه حديقة حديثة شديدة الجمال.
دخلنا للوضوء في حمامات المسجد، ومع أني مسحتُ على الجَوربين ، ولم يفعل رفقائي ذلك لأنه غير جائز في مذهبهم الحنفي، إلا أنني كنت أحس بأن أصابع قدميَّ ويديَّ ستتقطعان من البرد، حتى قلتُ لهم: إننا لم نتوضأ بالماء بل بعصير الثلج!
وفي داخل المسجد كانت قدماي تئنان من لسعات البرد ، رغم أن أرضية المسجد مفروشة بأضخم أنواع السجاد التركي السميك.
وعندما رأيت أشعة الشمس - التي سطعت ثم اختفت فجأة - تتسلل من نافذة المسجد هرولت إليها مسرعاً، وكم كان وقعها لذيذاً، بينما الأتراك لا يأبهون!!
5 - مكتبة يوسف آغا، وهي أثر عثماني يقع في قلب المدينة بجانب جامع السلطان سليم الثاني، وهي دار للمخطوطات ، يحوي عدداً كبيراً من المخطوطات الإسلامية النادرة ، وبالذات الصوفية، كبعض كتب محيي الدين بن عربي التي قد لا توجد إلا هناك.
6 - جامع شرف الدين، وهو من حكام دولة بني قرمان «أو كرمان» وكذلك دار الحفاظ الذي بناه محمد قرمان لحفظة القرآن.
وكانت الدولة القرمانية قد قامت على حساب السلاجقة، ثم تحطمت على أيدي العثمانيين، واتخذت من قونية عاصمة لها في بعض المراحل، ولذلك تكثر آثارها فيها.
7 - المدارس التعليمية، حيث تكثر في قونية المدارس السلجوقية، والعثمانية، والكرمانية، ومن أهمها:
- مدرسة المنارة الدقيقة، أنشأها أحد وزراء السلاجقة لتعليم العلوم الحديثة.
- مدرسة ذات القوارير، وهي لتدريس الفقه الحنبلي ، بناها بدر الدين مخلص ، وتتكون من رخام لامع أشبه بالزجاج، ولذلك سميت بهذا الإسم.
- مدرسة كاراني: كلية صاحب عطاء، وهو وزير سلجوقي سمى هذه الكلية باسمه، وفي الثقافة التركية فإن الكلية تعني المجمع الذي يوجد فيه المسجد والمدرسة والضريح والحمام.
وتوجد بجانب ذلك أربعة متاحف، أبرزها متحف مولانا جلال الدين الرومي، الذي اشتهرت قونية به، فمن هو جلال الدين الرومي؟
فارس الشعر و التصوّف
في المقدمة العربية لكتابه «المثنوي» الذي كتبه بالفارسية ، عرَّف الرومي نفسه بأنه محمد بن محمد بن الحسين بن أحمد البلخي القونوي الرومي. وينتهي نسبه إلى أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.
وُلد في بلخ سنة 604ه في غرب أفغانستان، وكان أبوه فقيهاً في المذهب الحنفي، هاجر مع أبيه وهو في الرابعة من عمره إلى بغداد، ودرس في المدرسة المستنصرية، وظل أبوه يتنقل من بلد إلى آخر إلى أن استقر به المقام معلّماً في قونية سنة 623ه .
ورث جلال الدين عن والده مهنة التدريس، فدرّس في أربع مدارس من مدارس قونية، وكان يواصل التبحر في الفقه وسائر علوم الشريعة، ويكثر التأمل والرياضات إلى أن أصبح مؤسساً لطريقة صوفية جديدة هي الطريقة المولوية، نسبة إلى تلقيبه من قبل تلاميذه ومريديه ب«مولانا»!
وكان قبل ذلك وبعده ينسج أجود أنواع الشعر، حتى ذهب بعضهم إلى عدّه من أفضل من كتب الشعر بالفارسية ، وقد اتهم من قبل البعض بالانتماء إلى مدرسة الحلول والاتحاد، ولا أعتقد صحة هذه التهمة، غير أن ميله إلى المجاز وبراعة خياله الشعري وغزارة شعره الفلسفي قد أوجد لبساً في أذهان البعض، وصنعا القابلية لقبول هذه التهمة في أذهان بعض المسلمين.
