لست مبالغا فيما أقول فقد قرأت بنفسي ما كتبه البعض من كلمات مقذعة عن المفكر العلم «جمال البنا»،، وهاكم بعض مما يمكن أن تتحمله السطور ويصبر عليه أرباب العقول (ضال مضل - هالك - ملحد - مجنون -ديوث) ، ولا تستغربوا إذا علمتم أن بعض هؤلاء منسوبون للعلم الشرعي ويطلق عليه مقلدوهم شيوخا ، والأعجب أنهم يرون في هذه الشتائم بيانا للحق وانتصارا للدين ، ومبرراتهم فيما يثيرونه من ضجيج ضد هذا العملاق أن له آراء يصفونها بالشاذة ، ولو وافقناهم في بعض دعواهم لما وافقناهم في جرأتهم عليه . إنها إحدى الأصنام في علم الحديث ، بل لا أبالغ في القول إذا وصفتها بأنها أكبر أصنامهم التي أضفوا عليها القداسة ، وبقداستها جعلوا الشك يقيناً ، والظن اعتقاداً ، والرأي ديناً ، والفرع أصلاً ، والضعيف صحيحاً ، والمقطوع موصولاً ، والآحاد متواتراً ، والبشري وحياً ، والمعارض للقرآن ناسخاً ، والمباح ممنوعاً ، والمسكوت عنه واجباً ، والمختلف فيه إجماعاً ، واغتالوا بها حق العقل في الإجتهاد ، وحق المجتهد في النقد ، وحق الناقد في الرد ، كل ذلك بروايات ضعيفة أو ظنية رفعها جمع كبير من المحدثين إلى منزلة القرآن بمقولة منكرة ابتدعها ابن الصلاح ودافع عنها من جاء بعده من أهل الحديث ، بل غالوا فيها ومدوا رقعة سلطانها ، فصار كل معقول مهما عظمت مكانته زيغاً مرفوضاً ، وكل منقول مهما كان متهافتاً صنماً معبوداً ، وما ذلك إلا لأن المنقول فاق المعقول بالوسام الزائف (تلقته الأمة بالقبول). - إن هذه المقولة أشبه بسيف الإجماع الذي أحكم صُنعه أهل الحديث على يد الإمام الشافعي ليقاتلوا به خصومهم من الفرق والمذاهب الأخرى وعلى رأسهم علماء الكلام ، ولينتصروا به لمدرسة الحديث على مدرسة الرأي ، فلقد كان سيف الإجماع غرضه تضييق دائرة الحرية في فهم النصوص ، وتضييق دائرة الاجتهاد العقلي في المسكوت عنه وفق مقاصد الشرع وتقلبات الواقع ، وكان لهم ما أرادوا ، غير أن باب الاجتهاد العقلي ظل مفتوحاً في مجال رد الروايات ، أو قل إن أهل الحديث لم يُحكموا إغلاقه ، وبقي لأهل الرأي سلاحاً يدافعون به خصومهم من أهل الحديث ، وذلك برد كل رواية تخالف مسلمات العقل ، أو قطعيات الشرع ، أو سنن الحياة ، فلجأ المحدثون لاختراع مقولة (تلقته الأمة بالقبول) ليجردوا أهل الرأي من كل أسلحتهم ، وليلحقوا بهم وبالعقل الإسلامي هزيمة منكرة لا ينهضوا بعدها أبدا. في مقدمة ابن الصلاح تبدأ المأساة لقد بدأت المأساة في مقدمة (ابن الصلاح) عند حديثه عن صحيحي (البخاري ومسلم) ، فلقد شهد لهما بالصحة في بداية حديثه عنهما ، غير أنه أدرك أن الشهادة بالصحة غير كافية كون أغلب رواياتهم إن لم يكن جميعها داخل في دائرة الآحاد ، والآحاد عند المحدثين لا يفيد غير الظن كونه لم يبلغ رواته في كل طبقة من طبقات الإسناد عدداً يستحيل اتفاقهم على الكذب ابتداءً من راويه الأخير وانتهاء بالصحابي الذي تلقاه عن رسول الله (ص) ، ولقد تفاوت شرط المحدثين في المقدار الواجب لبلوغ الحديث درجة اليقين والتواتر فاكتفى بعضهم بعشرة في كل طبقة واحتاط البعض الآخر فوصل بهم ليكونوا بعدد أهل بدر ، وعلى كل الأحوال فروايات الصحيحين لم تنل الحد الأدنى فضلاً عن غيره ، وهذا ما يجعلها في دائرة الظن التي تخوف منها ابن الصلاح في معركته مع أهل الرأي. - لقد أراد ابن الصلاح أن يُغلق الباب على من يرفضون بحق تقرير العقائد وأصول الأحكام بغير ما ثبت يقيناً ، والروايات الواردة في الصحيحين آحادية لا تفيد غير الظن وتفتقد اليقين المطلوب ، كما أراد أن يغلق الباب على من يردون ما صح إسناده من روايات البخاري ومسلم استناداً إلى اعتلال المتن ، فقد يأتي من أهل الرأي من يقدح في بعض أحاديث الصحيحين لعلل مقبولة كتعارضها