منذ سنوات عدة وأنا أعد نفسي بالكتابة عن الشاعر محمد عبد الباري الفتيح?.. ولكن مواعيدي ظلت – كالعادة - خارج المتحقق?.. لا تفسير لدي لهذا التسويف?.. لأن الفتيح الشاعر مثل الفتيح الإنسان كلاهما من ذلك النوع الذي يقودك إلى الكتابة عنه برغبة عاصفة ومحبة لا حدود لها .. فأنت بمنتهى البساطة تجد نفسك أمام حالة استثنائية ، وفي حضور رشيق تأسرك فيه بساطة الإنسان وبهاءه بمقدار ما يتوغل في وجدانك الشغف بالشاعر حساً طافراً.. وذوقاً مؤزراً بوعي وثقافة مع خبرة لا تتعالى.. أو تتحذلق لكنها تشهق للجمال الإبداعي كلما لاح في مشهد فني أو صورة شعرية أو فكرة طازجة أو منظر طبيعي تتخايل آياته.. يعود تعلقي بالفتيح إلى سنوات بعيدة – قبل أن أعرفه شخصياً – فقد شغفت على نحو استثنائي بشجن الفنان عبدالباسط عبسي ولوعته وهو يشعل الحرائق في مواجيدنا بتلك الأغنية المتفردة : واقمري غرد ما عليك من هم خلك معك وانته بقربه تنعم مش مثلي اتجرع كؤوس علقم سقيم بحالي .. بس ربي يعلم ولم تكن حلاوة اللحن وعذوبة الصوت وتماهيهما مع الألم المر الممزوج على نحو ساحر ببساطة الكلمات وقدرتها على الإنغراز عميقاً في الوجدان هو ما يربطني بتلك الأغنية.. بل فوق ذلك معرفتي بما تفعله في قلوب المنتظرات للغائبين في مجتمع أكلت الغربة معظم رجاله ، وراحت سنين العمر تنهدر وتجف مشاقرها قطفة تلو أخرى.. وقد شاهدت بعيني وعايشت بنفسي لحظات الإجهاش التي تتجاوز خطوط المكابرة وحدود التحفظ وصوت العبسي الحنون يحطم جدران الصبر المغلوب : اشكي بعاد خلي أيحين شاشوفه لمن ترك وردة خيار قطوفه صباح مساء احلم ولو بطيفه يا قمري والخل ما ذكر أليفه فتتحول حالات الإجهاش تلك إلى ارتجافات تشبه رقص طيور مذبوحة .. في المقطعين التاليين .. نيسان هيجني واشعل كياني والشوق يضني والفراغ براني ماله الحبيب : يا هل ترى نساني يا ليته يدري بالذي أعاني ***** والريح حلفته ونجم سحره يقول له يكفيك اغتراب وهجرة شبابنا شسرح يا الف حسرة لو ذبلت زهوره .. زهرة زهرة وأذكر كم كان المقطع الأخير من الأغنية يغريني بالمراقبة والتأمل رغم اندماجي في المشهد المتكرر واحتراق وعيي بما يلتبس في تلقيه من عذابات وأحلام واعدة ، ذلك أني كنت أحاول أن أتلمس خلف غيوم الدمع المتهاطل سيناريوهات ومشاهد لحظات اللقاء المنشود وهي تتشكل على نوافذ الخيال متحفزة بما يرسمه الفتيح .. يوم السلى يا قمري يوم وصوله شواجهه بالفل شاكيد عذوله حتى الطريق بالورد شافرشه له واطعمه بأيدي جهيش سبوله وإبداعات الفتيح الشعرية ليست إلا سيرة حياته بتجلياتها المختلفة فهناك الفتيح الهائم المتلاشي تماماً في الطبيعة وجيراننا فيها الذي يتجاور عنده حضورها البكر بحضورها الوظيفي بماهي حقول وسنابل تمنح الحياة و مشاقر يتفجر فوحها بهجة ورغبات في جوانح العاشقين وبكونها تجمع مع هذه المفردات الأساسية مفردات أخرى فهي أيضاً مواسم وسحائب