وقد ألَّف عدداً من الكتب باللغة الفارسية، أهمها:
1 - المثنوي: ويتكون من 25،700 ألف بيت من الشعر موزعة على عشرة أجزاء، وكان قد قدمه بالعربية، وخلّل هذه المقدمة بأبيات من شعره العربي، وتمت ترجمته إلى عدد من اللغات العالمية الحية ، بسبب البُعد الإنساني في شعره وفلسفته، ولذلك فإن زوّاره يأتون من كل أصقاع الأرض، وعلى رأسها أوربا وأمريكا واليابان، كما قال لي بعض أهالي المدينة.
2 - ديوان كبير.
3 - فيه ما فيه.
4 - مكتوبات.
ويمكن اعتباره شاعر الصوفية، وصوفي الشعراء، ولهذا تأثر به كثيرون، ووصل التأثر به إلى حد أن أصبحت الفارسية هي لغة الأدب عند الأتراك العثمانيين.
وممن تأثر به في العصر الحديث أبرز علمين تجديديين في تركيا، وهما:
- بديع الزمان النورسي الذي استشهد بأقواله في مواضع كثيرة، وظهر تأثره به في اثنين من العناوين الجامعة لرسائل النور ، وهما: «مكتوبات»، و« المثنوي» الذي وصفه بالعربي، تمييزاً له عن المثنوي الفارسي للرومي.
- فتح الله جولن: وهو شديد الإعجاب به، والثناء عليه ، وفي دراستي لفكر فتح الله جولن وجدت أن الرومي واحد من أهم خمسة أشخاص نهل منهم، واستشهد بأقوالهم، واستنار بأفعالهم، ولاسيما في البعد الإنساني الذي برز في فكر ودعوة بل ومشاريع فتح الله جولن.
وقد ترجم «المثنوي» إلى العربية، وقام د. عبدالوهاب عزام رحمه الله بترجمة مختارات من شعره تحت عنوان «فصول من المثنوي»!
مشاعر «الجلال» في ضريح «جلال الدين»
كانت أول وأطول محطة توقفتُ عندها ضمن المعالم الأثرية لقونية هو ضريح ومتحف «مولانا» جلال الدين الرومي «604ه - 672ه» «1207 - 1273» والذي استقر في قونية سنة 623ه إلى أن مات فيها.
وضريحه هو الآن أبرز متاحف قونية، ويقع في قلب المدينة، ويحسبه الإنسان مسجداً إذا نظر إليه من الخارج، إذ يتكون من مبنى ضخم وله ملحقات، وقد بني سنة 1396م في عهد السلطان بايزيد الأول الذي يبدو أنه كان ذا مسحة صوفية، لأن عهده اشتهر ببناء الكثير من ملاجئ الدراويش والمحتاجين وأضرحة الزهاد، إضافة إلى المساجد بالطبع ، وأهمها الجامع الكبير في بورصا، ونًزل المسافرين، والنزل الطبية والمدارس.
يتكون الضريح من منارة طويلة وصومعة عريضة قصيرة مطلية باللون الأخضر من الخارج، ولم أرَ لها مثيلاً حتى الآن في تركيا، وقبتين متوسطتين وقرابة عشرين من القباب الصغيرة، وبرج صغير بالقرب من بوابة الدخول.
هذا في المبنى الرئيسي الذي يوجد فيه ضريح الرومي وبجانبه أضرحة أسرته، حيث يوجد بجانبه قبر خشبي مرتفع رأسياً، ويزعم بعض المريدين أن جلال الدين عندما جيء بجثمانه ليقبر بجانب ضريح أبيه، قام أبوه من قبره تقديراً لحكمته، فصُنع له ذلك القبر المستقيم، كأنه ظل واقفاً ليحرس ابنه الممدد بجانبه!
ويقسّم هذا المبنى إلى أجنحة وغرف، تعرض في بعضها عمائم «مولانا» الفخمة وثيابه الرثة!
وفي أخرى توجد مقتنيات الشيخ والتحف التي أهديت إليه، وتعرض أصول كتبه الأربعة التي ذكرناها آنفاً، وهي مفتوحة ومخطوطة باللغة الفارسية ذات الحروف العربية، وتوجد مصاحف ذات أحجام وخطوط مختلفة.
العجيب أن الفارسية هي الحاضر الأبرز في هذا المتحف، حيث إن أكثر الأشياء مكتوبة بها ، بما في ذلك العبارات الموجودة على الجدران ، ومع ذلك فإن الإيرانيين وحدهم هم من لا يزورون هذا الضريح – المتحف – مع غرامهم بالأضرحة وتعصبهم لقوميتهم الفارسية، ويبدو أن سنية الرومي هي السبب الوحيد!
