الحرب كالسفر، لكنها أشدُّ قسوة وأكثر إفصاحاً، تضع البشر أمام مرايا قد لا يرون فيها ذواتهم جيداً؛ لكنها تخرج ما فيهم من حقائق، فمنهم من يصير بطلاً، ومنهم من يكشف عن وحشيته، ويبقى الفرق بين تعريف البطولة والوحشية مختلفاً، فكل يرى ما يقوم به هو المثالي، المجرم والقديس، كلاهما يفعل ما يراه جيّداً لنفسه أو لمصلحة من يقوم بعمل ما لأجله.. وشيء كالحرب يكشف عن معانٍ أخرى للحياة، وقبل الذهاب في التأصيل الفلسفي، يمكن أن تُختصر المسألة فيما يقوله الفيلم الصيني “أزهار الحرب” حيث جون ميللر رجل سكير وعابث ومخادع وإلى جواره مجموعة من المومسات، تكشف الحرب عن إنسانيتهم جميعاً، فيقوم ميللر بالتعاون معهن بإنقاذ حياة مجموعة من الفتيات والمغامرة بنفسه من أجلهن، أما البطولة والشرف اللذان يجسّدهما الجنود اليابانيون فيتمثلان في القتل والسلب والاغتصاب. يحكي الفيلم الصيني “أزهار الحرب” للمخرج زانج ييمو عن جزء من أحداث الحرب اليابانية الصينية الثانية التي بدأت في العام 1937، وتحديداً ما وقع في مدينة نانجينغ، العاصمة السابقة للصين في ذلك الوقت، حيث احتلّت القوات الامبراطورية اليابانية المدينة، وارتكبت فيها من الفضائع ما جعل العملية تأخذ لاحقاً اسم “اغتصاب نانجينج”. يبدو “أزهار الحرب” عملاً قومياً بامتياز، فهو إذ يجسّد مأساة نانجينج، وقصة المومسات اللواتي شاركن في إنقاذ الفتيات؛ يقدّم الشخصية اليابانية في أبشع صورها، وهي تقريباً نفس الصورة التي اعتادت هوليوود على تقديمها عن النازيين والفاشيين واليابانيين، لكن الأمر كان بحاجة إلى بعض الموضوعية، فمهما يكن ومهما تكن الحرب قاسية وبشعة فتسلب الجنود إنسانيتهم وضمائرهم؛ فلابدّ أن ثمّة جانب مشرق، ثمة ضعف ما، أو ثمة حزن إنساني يمر بحياة هؤلاء، فغالباً يكون الجميع ضحايا نظام ينتج الشر ويجعل البشر أدواته أو يجبرهم على تمثُّله. كان ييمو حالماً ومغامراً وهو يقوم بإخراج هكذا فيلم، وبميزانية ضخمة وصلت إلى 90 مليون دولار كأول فيلم صيني يصل إلى هذا المبلغ، لكن ييمو اقتبس قصّته من رواية “أزهار نانجينج ال13” ليقوم بهكذا مغامرة، إلا أنه لم ينجح في جعلها متماسكة جداً، ولم تكن محبوكة بما يكفي لتكون دراما جيّدة، فأغلب أحداث الفيلم اتسمت بالميلودراما، وإن كانت قصة التضحية نفسها معقولة ومنطقية، حيث يمكن للشر أن ينتج رد فعل مساوٍ له ومضاد في الاتجاه. يذهب متعهّد الدفن الأميركي جون ميلر الذي قام بدوره كريستيان بيل إلى ناننينج لدفن قس الكاتدرائية الأجنبي، وتبقى الكاتدرائية مكاناً آمناً برغم كل الدمار الذي حلّ في المدينة، لأنها تقع ضمن الاتفاق مع القوات اليابانية باعتبارها مكاناً أجنبياً آمناً، ويصر ميلر على أخذ كامل أجره برغم أن جثة القس لم تعد موجودة بسبب انفجار أهلكها تماماً، ثم يصر على المكوث في الدير للاستمتاع بالنبيذ المخبأ في أقبيته، وهو ما يكشف عن