خير، ودنيا تتعاشق فيها مكونات الوجود و تتخلّق منها فنون الإبداع حيث تمتزج المناهل بروائح التراب وغناء الحراث أو صياح الشرّاح بشقشقات الجوالب .. كل ذلك يعيد الفتيح إنتاجه مضمخاً بحنين يشق القلوب لكنه يفتحه على أفق واسع .. أفق إنساني لا تحده حدود، بعد أن ينسجه بروح الفنان ونفس العاشق المثقف ليقدم من خلاله أسلوباً متفرداً في الكتابة الشعرية اليمنية ويقودنا إلى مفاتن تكتنز بها اللهجة التعزية بشكل يستحيل أن يفعله غيره وهو بذلك من أكثر مبدعي اليمن قدرة على التعبير عن روح المكان وناسه.. عن وجودهما ومحمولات ذلك الوجود الروحية والثقافية وبصماته وخصوصياته كما في هذا المقتطف: عيشك حلى واجولبه مع جولبك ومع الصبا يا ساكبة ألحان الغرام على السوائل والربى *** بنت الغصون زيدي سجيع صبي سلا فوق الجميع ذري حنانك عالقلوب وبشريها بالربيع وكما في هذا المقتطف أيضا: شمس الشروق بين الجبال لواهب. شوقي أنا تشرب ندى الاسوام والشواجب.. شربة هنا وأسراب صبايا اقبلين مواكب.. خلالنا يبرعين عمقان والجواجب بأحلى غناء وهناك الفتيح المناضل الوطني القومي العروبي الملتزم بقضايا الحرية والعدالة والمساواة والتقدم الاجتماعي الرافض للظلم والاستبداد المنحاز دائما للشعب.. لنقاء البسطاء والشقاة القادر على التضحية في سبيل المبدأ والمؤمن بالنصر نتيجة حتمية لكفاح الشعوب.. ونضالات البسطاء.. كما يعبر هذا النص الذي نشره الكاتب الكبير منصور السروري في كتابته البديعة الجامعة بين التوثيق لحياة الفتيح ومقاربة سيرته في ضوء إبداعه ومواقفه الوطنية وحضوره الفني والإنساني الفريد تحت عنوان ( زخات استقرائية من كفاح سيرة وتجربة الفتيح الإبداعية) : سأعود يا أنشودتي لا تعجلي سأعود يا حلم الفؤاد ويا روى مستقبلي سأعود فالفجر المؤمل يا مناي لاح لي أنا من دمي قد صغت فجري كي أعود لمنزلي رصّي عقود الفل يا هذي وتيهي هلّلي واستقبلي الزحف المظفر زغردي للجحفل ها نحن نبعث من جديد فابشري وتفاءلي ها نحن نطوي الليل ، ليل الظلم ، ليل الباطل ليل الأولى امتصوا دمي باسم الكتاب المنزل وبنوا القصور لهم وللدخلاء لكل مضلل هم شيدوها من رغيفي من كفاحي الأنبل من بؤس من قد هاجروا من كبرياء السائل ليخططوا فيها رغائب من عليهم معتلي ليمزقوا فيها العروبة كي أعيش بمعزل لن تخبو نار الحقد في قلبي وها هي تصطلي إلا إذا ديست جباه العابثين بأرجلي ولن يغيب عن أذهاننا أن شعور الفتيح بالكرامة.. كرامة الشعوب .. وكرامة الإنسان .. كان يشكل حضوراً دائماً، بل مركزياً في وعيه.. وكان ذلك الشعور يمنحه صلابة استثنائية حين تصبح المواجهة حتمية ويأبى المتجبرون إلا أن نواجه ..