مع ظاهر القرآن ، أو القطعيات العقلية ، أو الحقائق الكونية ، أو السنة العملية المتواترة وفيها ما كان يسميه مالك (عمل أهل المدينة) .. إلخ ، غير أن ابن الصلاح أدرك أن إمام مذهبه الشافعي لم يُحكِم غلق باب الاجتهاد العقلي فيما يتعلق بنقد الحديث كما أحكمه في صناعة سيف الإجماع الفقهي ، فلجأ ودون أي أساس من العلم أو حتى ابتكار في الطريقة إلى نقل سلاح الإجماع الشافعي من ميدان الفقه إلى ميدان الحديث بثوب مزور. - ونظراً لأن البحث عن روايات تتحقق فيها معايير الإجماع الأصولي الشافعي في ميدان الحديث ومنها الصحيحين أشبه بالبحث عن حبة خردل في فلاة ، فقد لجأ ابن الصلاح -الشافعي المذهب- إلى مقولة غامضة أوردها الشافعي في كتابه الرسالة أثناء دفاعه عن ضعف حديث (لا وصية لوارث) نصها (العامة تلقته بالقبول) ، غير أن ابن الصلاح في رأيي طورها بوضع لفظ (الأمة) بديل لفظ (العامة) ولعل ذلك تفادياً مما فعله الشافعي حين جعل لفظ (العامة) في مقابل لفظ (أهل الحديث) ، فقد قال في حديث (لا وصية لوارث) “يرفضه أهل العلم بالحديث ولكن العامة تلقته بالقبول” ، ربما لأن ابن الصلاح أراد أن يجعل علماء الحديث في جملة الأمة ، ولقد قصد ابن الصلاح بمقولته (تلقتهما الأمة بالقبول) أن يرفع روايات الصحيحين الآحاد من درجة الظن إلى درجة اليقين ، وهو ما أنكره عليه الإمام النووي ومثله العز ابن عبد السلام ، ولكن أهل الحديث صموا آذانهم ومالوا عن قداسة البرهان إلى تقديس الرواية. مقولة ابن الصلاح مجهولة الهوية كان المنتظر من ابن الصلاح بعد أن قرر هذه المقولة أن يكشف النقاب عن هويتها كما حاول الشافعي في قضية الإجماع ، وذلك حتى يحتاط الناس لدينهم ويعبدوا الله على علم ، ولا ينسبوا إلى الله من الوحي ما لم ينزل به سلطانا ، غير أن ابن الصلاح لم يضع لهذا القبول أي معايير أو محددات ، ولم يقل لنا ما هو القبول المعتبر للرواية ، فلم يشترط مثلاً أن تتوافر في الرواية محل القبول من شروط الصحة ؟ ، أو أنه لا بد للرواية فيه من وجود قرائن مؤيدة من الحس أو الواقع أو شهادة روايات أخرى ، أو ألا تعارضها في أقل الأحوال ، أم أن القصد ترك الأمر خاضعاً لهوى المحدثين وتحكمهم دون ضابط أو شرط. - بل إن ابن الصلاح لم يحدد لنا مفهوم القبول ، وهل يعني به إقرار العلماء النظري بمضمون الرواية ؟ ، أم لا بد من عملهم بها؟ ، أم يكفي عدم استنكارهم لها ؟ ، وهل لا بد أن يكون القبول في سائر الاعصار والأمصار كما في إشارة لابن القيم في كتابه الروح ؟ ، أم يكفي ذلك في عصر واحد كما في الإجماع الأصولي ؟، ومثل غموض لفظ القبول كان غموض لفظ الأمة ، فهل الأمة تعني عامة المسلمين بمن فيهم العلماء ؟ ، أم أنهم العلماء فقط ؟ ، أم أغلبهم ولا يضر مخالفة البعض كما حصل في انتقاد الدارقطني وغيره لبعض أحاديث البخاري ومسلم ؟ ، وإذا أراد العلماء فقط ، فهل يقصد بهم أهل الحديث منهم فقط وهو شيء نرفضه ؟ أم أنه يدخل فيه غيرهم من جميع علماء الدين واللغة .. إلخ ؟. - غير أننا ننبه إلى أن المحدثين بعد ابن الصلاح استدراكاً عليه ودون موافقة منه جعلوا لفظ الأمة مقصوراً على المحدثين دون غيرهم ، وتجاهلوا أن قبول الحديث قائم على سلامة ركني الإسناد والمتن ، وإذا سلمنا أن نقد الإسناد مسرح يحتكره المحدثون ، فنقد المتن مسرح واسع يدخل فيه الفقهاء وعلماء الكلام والعقائد والمفسرون وأرباب اللغة وغيرهم ، فلماذا احتكره المحدثون القبول على غموضه لأنفسهم دون غيرهم ؟!. مقولة المحدثين تهتك قداسة القرآن لو كان يعلم ابن الصلاح أن مقولته (تلقتهما الأمة بالقبول) لن تتوقف عند إضفاء العصمة على صحيحي البخاري ومسلم ورفعهما إلى منزلة القرآن لما تجرأ على ابتداع هذه المقولة المنكرة ، لقد