الطير ملمح هام في الأغنية اليمنية، له مع الشعراء قاسم مشترك من الوجد واللوعة والحنين حين يكون بعيداً عن إلفه وعُشّه.. فالشاعر حين يكون مُحاطاً بأسوار الغربة يتجرّع ألواناً من عذابها النفسي المتمثل في الشوق واللهفة والحنين إلى وطنه – إن كان مهاجراً – وإلى أهله وأحبابه كان يتجه بناظريه يمنة ويسرة فيرى في الطير الرمز الذي يسقط عليه همومه وأحزانه ، فيجد السلوى حين يبث الطير مواجده وأحزانه وآهاته.. كانوا – شعراء الأغنية- يُوجدون حالة من الهم المشترك مع الطير.. فالطير كسير الجناح والذي فارق إلفه وعشه يشبه- إلى حد كبير – الإنسان الذي نزح بعيداً، فباعدت المسافة بينه وبين أحبّته فلم يجد بدّاً من إفراغ مكنونات نفسه التي تفيض وجداً وشجناً ولوعة ، فكانوا يجدون في الطير المشارك لهم في هذا الهم الوجداني المؤرّق. خاصة وأن الطير- والحمام الزاجل على وجه الخصوص – كان واسطة بين الناس في نقل رسائلهم ومكاتيبهم منذ زمن بعيد.. سنرى إذن كيف خاطب الشعراء “الطير -الحمام- العيل- القمارى” وخلقوا معه جواً من الألفة والانسجام ..فالمحضار يتمنى لو أنه طير طليق الجناح ليحلّق في أي فضاء شاء، يجوب السماء الواسعة بحرية تامة ويعود إلى عُشّه بعد رحلة طويلة في آفاق الفضاء فكم تحلو الحياة إذا لم يوجد ما يعكّر صفوها فيقول: ياطير ياضاوي إلى عشك قللي متى باضوي أنا مليت شفني هذه العيشة كما الريشة تسرح وتضوي وأنت في أرضك ياليتنا مثلك كنت بارضى ولو جمال عل الخيشة والشاعر الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان في قصيدته الغنائية “هل عادك حبيب” يقول: إذا كنت لا تصدّق ولا تعرف ما أعانيه من لظى الحب والحرمان اسأل الحمام الذي كان هديلها الشجي يُساقط أدمعي غزيرة كلما تذكّرتك ويستحيل أن أنساك لأنك من أحبه ولا أرتضي بديلاً عنه فيقول:- إسأل حمام البان كم قد عاش يُبكيني الهديل مالي مع الأحزان غير الدمع والليل الطويل لا يقدر النسيان يُنسيني ولا أرضى بديل والطير أيضاً كان سبباً في إخراج الشاعر الفنان محمد سعد عبدالله من حيرته حين حمل له رسالته الباكية التي خطّها بدموع عينيه إلى خلّه البعيد.. فيقول بن سعد: يا طير ياذا المُعلّي ريتك تسوّي جمالة تجزع سنى أرض خلّي وتجيب له منه رسالة كتبت فيها بدمع العين قصة غرامي كتبت له كيف من هجره هجرني منامي يا طير يا طير يا طير ريتك تسوّي جمالة وهذا مقطع من إحدى الأغاني الصنعانية الشهيرة يقول: جل من نفّس الصباح وبسط ظلّه المديد ألهم القُمري النياح يُشجي النازح البعيد سفّ كأس الطلا وصاح وتغنّى على الجريد أح لو كان لي جناح كنت مثله وعاد أزيد وهذا مقطع من أغنية صنعانية رائعة أيضاً تشنّف آذاننا كثيراً خاصة إذا كانت بصوت الشيخ عوض عبدالله المسلمي: غنّى على نايف البواسق مطوّقٌ في دجى الظلام وذكّر العاشق المفارق عن جيرة الرند والخزام وبات نوم العيون طالق النوم على من عشق حرام واشتقت إلى مسكي المفارق حالي اللّمى درّي النظام وهذا مقطع من أغنية صنعانية يفضّل كاتب هذه السطور سماعها بصوت محمد عبده لأنه افضل من أجادها إجادة تامة في كل نواحيها فيقول: قال