يحدث في أي حرب ما لا يمكن تصديقه، أو كل ما يمكن لنوايا المتحاربين أن يفعلوه، ولمخيلاتهم أن ترتكبه، وتضاف إلى ذلك ما تفعله الصدفة وسيرورة الأحداث، وعندما تكون الحرب أهلية، وتتداخل فيها أطراف الصراع وجهاته، فإن الضحايا يتوزعون في كل اتجاه، ولا تتوقف القسوة عند حد، حتى أن الجلاد أو القاتل يتحول إلى ضحية بنفس القدر الذي مارس فيه قسوته ووحشيته، أو أقل قليلاً. منحت جمعية نقاد تورونتو الكندية فيلم «حرائق» لقب أفضل فيلم كندي لعام 2010، ووصل إلى القائمة الأولية لأفضل فيلم أجنبي في الأوسكار في نفس العام، اللائحة نصف النهائية لجوائز الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي. و«حرائق» فيلم كندي تدور حواراته باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية بلهجاتها اللبنانية والأردنية والعراقية والمغرية، يحكي قصة من قصص الحرب الأهلية اللبنانية، ويقترب كثيراً من سيرة سهى بشارة التي قامت في العام 1988 بمحاولة اغتيال قائد جيش لحد في جنوبلبنان. يبدو فيلم “حرائق” للمثقفين وكأنه يستوحي التراجيديا الإغريقية، ويعيد إنتاجها في حكاية لبنانية عبر مسألة رياضية يتم إسقاطها على الواقع اللبناني، لكن الحكاية وبرغم أنها مدهشة إلى حد بعيد، ويمكن لها أن تحدث فعلاً، إلا أن المنطق يقف ممانعاً لحدوثها، فالأم نوال التي تقوم البلجيكية لبنى الزبال بأداء دورها تتعرض للاغتصاب داخل المعتقل الذي مكثت فيه 15 عاماً، ولم يكن مغتصبها سوى ابنها الذي فقدته حين ولادته بسبب أنه جاء نتيجة علاقة غير شرعية من أب ينتمي لطائفة أخرى، فتقوم جدته بوشمه في مؤخرة قدمه لتتعرف عليه أمه مستقبلاً، وتقوم بنقله إلى ملجأ لأيتام الطائفة التي ينتمي لها والده. ولا يمكن أن يكون هذا حقيقياً، لأن الزمن الذي يمكن أن يكبر فيه الطفل ليصير مقاتلاً وجلاداً في المعتقلات أكبر من عمر الحرب الأهلية اللبنانية، كما أن الصدفة التي لعبت دورها في تعرف الأم على أبنها الذي صار والد توأمها اللذين حملتهما معها إلى الغربة بعيداً عن بلدها التي نهشت عمرها وحبها تبدو غريبة جداً، وإلى حد بعيد. تبدأ القصة بمقتل عشيق نوال على أيدي إخوتها لانتمائه إلى طائفة أخرى، وهي الطائفة المسلمة حسب الفيلم، وأراد المخرج الكندي دني فيلنوف بهذه البداية، الإشارة إلى العادات والظواهر العنيفة والإقصائية في المجتمعات الشرقية وهي الظواهر التي تؤدي إلى اصطدام الجماعات والطوائف ببعضها، مما ينتج عنه اشتعال الحرائق أخيراً، وهي الحرائق التي لا تستثني أحداً من أي طرف أو جهة. يوجه الفيلم رسالة واضحة المعاني إلى كل الأطراف والجهات التي تنتج كل هذا العنف، ولفيلم مقتبس من مسرحية بنفس العنوان للكاتب المسرحي اللبناني وجدي معوض، ولهذا السبب تظهر على الفيلم اختلالات واضطرابات تفقده حيويته في بعض المناطق، وتفقد قصته منطقيتها في مناطق أخرى، حيث يبدو كما لو أن الفكرة لم تكن خاصة بالمخرج من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن