عندما تتجلّى الوطنية في أبرز معانيها في شخص امرأة، ويسكن الإخلاص في نواياها الخيّرة في محو الأمّية ونشر التعليم في أوساط مجتمعها؛ ندرك حينها أن هذه المرأة تنير ظلام منطقتها بنور العلم وبشعلة المعرفة، فيكون لها في كل حرف تقرأه فتاة أجر، لا يعلم مقداره إلا الله.. ونجد أن أكاليل الوفاء والعرفان، وإن نُسجت من حرير الثناء وخيطت بخيوط الشكر، لا تكفي لمثل هذه المرأة، فنضطر أن نبحث في مفردات اللغة عن لكلمات تعبّر عن نبل الهدف وسمو الغاية؛ لكننا نفاجأ أن اللغات مازالت قاصرة عن ذلك ولا نجد حلّاً سوى الصمت؛ فهو في حضرة هذه السيّدة أبلغ كثيراً من التكلُّم والتعبير عما يجول في مكنونات النفوس تجاهها. وبالرغم من ارتفاع نسبة الأمّية بين النساء في المحافظات والمناطق النائية؛ إلا أن هناك العديد من النساء قد تخطين حاجز الجهل وأصبحن مربّيات ومعلّمات يسعين ليل نهار لكسر هذا الحاجز ودفع الفتيات الأخريات إلى التعليم.. وأجمل ما في هذه الثلّة من النساء أنهن يعملن بعيدات عن مركز صناعة القرار في العاصمة صنعاء؛ إلا أن إحساسهن بالمسؤولية كان أقوى وأسرع من القرارات التي تصلهن من العاصمة، وهذا ما حفّز مشروع تحديد وإبراز القيادات النسائية اليمنية الذي ينفّذه منتدى القرن الحادي والعشرين بدعم من السفارة الهولندية لإيصال أصواتهن وإظهار الأدوار التي يستحققنها في عملية صنع القرار والتحوُّل الديمقراطي في كافة أرجاء الوطن. تتنقّل بين القرى لتقضي على الأمّية انتصار الأحمدي.. تعدّدت النسب والأرقام حول عدد النساء الأميّات في البلاد، ولكن مهما اختلفت هذه النسب فإن جميعها تشير إلى أن اليمن من أوائل البلدان التي تعاني الأميّة وبالتحديد بين النساء، ولذلك كان لزاماً على انتصار الأحمدي (45) عاماً من محافظة الحديدة أن تبدأ بالقضاء على هذه الأميّة بكل ما أوتيت من قوة. تعمل الأحمدي مديرة لإدارة تنمية المرأة في مديرية باجل ورئيسية الجمعية الاجتماعية لتنمية المرأة الريفية، ولم تكتفِ بإنشاء مركز أو مركزين لمحو الأمّية في مركز المديرية ولكنها دخلت إلى العديد من قرى المديرية لتفتتح هناك أكثر من 20 مركزاً على مختلف المديريات يدرسن فيهن قرابة 24 معلّمة متطوّعة. وعلى الرغم من انتشار الأمية في مختلف المحافظاتاليمنية؛ إلا أن الأحمدي تقول إنها تفاجأت عندما شاهدت الأعداد الكبيرة في المحافظة التي تعاني محو الأمّية، وهو الأمر الذي قادها إلى التركيز على محو الأمّية. ليست الأحمدي جديدة على العمل في محو الأمّية فهي تمارسه منذ العام 2006م، ولكن العائق الوحيد أمامها هو عدم توفر الحافز الذي يجعل الطالبات يُقبلن على التعليم، وبالتأكيد هذا ليس جشعاً من المتعلّمات ولكن الوضع الاقتصادي المتدنّي للمتعلّمات يفرض عليهن التفكير من وجهة نظر مادية. وفي ظل بيئة فيها معظم النساء أمّيات، يصعب على الأحمدي أن تجد معلّمات متطوّعات يحملن شهادات ثانوية من أجل القيام بتعليم النساء، وهذا ما اضطرها إلى إحضار معلّمات من مناطق أخرى، ولكن أيضاً لاتزال مشكلة عدم توفر مواصلات للمعلّمات المشكلة الأخرى. وتحاول الأحمدي