إنهم يرددونها كثيراً دون فحص أو اختبار «أصح كتاب بعد كتاب الله» ولا يغيب عن فطنة القارئ أنهم يقصدون بها صحيح البخاري دون غيره، وليس لهم دليل على ذلك إلا أمانيهم في أن تصح هذه المقولة التي تّسرع فيها الأوائل وصنّمها المتأخرون دون بحث أو تحقيق، غير أن الأماني وحدها لا تجعل الخطأ صواباً، ولا ترفع الشك إلى مرتبة اليقين، وما توارثته الأجيال من أفكار، أو تناقلته من أخبار، أو دونته من معارف عبر الزمن فيها الغث والسمين، والمقبول والمردود، والحق والباطل، فالعبرة ليست بمرور الزمان وإنما بقيام الحجة والبرهان. - لقد استغربت كثيراً من دعوى البعض اتفاق العلماء على أن البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله ، خاصة أنني راجعت أراء الأوائل من الفقهاء حول هذه المقولة فوجدتهم اختلفوا على أراء متعددة ولم يتفقوا على رأي واحد، فمنهم المالكية الذين جزموا دون تردد أن موطأ مالك أحق بهذا اللقب الرفيع دون غيره مثل الإمام الشافعي والإمام المطلبي، وزاد إصرارهم على ذلك حتى بعد ظهور وانتشار صحيح البخاري وعلى رأس هؤلاء الإمام ابن عبد البر وابن العربي الذي قال: ( اعلموا أنار الله أفئدتكم أن كتاب الجعفي - البخاري- هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب ) - عارضة الأحوذي- ، وعلى هذا الرأي سار طائفة من العلماء بعدهم . - غير أن ابن حزم أبى إلا أن يكون صحيح مسلم هو المقدم على الجميع وسبقه إلى ذلك جهابذة المغاربة، إلا أن القول بتقديم صحيح البخاري ساد وانتشر في كتب الحديث على القولين السابقين، وانتشار قول دون غيره ليس بالضرورة دليلاً على صحته، وإذا كان حال الأوائل أنهم لم يتفقوا على منح هذا الوسام الخالد لصحيح البخاري فلماذا يُصر المتأخرون على إلزامنا برأي واحد ودفعنا إليه بسوط الإرهاب الفكري، وإيهام الناس إن ردنا لهذه المقولة رد للبخاري ، ثم يشتط سفهاءوهم فيزعمون أن ردها غرضه الخفي رد الوحي والتنصل من السنة. بين القدرة الإلهية والجُهد البشري. كم يقشعر جلدي حين يكررون عبارة (البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله) ، إنها أشبه بالقول أن ) البخاري الأقدر بعد الله على إثبات وحفظ الصحيح )، كما أنهم يضربون مكانة القرآن في مقتل حين يقاربون - دون وعي- بين كتاب تولت حفظه العناية الإلهية القائمة على الكون بكل ما فيه ، وبين كتاب تولى القيام عليه الضعف البشري بكل ما فيه من خور وعجز ، فهم لا يُعلون من قدر الإمام البخاري إلا ليحطوا من قدر الله -جل في علاه- شعروا أو لم يشعروا، ولا يرفعون من منزلة صحيح البخاري إلا بقدر ما يخفضون من منزلة القرآن، ثم بعد كل هذه الشنائع يشنون هجوماً شرساً على من ترك فريقهم، والتحق بمعارضيهم، فلم يوافقهم في الرأي، ولم يسر على خطاهم، ( فأي الفريقين أحق بالأمن إن كُنْتُمْ صادقين ) . - إن المقاربة بين كتاب الله وبين كتاب البخاري مع الاختلاف الشاسع في معايير الإثبات أشبه بقولك لرجل من الزمن الغابر لم يعرف أسلحة الدمار المعاصرة ( المنجنيق في زمانكم أقرب إلى القنابل النووية في زماننا ) ، وهنا مهما بلغ خيال صاحبنا لا يمكن أن يتصور أن القنابل النووية يمكن أن تدمر حصناً كاملاً فضلاً أن تدمر مدينة بأكملها بكل ما فيها من إنسان وبنيان يعيش فيها مئات الآلاف ، لأن معايير القوة والدمار اختلفت اليوم عما كانت عليه في الزمن السالف ، فالقرآن الذي ساهمت جميع الأمة في نقله جيلاً عن جيل شفاهة وكتابة ، ولم يتجرأ الأفاقون على الزيادة فيه يستحيل أن يقاربه كتاب وصلت إلينا أحاديثه آحاداً، واختص بنقله رجال الحديث دون غيرهم ، ولم يدون إلا بعد عقود من نزول الوحي ، ولم يسلم من النقد والتصويب. صحيح البخاري أصح أم كتاب الله ؟! . لم يتوقف خطر هذه المقولة على ما ذكرناه ، بل تفاقمت بعد أن تجرأ قوم أن ينسخوا القرآن بحديث البخاري، ليس استناداً إلى القول بأن الأحاد ينسخ المتواتر فحسب، بل ادعاءً بأن حديث البخاري قد تلقته الأمة بالقبول وجاوز القنطرة، وما جاوزها فلا مجال للشك فيه أو الاعتراض عليه، وهكذا صار حديث البخاري في ثبوته لا يقل وزناً عن حديث الله في كتابه، وصار الجُهد البشري في استطاعته أن يساوي القدرة الإلهية في نهج المحدثين بل يعلو عليها، فيُنسخ ما وعد الله بحفظه بما اجتهد البشر في انتقاءه وتصحيحه، ولا يوجد العكس، وهنا يقع المحدثون في المحظور الذي حذر الله منه حين قال : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ? سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ). - بل إنهم يجعلون القرآن في مواطن كثيرة عصياً على الفهم حتى يأتي البخاري ليشرح الغامض، ويُفصل المجمل، ويبين للناس ما اختلفوا فيه ، وكأن الله لم يقل لنا (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17) ، ويجعلون حاجة القرآن لصحيح البخاري وغيره من الحديث أكثر من حاجة صحيح البخاري للقرآن، وإذا أنكرت حديثاً تعارض مع كتاب الله صعروا خدودهم ورفعوا أصواتهم منكرين عليك ( لقد ورد في صحيح البخاري ) ، فإذا احتججت عليهم بأن كتاب الله أولى بالتقديم من الحديث ردوا عليك في تعالُم ( الحديث ينسخ ويخصص )، (والسنة قاضية على الكتاب)، ثم يتركونك مذهولاً تتساءل (أيهما أصح كتاب الله أم صحيح البخاري).