ويوجد صندوق زجاجي محكم الصنع والغلق، وله فتحتان صغيرتان، رأيت الزوار يدسون أنوفهم فيهما، وقيل لي: إن داخل الصندوق شعرتان شريفتان للرسول «ص» ، فقربت أنفي من الفتحة لكنني لم أشم شيئاً، ولا أظن بأن شعر الرسول «ص» قد وصل إلى هنا، لكن العواطف الجياشة تجعل الكثيرين يشمون أريجاً مميزاً في هذا الصندوق!
وتوجد غرف أخرى كملاحق فيها تماثيل لمريدي وطلاب الرومي، تساعد في شرح طبيعة الحياة التي كان يحياها هؤلاء هنا.
وتوجد غرفة كبيرة مميزة، فيها تماثيل لعدد من الصوفية وهم يطبخون فوق مواقد النيران، وهو المطبخ الذي كان جزءاً من تربية الرومي لتلاميذه، بجانب تجهيز الطعام ، حيث يبدأ الملتحق بالشيخ للدراسة أو الذكر، بالعمل في هذا المطبخ لمدة أربعين يوماً حتى تحترق في داخله أشواك الكبر وأشواق الاستعلاء. وعندما أخبرت صديقي العزيز أ. نوزات صواش بما رأيت في هذا المطبخ، قال: إن تلاميذ الأستاذ فتح الله جولن يتلقون مثل هذه التربية عند أستاذهم ، مع عدم التقيد بأربعين يوماً!
وفي غرفة أخرى توجد الآلات الموسيقية وأدوات الإيقاع التي كانت تستخدم في حلق الذكر أيام الرومي، وكذا النوتات الموسيقية.
مما يجدر الإعجاب به في هذا السياق هو الاهتمام الحكومي البالغ بهذا الصرح، وبسائر الآثار والمتاحف، حيث لا يظهر عليه أيٌّ من مظاهر البلى، وتولت الحكومة هدم الكثير من البيوت المحيطة وعوضت أهلها، لتحيط الضريح بحديقة صغيرة، ثم تحيط الضريح وحديقته بساحة عريضة فسيحة ، وبشوارع جميلة من كل الجهات، ثم أوجدت في الطرف الآخر حديقة كبيرة وجميلة.
ويتم الدخول بطريقة منظمة من بوابة، والخروج من بوابة أخرى، ولأن الضريح مبلط وغير مفروش، فإنه يُسمح للزوار بالدخول بأحذيتهم ولكن بعد تغطيتها بغلاف بلاستيكي خفيف!
وقبل ذلك فإن كل المعلومات متوفرة عن كل قطعة في المبنى وملحقاته بل والمساحات المجاورة له، إذ تم ترقيمها من 1 46 ، ومن يريد المعرفة فإنه يستطيع أن يستأجر جهازاً إلكترونياً صغيراً عند البوابة الخارجية، باللغة التي يريد، وقد استأجر لي المضيفون واحداً منها باللغة العربية ، وكنت كلما أمرّ على معْلَم ما، أضغط على الرقم المسجل أمامه فيأتي سيل من المعلومات عنه، لكن السرعة في هذه الجولة حتى أستطيع زيارة أكبر عدد من المعالم لم يتح لي سماع كل المعلومات!
ويبدو الوعي المجتمعي عالياً، حيث يلتزم الجميع بآداب الزيارة، بما في ذلك عدم التصوير داخل المتحف الرئيسي حيث القبور والكتب، والمصاحف المخطوطة، ولم أر أيّ أحد يمارس أي طقس بدعي أمام قبر «مولانا» حيث يقف كل واحد، داعياً له ومسلماً عليه، ثم ينصرف.
وكان هذا المتحف قد فتح سنة 1927 ، وزاره ملايين البشر من سائر الجنسيات، حتى أنني وجدت إحصائية تقول: إن عام 1993 وحده شهد زيارة 1,200 مليون شخص ، وقال لي بعض الأهالي: إن اليابانيين هم أكثر الجنسيات الأجنبية التي تزور ضريح ومتحف الرومي، وفي زيارتي رأيت أجناساً عدة، كان المبنى يغص بهم رغم البرد الشديد ، وكانت هناك قافلة من الزوار الأفغان بملابسهم المميزة ، نظراً لأن الرومي ينحدر من أصل أفغاني!