جاء طابور طويل من الفقهاء والمحدثين بعد ابن الصلاح بما لم يكن في حسبانه إن أحسنا الظن ، فجعلوا هذه القاعدة مستندهم في تصحيح العمل بالحديث الضعيف ، ثم زادُ بعضهم فأوجب الاحتجاج به ولو كان في الأحكام ، بل وغامر غيرهم فزاد العقائد ، وتجرأ بعضهم فصحح بهذه المقولة الحديث الضعيف ولو افتقد إسناداً يصله برسول الله (ص) ، وتطرف آخرون فجعلوه في منزلة الحديث المتواتر ، ولم يقف الأمر حتى جاءت الداهية العظمى فنسخوا بالضعيف محكم القرآن ، والخطير في الأمر أن يقف في هذا الطابور أئمة شهدت لهم الأمة بالسبق والفضل في العلم والعمل معاً ، وهانذا أسوق لكم من نصوص أقوالهم ما يستنكره أولوا الألباب. - فقد جعل ابن الهمام الحنفي عمل العلماء بالحديث الضعيف كافياً لتصحيحه فقال: “ومما يصحح الحديث أيضاً عمل العلماء على وفقه” ، وتجرأ الشبرخيتي المالكي فجعله حجة في الأحكام وغيرها فقال: “ومحل كونه لا يعمل بالضعيف في الأحكام مالم يكن تلقاه الناس بالقبول، فإن كان كذلك تعين وصار حجة يعمل به في الأحكام وغيرها” - شرح الأربعين النووية - ، ولم يتورع ابن حجر عن إيجاب العمل به فقال: “من جملة صفات القبول .. أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث، فإنَّه يقبل ويجب العمل به”.- النكت على ابن الصلاح - ، وتطرف الزركشي فجعله في منزلة المتواتر وأجاز نسخ القرآن به فقال: “إن الحديث الضعيف إذا تلقته الأمة بالقبول عمل به على الصحيح حتى أنه ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع” - النكت على ابن الصلاح - ،، منقول بتصرف. - ولم يتوقف الأمر عند مجرد التنظير بل تعداه إلى التطبيق العملي في جملة من القضايا نذكر منها ما قال البيهقي في باب الغدو إلى العيدين: (وهذا أيضاً مرسل، وشاهده عمل المسلمين بذلك) -السنن الكبرى - ، ومنها قول السيوطي بعد أن ساق حديث: من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر: “وقد صرح غير واحد بأن دليل صحة الحديث قول أهل العلم به وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله” -راجع تعقيباته على موضوعات ابن الجوزي - ، ومنها قول الجصاص عند استدلاله على كون طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان “وإن كان وروده من طريق الآحاد فصار في حيز التواتر لأن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر” -أحكام القرآن - ، ومنها قول الحافظ السخاوي في فتح المغيث:” وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح حتى أنه ينزل منزله المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به ولهذا قال الشافعي في حديث (لا وصيه لوارث) إنه لا يثبته أهل العلم بالحديث ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخا لآية الوصية له”،، منقول بتصرف. تقديس الأئمة فتنة للأمة وهكذا صارت المقولة الغامضة (تلقته الأمة بالقبول) وثناً مقدساً يرفع ما نقله راو سيء الحفظ ضعيف الضبط إلى منزلة ما تناقلته الأمة جيلاً عن جيل ، ويضفي القداسة على ضعيف الإسناد ليجعله وحياً إلهياً يزن القرآن وينسخ الآيات ، ويُنزل ما لا إسناد له منزلة ما به تُقرر العقائد ، وتُشرع الأحكام ، والعجيب أن يقرر ذلك أسماء لامعة في ميدان الفقه والحديث معاً أمثال - ابن حجر والسيوطي وابن القيم والسخاوي والجصاص وابن عبد البر والزركشي وابن الوزير والبيهقي - وصار هؤلاء القامات السامقة فتنة لمن يأتي بعدهم في زمن قدس فيه الناس أسلافهم وعطلوا عقولهم ، واحتجوا بأقوال السابقين كاحتجاجهم بكتاب ربهم ، وتناقلوا أقوالهم بالتسليم دون عرضها على ميزان الحق أو إخضاعها لسلطان الدليل، (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا رحمة إنك أنت الوهاب).