المعنّى سمعت الطير يترنّم فهيّح أشجان كان القلب خافيها عن حُب سيد الغواني دُرّي المبسم ومن له أعيان تسبينا سواجيها سيلحظ القارئ أننا في بعض الأحيان حين نلفت النظر إلى “شاهد” ما في مقطع شعري لا نكتفي بإيراد البيت الشعري الواحد الذي يوجد فيه الشاهد لأن معناه لا يتضح إلا من خلال إيراد مجموعة أبيات تسبقه أو تليه فذلك يجعل المعنى أكثر وضوحاً ، والصورة أمام القارئ تبدو مكتملة وغير مبتورة.. قُمري يسجع على الأغصان فيشجي القمندان ويهيّج أشجانه فيقول: يا قُمري البانه ليه البكاء والنوح النوح يشجيني ظمآن باشربه للهائم المجروح وشهد في صيني ما ورد من فرقك ليه يا حياة الروح بالنار تكويني؟ وللقمندان أيضاً هذ ا المقطع الذي يقول: فوق غصن البان غنّى في السحر قُمري البستان مدري ما ذكر ليه يا قمري الحسنيي ما الخير ليه هذا النوح مالك والسهر؟ والشاعر الدكتور محمد عبده غانم في قصيدته “الهوى والليل” التي لحّنها وغناها سالم بامدهف يقول: لماذا لا نستمتع بالليل البديع المُقمر ونعزف أجمل ألحاننا، كعندليب استغل هدوء الليل وبهاءه وراح يسبح في محيط من الجمال واللذة. ونغني باللحون الخالدة مثلما يصدح فوق الشجر عندليبٌ في الليالي الراقدة في بحار من ضياء القمر أسكرته قطرات باردة صبّها النجم بكأس الزهر فقضى البلبل منها وطراً كان لولاه رهين المحبسِ مفعم الصدر أسىً أو ضجراً فغدا من لحنه في عُرسِ - إلى أن يقول: إن تغنّى الطير بالصوت جرى صوت من أهواه حلو النفسِ وإذا النجم البعيد ازدهرا خلته من نوره المنعكسِ - وفي قصيدة غنائية أخرى يقول غانم: بايطير ياناس يشتي با يطير والهوى عُشّه خيوطه من حرير أيش با يبقى إذا قالوا سرى أيش يفيد العش بارد زمهرير بايطير والقلب بعده بايطير بايطير يشتي وعاده إلا وصل بايطير والقُرب يادوبه حصل بايطير من بعد كل اللي جرى في الليالي السود من همٍّ عسير بايطير والقلب بعده بايطير وفي قصيدة غنائية ثالثة مقطع جميل يتألق في أدائه غنائياً أحمد قاسم وهيام يونس: قُمري تغنّى على الأغصان يشكو من البين والهجران ما يعرف النوم في الأجفان إلى أن يقول: ياقُمري البان ما شانك أتعبت قلبي بأشجانك تبكي على هجر خلانك ياليتَ لي بعض ألحانك ولا ننسى ونحن نحلّق في سماء الأغنيات والأغاريد أن نفرد مساحة وردية وواحة خضراء لبلبلنا الصدّاح “أيوب طارش” يغرّد فيها بصوته الشجي العذب.. فكم هي المرات التي شارك فيها الطير تغريده وسجوعه فغنى “نوح الطيور” وغنى “طير مالك” ومازال يبادل الطير شكواه ويقاسمه لهيب الاكتواء بنار الهوى.. وهكذا يصدح في إحدى أغانيه: طير أيش بك إشتكي قلّي أنا مثلك غريب كلنا ذقنا هوانا واكتوينا باللهيب حد متهنّي وحد ظامي مفارق للحبيب لا تقل لي أو أقلك كل شيء قسمة ونصيب وهناك من طلب من الطير أن يعيره جناحاً لعله يستطيع اللحاق بمحبوبه كما في رائعة الفنان عبدالرحمن باجنيد الذي يقول طالعها: اعطني ياطير من ريشك جناح بلحق المحبوب أين ولّي وراح وفي الختام يمكن القول إن الأغنية اليمنية كنز نفيس وما أوردناه ما هو إلا غيض من فيض نتمنى أن يصادف هوى في نفس القارئ. [email protected]