قونيا في مهب التصوف
عندما اقتربنا من قونية شعرنا بمطبات هوائية قوية وكذلك عند إقلاعنا في طريق العودة، حتى أن راكباً بجانبي كان يحرك يديه نحوي بطريقة لا إرادية، كأنه يريد أن يتمسك بي كلما أحس بمطب!
حكيت للأستاذ العزيز نوزات صواش هذا الموقف بعد عودتي إلى اسطنبول، فقال لي: إنه ذهب في إحدى المرات مع علماء سودانيين إلى قونية فشعروا بهذه المطبات، وفي الطريق من المطار إلى المدينة رأوا زوابع ترابية، فأخبر أهل المدينة بذلك، فقالوا له: إن هذا معروف في قونيا، وأن السلطان سليم الثاني شكا من هذه العواصف، فقيل له: إن هذه المدينة المولوية كل شيئ يدور فيها من العشق، حتى الذرات والعواصف!
وكان هذا المتكلم يشير إلى الرقص الدائري الذي يمارسه المولويون ضمن طقوس الذكر في طريقتهم!.
الجدير بالذكر أن الطريقة المولوية هي إحدى الطرق الثلاث المعروفة في تركيا، وهي:
1 - المولوية: وتنتسب إلى «مولانا» جلال الدين الرومي، وتتميز عن سائر الطرق في رأيي بأمرين:
الأول: أمر نظري وهو بروز البعد الإنساني فيها، حيث يدعو الرومي كل إنسان إلى الدخول، لكونه إنساناً، ولهذا صارت من أشهر الطرق في الغرب وفي اليابان والصين وروسيا.
الآخر: أمر عملي وهو أنها أدخلت الآلات الموسيقية والغناء والرقص بتلك الطريقة الدائرية السريعة ضمن طقوس الذكر.
2 - النقشبندية:
وهي أكثر الطرق انتشاراً وتأثيراً في تركيا وتنسب إلى الشيخ بهاء الدين محمد بن محمد البخاري «618 791ه» الذي لقّب بشاه نقشبند، واشتهرت لسهولتها وعدم تعقيدها، مثل الشاذلية في الوطن العربي.
3 - البكداشية:
ورغم أنها حضرت بقوة في بلاط كثير من حكام الدولة العثمانية ، وذلك لدورها في هداية أجدادهم إلى الإسلام ضمن دورها المقدر في نشر الإسلام ، إلا أنها تآكلت وسط الشعب التركي وعلمائه لوجود نفس شيعي فيها.
ولما كانت نشأة المولوية في قونيا ، فإنها الحاضر الأكبر وربما الأوحد فيها، بين الطرق الصوفية، ولذلك يمكن اعتبارها ضمن أهم المدن التركية المحافظة، ولهذا كانت كثير من حملات المقاومة للجيوش الصليبية تنطلق منها.
وبسبب هذه الجذور المحافظة كان لحركات الإسلام السياسي حضور لافت فيها، حتى أن بعض التواريخ المهمة في حياتها ارتبطت بهذه المدينة.
ومن ذلك ما حدث في 6 سبتمبر 1980، عندما قام زعيم حزب السلامة الوطني البروفيسور، نجم الدين أربكان بدعوة محبيه وأنصاره للمجيئ إلى قونيا من كل أنحاء تركيا للقيام بمظاهرة كبرى تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وكان رد قائد الجيش آنذاك كنعان إيفرين هو الانقضاض على الديمقراطية وسيطرة العسكر على السلطة في 12 سبتمبر، أي بعد أسبوع فقط من هذه المظاهرة التي هي عاصفة من عواصف قونيا، وتسببت بعاصفة عسكرية أكبر أودت بالديمقراطية والأحزاب والحريات وبحزب السلامة وأربكان!!. ويُعدّ أربكان أكبر شخصية سياسية أثارت الجدل في تركيا خلال عقود، وكان قد انعطف من العمل الأكاديمي إلى العمل السياسي أول مرة سنة 1969، عندما رشح نفسه في الانتخابات النيابية مستقلاً عن قونية، واكتسح كالعاصفة منافسيه، عندما فاز بمعظم الأصوات، حيث انحاز إليه عشرة آلاف شاب من خريجي المدارس الدينية.