يرغب في إعطاء القصة حيويتها الخاصة كقصة سينمائية متفردة ولا علاقة لها بأصل ينبغي ألا تسيء له، وهو ما يحدث عادة لكثير من الأفلام المقتبسة من روايات ومسرحيات. ولد المخرج دني فيلنوف في كندا، ودرس السينما في جامعة كيبيك في مونتريال، وأخرج عددا من الأفلام القصيرة المعروفة قبل فيلمه الطويل الأول “32 أغسطس على الأرض” عام 1998، وفاز كل من فيلميه “مايلستروم” 2001، و”بوليتكنيك” 2009 بجوائز جيني المخصصة للأفلام الكندية عن فئة أفضل مخرج. يعتمد فيلنوف في “حرائق” على جماليات الصورة وتوثيق المشاهد والحوادث والوقائع وهويات الأشخاص وأماكن وجودهم وحياتهم ودراساتهم وعبورهم، كما يلجأ إلى إنتاج القصة من خلال الحوار والجدل والنقاش، ويقوم بإيجاد تقارب إنساني داخل القصة من خلال هذا الحوار الذي يؤدي إلى إنتاج مفاهيم ورؤى جديدة تؤدي إلى الإفصاح عن مكنونات النفس البشرية، ورغباتها وطموحاتها في تجاوز كل الآثام والخطايا. وترمز القصة إلى ما تفعله الحروب الأهلية من آثار ودمار نفسي واجتماعي، فالابن الذي تاه عن أمه بسبب الطائفية والعنف، ظهر في لحظة أخرى لينتقم من أمه التي كانت تبحث عنه، ثم صار والد توأمها، ولم يكن أمامها إلا أن تحبه برغم فعلته، إنها ميلودراما عميقة، حيوية مرهقة في الآن نفسه، تصل بالمرء إلى لحظة الانهيار وعدم القدرة على ممارسة التخيل أكثر، فهو يضع المتابع أمام أسئلة صارمة وقوية، ولا مفر من مواجهة الألم، أو الاندماج فيه حتى وإن كان مستفزاً وقاسياً، فإن يكون المرء أباً وأخاً في الآن نفسه، فليس في ذلك سوى إشارة واحدة، الحروب الأهلية تجعل من كل البشر هم الجلادون كما هم الضحايا. يعيد المخرج تصوير الماضي بعين الحاضر، كما ويعيد مشاهد الماضي لإنتاجها في الحاضر وقد تغيرت الظروف، صحيح أن آثار تلك الحرب لم تنته بعد، لكن الأمل والحياة يستمران برغم ذلك، ولكي يحقق ديلنوف رؤيته، يقوم بتصوير الابنة في حافلة تسير على نفس الطريق الذي كانت الأم تستقل فيه حافلة حين واجهت أول مشاهد الحرب في حياتها، لكن الابنة كانت تتجه للبحث عن جذور والدتها، وتستمع للموسيقى، أما الأم فكانت تسير باتجاه مصير غامض، وفي أعماقها ضجيج حرب تقترب، نجح المخرج هنا في التنقل بين الماضي والحاضر والمقارنة بينهما في سهولة ورشاقة وأناقة. ويريد دينلوف من خلال حكاية الأم التي تبحث عن ولدها الضائع فيصير أباً لتوأمها الذين يصيران ولديه وأخويه؛ يريد أن يشير إلى مفارقات شتى، منها مثلاً أن الكراهية التي تقابل الحب لا تنتج إلا كائناً بلا هوية حقيقية، وأن الحرب لا تؤدي في النهاية إلى اختلاط الحقائق، وتحول الجميع إلى ضحايا، حتى وإن كانوا جلادين وقساة وأقوياء. يظهر أثر المأساة كلها على وجه أبو طارق، الجلاد الذي التقط من المخيمات يتيماً، وتمت تربيته على العنف والقتل، في نهاية الفيلم يظهر رجلاً مهزوماً ويعيش بعيداً ومنفياً، وحين يكتشف الحكاية التي كان هو محورها، تكون ملامحه قريبة جداً من خرائط الحرب.