انتهازية ولصوصية هذه الشخصية، ثم تتسلّل مجموعة من المومسات إلى الدير هرباً من الحرب، ويعشن في الدور السفلي في حين تتعرّض فتيات الكاتدرائية لمطاردة الجنود اليابانيين، قبل أن يتركوهن موقتاً على أن يعودوا لأخذهن في وقت لاحق لاستغلالهن جنسياً، وهم يجهلون وجود المومسات في القبو، ومع الوقت وأثناء ما الفتيات يعشن ذعر انتظار مصيرهن المخيف، تتحوّل شخصية ميلر تدريجياً، ويتفق مع المومسات على إنقاذ الفتيات عبر خطة متقنة لا تخلو من مخاطرة كبيرة. كان ما قام به ميللر مغايراً نوعاً ما لثيمة البطولة في أفلام الحرب، فهو يتحوّل تدريجياً من سكير ومخادع إلى رجل شهم يغامر بحياته لإنقاذ مجموعة فتيات، ونفس الأمر يمكن قوله على المومسات اللواتي تحمّلن الجزء الأكبر والأهم من التضحية. عمل الفيلم إذاً على تقنية المواجهة بين الأنا والآخر، وساق التحوّل بين الأنانية إلى التضحية بسلاسة، وفي المقابل ثمّة شخصية لم تتخلَ عن دورها ووظيفتها، وهي شخصية الصبي الذي التزام بعهده بحماية الفتيات، فيقود بدوره بالتضحية بنفسه لخلاصهن. وتمثّل الكاتدرائية محوراً مهمّاً في بناء الفيلم، وفي المقابلات التي سعى إلى المقارنة أو المقاربة بينها، فبعد أن كانت هي الخلاص الذي سعى الجميع إلى الركون إليه، تحوّلت إلى سجن ينتظر فيه الجميع مصيرهم البائس، وهذا الأمر لم يأتِ اعتباطياً كما يبدو، حيث إن فيلماً يتحدّث عن الحرب وحالاتها لابد أن يشير إلى عدم الطمأنينة التي تخلقها الحروب عادة، إلى تقلباتها وتوسعها وامتداد أثرها إلى كل شيء وكل مكان، حتى تلك الأماكن التي تبدو أنها آمنة وهادئة تتحوّل بفعل الحرب نفسها إلى أماكن سجون أو أماكن احتضار بطيء، وبالغت الكاميرا في البقاء داخل الكاتدرائية وزواياها المظلمة لتأكيد وطأة السجن، وأسهمت الألوان في تمكين هدف المخرج وإشاراته، فالمومسات ذهبن إلى الكاتدرائية وهن يرتدين ملابس زاهية الألوان لتأكيد حبهن للحياة وتشبثهن بها، أما في الخارج فكانت المشاهد كلها قاتمة ورمادية لا تبشّر بحياة أو أفق. صحيح أن الفيلم افتقد الترابط بين مشاهده الداخلية والخارجية، حيث لا توجد علاقة درامية بين أهوال الحرب في الخارج، والميلودراما داخل الكاتدرائية، وبدت الكثير من مقاطع ومشاهد الفيلم وكأن لا علاقة لها ببعضها البعض؛ إلا أن الفيلم امتلك سياقاً خاصاً به اتجه نحو تأكيد القيمة التي أرادها الفيلم. وتظهر الشخصية الصينية في مشهد مطوّل، ضابط يؤدّي مهمّة تضحية لصالح الصين بطريقة ميلودرامية أيضاً، لكنها أمام هول ما يحدث من دمار ونكاية بالمدينة، فتلك التضحية تستحق أن تظهر بهذا الشكل الذي يمنح الصين ما تستحق بعد أن حدث لمدينتها كل ما حدث. ترشّح الفيلم للعديد من الجوائز كأفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار في الدورة الرابعة والثمانين، وللمنافسة على جوائز الجولدن جلوب والبافتا. [email protected]