عاصفة تمنع نزول الغيث
ومع مطلع هذا العام 2014م شهدت تركيا عاصفة سياسية واجتماعية، بسبب الخلافات بين حزب العدالة والتنمية وتيار الخدمة، ومن المعلوم أن قونيا لها حضور وافر في هذه العاصفة، من خلال داوود أوجلو وزير الخارجية التركي الذي هو أحد أركان هذه العاصفة!
وربما كانت عاصفة الخلافات بين التيارين الإسلاميين: «العدالة والخدمة» هي السبب في عدم نزول المطر والثلج هذا العام في تركيا عامة وقونية خاصة التي لاحظت أن مزروعاتها تميل إلى الصفرة من شدة العطش، وكنت في أحاديثي مع أبناء الخدمة أربط ذلك بالخلافات!
وكما قال الإخوة فإن هذا الوقت من كل عام لا يأتي إلا وقد غمرت الأمطار أراضيهم، بل وقد ابيضّت هذه الأرض بالثلوج ، ورغم البرد القارس لم نرَ الثلوج إلا في قمم الجبال والتلال المحيطة بالمدينة، وكأنها عمائم بيضاء لحراس ملائكيين تحرس هذه المدينة الصوفية!.
ومن المؤكد أن الغيث رحمة والفرقة عذاب كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}، ولا يجتمع بالتأكيد العذاب مع الرحمة.
ومن تدابير القدر أن المطر الذي لم ينزل منذ شهرين وهو موسم نزوله المعتاد، نزل بعد ساعات من وصولي إلى قونيا، حيث ذهبنا للغداء بمطعم في وسط المدينة بين زخات المطر، وكان البعض يقول: إن هذا من حسن طالعي ، ولا أدري إن كان ذلك من حسن أو سوء طالعي!، لأنني كنت حريصاً على زيارة جامعة مولانا، وهي جامعة أهلية تابعة للخدمة ، لكن تتابع المطر جعل رفيقي يأخذني إلى الأكاديمية التي تحتوي على سكن لطلاب الإلهيات وهم من جنسيات عدة ، حيث استرحت حتى صلاة العصر، وبعدها ألقيت عليهم محاضرة استمرت إلى صلاة المغرب، وقد طال هذا الوقت لأن نصفه أخذه الأستاذ إلياس للترجمة!.
وبعد أن صلينا المغرب مع طلاب الأكاديمية والسكن الداخلي فريضة ونافلة، تلا الإمام قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}، فصاح الحاضرون بصوت واحد: لبيك ثم بدأوا بالصلاة على النبي، وتلوا بعض الأذكار والأوراد بأصوات متناغمة جميلة، وعندما انتهينا سألت الأستاذ إلياس عن ذلك، فقال: إن لأبناء الخدمة أوراداً بعد كل صلاة ، وأن كل ورد يختلف عن الآخر ، بمعنى أن لكل صلاة وردها الخاص بها!.
وكانت خاتمة الزيارة عشاء في مطعم الأكاديمية مع الطلاب، وعلى الفور ركبنا سيارة الأستاذ الذي استقبلنا، حيث مخرت بنا السيارة عباب المطر الذي كان ينزل بهدوء دون رعد أو برق منذ العصر وبدون توقف، وفي التاسعة مساء أقلعت بنا الطائرة لتهتز مرة أخرى من أعاصير العشق القونوي في الجو، وفي العاشرة وصلنا إلى اسطنبول ، وعندما نزلت من سلّم الطائرة استمتعت بجو اسطنبول الدافئ مقارنة بقونية، وإلا فهي أبرد من صنعاء، وكانت الثلوج قبل يومين قد نزلت فيها ومع ذلك لم أشعر بمثل صقيع قونيا، هل لأن الحميمية في اسطنبول أكثر أم بسبب حرارة الخلافات بين العدالة والخدمة التي احتدمت في اسطنبول؟!
الفقيه القونوي الذي أشبع الناس ضحكاً
حتى لا ينتهي هذا الاستطلاع بهذه النهاية «التراجيدية» الحزينة، فإننا سنضيف فقرة تكون مسك الختام عن فقيه ينتمي إلى هذه الولاية، واشتهر بكثرة النوادر، ويدعى نصر الدين خوجة «1208 1284» وتشير أكثر المصادر التأريخية إلى أنه هو الشخص المعروف بجحا في الأدب الشعبي العربي، رغم أن المتدينين الأتراك ينكرون ذلك لما عرف عن علمائهم من صرامة، وما اشتهر عموماً من جدية الأتراك، ولحبهم لأولئك العلماء .