كما يوضح ذلك نص آخر من نصوصه التي كشف عنها السروري في كتابته سالفة الذكر : با زحف لأني على عيش الهوان ما أقدر بازحف لأني بشر با قابل الشر بالشر ولن يغيب عن أذهاننا أيضاً أن وراء اشتغالات الفتيح الإبداعية والتزامه بقضايا الوطن والإنسان وعوالمه المتشكلة من كل ذلك مرجعية تتمركز في تكوينه الفريد الذي يجتمع فيه زهد الصوفي.. وعصامية العبقري.. المركبين في نفس أبية شريفة تقدس العمل.. وتحترم العلم.. وتعلي مكانة الإنسان بمسؤولية يندر وجود مثلها فقد كانت حياته بين مولده في “معامرة قدس” بمحافظة تعز عام 1932 ووفاته بعد صراع مع المرض بمدينة تعز يوم الخميس 13 يونيو 2013م رحلة عناد وإصرار ضد الظروف الصعبة بكل ما تخلقه من معيقات ومتاعب وإحباطات.. تحدى الفتيح ظروف حياته ومعيقاتها بروح عالية وأحلام لا تنضب.. وقدرة مجيدة على الكفاح والمثابرة والاستمرار.. واستطاع أن يضع نفسه في المقدمة علماً وإبداعاً ووجوداً يفرض على الجميع احترامه وتقديره والإعجاب به. بدأ رحلة التأهيل من معلامة القرية، قبل أن يدرس الابتدائية في عدن حيث كان والده يعمل. ثم قادته رحلة الشقاء في سنه الصغيرة تلك إلى السعودية فعمل حرفياً في أعمال “ الجص “ كما عمل “ خياطاً “؛ دون أن يشغله ذلك عن تحصيل العلم والمثاقفة والتثقف.. بحرص وعصامية كان يستغل أوقات الفراغ –على محدوديتها - في القراءة مركزاً على مصادر المعرفة الكبرى وعلى رأسها أمهات الكتب المشهورة في التراث العربي ولعله كان يفعل ذلك غريزياً فلا أظنه كان يعي بوضوح أنه بتركيزه على تلك النوعية من القراءات كان يضع المداميك الراسخة لتكوينه الثقافي.. لكنه قطف أول ثمار إصراره على التثقيف الذاتي فقد تفتح وعيه كنتيجة حتمية لقراءاته باتجاه ضرورة أن يغادر واقعه الذي تفرضه عليه ظروف العيش. أقول هذا دون إغفال الموجهات الأخرى السياسية منها والأيديولوجية التي لا أشك في تحريكها لدواخله وهيمنتها على وعيه فلا أحد يجهل قيادة النخب التعزية لكل أنواع الحراكات الوطنية آنذاك، ما يتعلق منها بالتعليم وتنمية المجتمع أو ما يتعلق منها بالتنظيمات الحزبية والنقابية.. هكذا قاد الفتيح طموحه الواعي وعصاميته الحازمة فدرس الإعدادية في عمان، والثانوية في سوريا، وهي بيئات كانت توفر له حواضن أكثر تشجيعاً على تنمية الذات معرفة ووعياً حتى قفز قفزته المميزة إلى مدار أبعد فدرس الآداب والتاريخ واللغات السامية في “المجر” وحصل على شهادة البكالوريوس والماجستير وهناك تبلورت سمات شخصيته وتحددت توجهاته ليعود إلى الوطن مبدعا تثبت السنين سنة إثر أخرى كونه مدرسة مميزة في الساحة الإبداعية اليمنية.. ومساهماً فعالاً في الأنشطة السياسية والثقافية والنقابية والاقتصادية فكان واحداً من مؤسسي البنك المركزي في الحديدة وقد بقي يعمل فيه مدة خمس سنوات (1970-1975). نشط أثناءها ناشطاً فعالاً في الاعتمالات السياسية التي تشهدها المدينة وذلك انطلاقاً من موقعه في حزب الطليعة الشعبية.. كما نشط في المشهد الثقافي صادحاً في الحفلات الشعرية و مشاركاً في تأسيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ومساهماً في تحرير مجلة الكلمة.