أن تتغلّب على المعضلات التي تواجهها من خلال ما يقدّمه أصحاب الخير قبيل شهر رمضان، فهي تحثّهم على تقديم المعونات الرمضانية من تمر وسكر وأرز وغيره لطالبات ومعلّمات محو الأمّية، وهذه خطوة منها للتحفيز. وتمكّنت الأحمدي خلال السنوات السابقة من إخراج 40 متعلّمة على الأقل من كل قرية، ولكن لاتزال هناك قرابة 5000 أمّية يرغبن في التعلم، و1000 طالبة قد تخرّجن بالإضافة إلى 1000 مازلن يدرسن. ولا يوجد أيام راحة لدى الأحمدي، فهي تعمل طوال أيام السنة بما فيها أيام الإجازات، وتخاطب كل مسؤول في هذا المجال قائلة: “إذا كنت تريد تحمُّل المسؤولية فمن الضروري أن تكون على قدر المسؤولية” مشيرةً في حديثها إلى الذين لا يقومون بدورهم في محو الأمّية. استفادة أكبر عدد ممكن سميرة العنسي: «المعلّمون هم من يحملون رسالة الأجيال، وإرشاد معلّم يُعد أفضل الطرق لتوعية الأجيال، فمن تحت يده سيتخرج عدد ليس بالقليل من مختلف شرائح المجتمع» هذا ما تقوله مدرّسة اللغة العربية من محافظة تعز سميرة العنسي التي تبلغ من العمر اثنين وأربعين عاماً؛ ربما الحظ لدى العنسي كان أفضل من غيرها من المعلّمات؛ فهي تحصل على دورات تدريبية في مختلف المجالات كونها كانت مدرّبة اجتماعية قبل الالتحاق بالسلك التعليمي، ولكن العنسي تحاول أن توصل كل ما تتعلّمه وتعلّمته إلى زميلاتها من المعلّمات، وتقوم بعمل دورات مصغّرة في نطاق مدرستها لزميلاتها المعلّمات، كما أن مستوى التعليم المتدنّي لدى بعض المدرّسات له حيز في تفكير العنسي التي تمد أية معلمة لديها بعض مكامن الضعف الخاصة بمهنة التدريس بالكثير من الخبرات حتى تتمكّن من تأدية عملها بالشكل الصحيح والمطلوب، كونها تؤمن أن التغيير يأتي من المعلّمات وليس من الطالبات اللاتي يتلقّين ما يُعطى لهن. وليس المعلمات فقط هن اللاتي يتلقّين تدريبهن من العنسي؛ لكن أيضاً أولياء الأمور هم الفئة الثانية التي تستهدفهم العنسي، والتي تقول: “بدلاً من أن أقوم بتعليم جميع الطلاب بمفردي؛ من الأفضل أن أستهدف كل من في يده تعليم الطلاب وهو سيعلّم الطلاب الحاليين وغيرهم”. وتحمل العنسي على كاهلها هم الوطن بأسره، فهي تتمنّى من كل معلّم أن يعمل لنفسه نوعاً من التطوير المهني، إيماناً منها بأن المعلّم الماهر في مقدوره أن يصنع جيلاً متميزاً. من الأمّية إلى الجامعة لم يقتصر هدف عابدة خضر «42» عاماً التي تعمل مستشارة في مكتب التربية بمحافظة حجة ومسؤولة الرقابة والمتابعة في برنامج تمكين المرأة بالمحافظة من أن تقوم بمحو أمّية المتعلّمات؛ ولكن هدفها تجاوز ذلك لتوصلهن إلى التعليم الجامعي. عملت خضر كمدرّسة في مديرية عبس منذ العام 1996م، لكن هم محو الأمّية لم يفارقها منذ تلك اللحظة، وكانت تعمل في فترة ما بعد الظهر كمتطوعة في محو أمّية الفتيات وألحقتهن بالتعليم الأساسي في بداية الأمر حتى وصلن إلى التعليم الجامعي، ومنهن من تخرّجن من الجامعة، وفي بيئة كمحافظة حجة، ما إن تقوم بفتح مركز لمحو الأمّية إلا ويشهد إقبالاً ملحوظاً وخصوصاً بعد أن استفدن من هذا التعليم الكثير من الفتيات، واللاتي لا يعطين