ومهما يكن الأمر فقد ولد نصر الدين في قرية من قرى ولاية قونيا قرب مدينة سيفري حصار، وتعلم العربية وعلوم الشريعة عن والده ، ثم ورث إمامة المسجد عنه بعد وفاته ، وظل يتدرج في الوظائف الحكومية إلى أن صار قاضياً لمدينة «آق شهر» ومعلمها، واستمر حتى وفاته فيها، وقبره مشهور هناك بل هو مزار سياحي يؤمُّه الكثير من الزوار.
وتعني «آق شهر»: المدينة البيضاء ، مع أن الناظر إليها من التلال المجاورة يراها مدينة حمراء قانية نتيجة سقوفها القرمدية الجميلة، وتتكون من فلل ذات دورين في الغالب، وشوارعها مرصوفة بالأحجار المنحوتة، وتمتلئ بالمساجد والحدائق رغم أنها كلها حديقة كبيرة ومزار بهيج.
ويوجد في المدينة لنصر الدين خوجة تمثالان: الأول تمثال له بعمامته الكبيرة وعصاه الطويلة وهو راكب على حمار قوي أشبه بالحصان، أما التمثال الآخر فهو أصغر ويشير إلى روح الدعابة التي يتمتع بها، حيث يركب على حماره بطريقة معكوسة، وتوجد في المدينة محلات تبيع مجسمات صغيرة لهذا التمثال المقلوب!
مما يجدر ذكره هو أن هذه المدينة كانت أيام نصر الدين جزءاً من الدولة العثمانية، لكن القائد المغولي الشهير تيمورلنك، نجح في انتزاع الأناضول كلها من العثمانيين بعد أن انتصر في معركة أنقرة على جيش السلطان بايزيد الأول، بل واقتاده أسيراً إلى هذه المدينة التي مات فيها تحت سياق القهر ومشاعر الهزيمة وأحاسيس الذل والمهانة، ثم أخذ جثمانه فيما بعد ودفن في مدينة بورصة حيث دُفن آباؤه.
وتروي كتب التاريخ أن تيمورلنك نظر يوماً إلى أسيره السلطان فضحك، فظن بايزيد أنه يسخر منه لكونه أسيراً واستشاط غضباً طالبا مبارزته، فقال له: إنما أضحك لأن الله أعطى الملك رجلاً أعور مثلك ورجلاً أعرج مثلي!
وكانت إحدى عيني بايزيد قد أصيبت في إحدى المعارك، بينما كان تيمور أعرج وكان يدعى بذلك دون حرج، فإن «لِنك» تعني بالمغولية: الأعرج!
ومن روح الطرافة والشجاعة التي عرف بها نصر الدين خوجة ما يروى أن تيمورلنك وكان قد اعتنق الإسلام استدعى يوماً علماء قونية وفيهم نصر الدين، وأخبرهم بأنه يريد أن يختاروا له لقباً على غرار الخلفاء السابقين، كالمعتصم بالله، والمنتصر بالله، والمتوكل على الله... إلخ فقال له الفقيه نصر الدين فوراً: أعوذ بالله!
ولأن نصر الدين خوجة هو الشخصية الشعبية الأولى في هذه المدينة، فمن أجله يأتي الكثير من السياح من داخل وخارج تركيا، فإن هناك من يمثّل دوره، حيث يذرع المدينة على حماره، وهو يرتدي عمامته ويحمل عصاه كأنه نصر الدين خوجة، ولا أدري إن كان ببديهته البديعة وروحه المتفكهة ولسانه المتندرة أم لا؟!
وهكذا، فإن قونيا جمعت في ثناياها بين نوادر نصر الدين، وبكائيات جلال الدين، وسياسات نجم الدين، وأفكار داود أوغلو بدون تناقض، وماتزال تتجاور بين جنباتها حقول القمح الواسعة والمصانع الوفيرة بانسجام كامل، مثلما أنها تحتوي على بصمات وآثار البيزنطيين والسلاجقة والكرمانيين والعثمانيين بدون أي تنافر.
أفلا تستحق بعد ذلك كله أن يشد الرجال إليها الرحال ولو طال السفر بل والسهر؟!.
أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز ..
رئيس منتدى الفكر الإسلامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.