أدنى اهتمام للحافز المادي كبقية المحافظات ولكن التعليم هو هدفهن الأسمى. وللمشايخ ورجال القبائل ثمة دور في محو الأمّية؛ فهم الذين قاموا بتوفير المنازل والعشش التي استخدمت كمراكز لمحو الأمّية من أجل التدريس فيها بالتعاون مع منظمة عبس التنموية، تقول خضر: “مادام هناك هدف وهو خدمة المجتمع، ومادام يشعر بسعادتهم فمستحيل أن الواحد يتوقف عن خدمة مجتمعه، ولا يمكن أن يبتنى أي مجتمع دون مشاركة المرأة”. محو أمّية زوجات الجنود على الرغم من أن مارينا الجوهي «31» عاماً من مدينة المكلا لم تلتحق بكلية التربية وإنما درست في مجال الحاسوب؛ إلا أنها وجدت نفسها فجأة أمام التعليم وهي الآن تعمل على تحضير درجة الماجستير في الإدارة التربوية، ومن المعروف عن محافظة حضرموت أنها لا تعاني نسبة كبيرة من أمّية النساء كغيرها من المحافظاتاليمنية؛ إلا أن المكان الذي تعيش فيه الجوهي كان بالقرب من مطار الريان في المكلا؛ وهو المكان الذي تسكن فيه نساء جنود اللواء 27 والتي تنتشر بينهن الأمّية بنسبة كبيرة. يقع سكن هؤلاء النساء على بُعد مسافة من مدينة المكلا، وهذا الذي أدّى إلى اعتبار تعليمهن واجباً وطنياً بالنسبة للجوهي، وعليها أن تسهم بقدر الإمكان في محو أمّية هؤلاء النساء، وبالفعل وصلت إلى ما تصبو إليه ومحت أمّية العديد من النساء في تلك المنطقة، أما العمل الطوعي فهو ليس بجديد على محافظة حضرموت ويقبل عليه العديد من خريجي الثانوية العامة، وهو الأمر الذي تحبذه الجوهي والتي عملت أيضاً إلى جانب محو أمّية النساء على التدريب في مجال القيادة بمؤسسة الأمل الاجتماعية النسوية في المكلا، وللجهوي العديد من الأعمال المجتمعية ولعل أبرزها أنها عضوة في مؤسسة الصندوق الخيري للطلاب المتفوقين والذي يقدّم للمتفوقين منحاً خارجية في مختلف المجالات، وجميع هذه المنح تقدّم من تجار من محافظة حضرموت. حوّلت منزلها إلى مدرسة على الرغم من أن منطقة التريبة تبعد عن مدينة زبيد، مدينة العلم والعلماء بحوالي سبعة كيلومترات؛ إلا أن التعليم هناك في حالة يُرثى لها، حيث إنه من الممكن أن يصل الطالب إلى المرحلة الثانوية وهو لايزال غير قادر على القراءة والكتابة؛ لكن سميرة دعيب «40» عاماً التي تعمل مديرة لمدرسة الخنساء في تلك المنطقة أسهمت بشكل شخصي في صناعة حل لهذه المشكلة من أجل خلق جيل قادر على الكتابة والقراءة وقامت بعملية تدريب للطلاب من الصف الأول إلى الثالث الأساسي في منزلها الخاص حتى يصل الطالب إلى الصف الرابع وهو يجيد القراءة والكتابة؛ لكن الأمر تطوّر مؤخّراً في حياة دعيب، فلم تعد تعلّم الطلاب في منزلها الخاص وإنما تعمل على تدريسهم في إحدى المدارس القديمة التي نقل منها الطلاب، وأصبحت تعطي دروس تقوية في القراءة والكتابة لأكبر عدد من الطلاب. ولم تهتم كثيراً دعيب بالنساء الأمّيات في المنطقة كونها تعتبر طلاب المدارس أولى من غيرهم بتعلُّم القراءة والكتابة؛ ولكنها لم تحرم النساء من التعليم؛ فلديها أيضاً مركز خاص في نفس المدرسة لتحفيظ القرآن الكريم ولديها قرابة 500 طالبة تدرّسهن 15 معلّمة و15 متطوّعة.