يحيى الربيعي : أكد المهندس منير المحبشي، مدير عام التسويق بوزارة الزراعة والثروة السمكية والموارد المائية، أن اليمن يخوض اليوم المرحلة الأكثر نضجاً في مسار "التسويق الاستراتيجي" المستند إلى دراسات دقيقة لاحتياجات السوق، بما يضمن إيصال المنتج في الزمان والمكان المناسبين وبكفاءة عالية. وأوضح المهندس المحبشي أن قطاع التسويق بوزارة الزراعة يعيش مرحلة "الاشتباك المباشر" مع هموم المزارعين والمصدرين، مشيراً إلى أن الجهود تتركز حالياً على تحويل الجمعيات التعاونية إلى "حارس لحقوق المنتجين" ومراكز تجميع كبرى تتولى الفرز والتدريج لضمان استقرار العرض والطلب، وتحويل المزارع من منتج معزول إلى قوة اقتصادية منظمة قادرة على مواجهة سياسات ما قبل ثورة 21 سبتمبر 2014م، والتي استهدفت طويلاً تدجين الإرادة اليمنية عبر إضعاف أمنها الغذائي. وفيما يخص تطهير الأسواق من التبعية، كشف المحبشي عن نجاحات ملموسة في إدارة "فاتورة الاستيراد" عبر تنفيذ "خطة جراحية" اعتمدت "الحظر الموسمي" كاستراتيجية تدرج ممنهجة مكنت الوزارة من خفض قرابة 7.9 مليار ريال من قيمة فاتورة استيراد المنتجات الزراعية، ليتم عكس المبلغ من حساب الشركات العالمية العابرة للقارات إلى جيب المزارع اليمني. وبالإضافة إلى تأكيده أن نظام "الزراعة التعاقدية" بات يمثل "عقداً سيادياً مسبقاً" ينهي حقبة المجهول للفلاح والمربي اليمني، تطرق المهندس المحبشي -في حوار مستفيض خص به موقع" أنصار الله"- إلى مجمل القضايا والمستجدات المرتبطة بعملية التسويق الزراعي في اليمن، فإلى التفاصيل: نبدأ من الجذور: كيف تفهمون اليوم دور التسويق الزراعي في سياق التنمية، وما هي المراحل التي قطعها هذا المفهوم على طريق الوصول إلى مرحلة "الإنتاج الموجه"؟ في قلب التحولات الاقتصادية التي يشهدها اليمن، برز التسويق الزراعي كالحلقة الأقوى والمفصل الحيوي الذي يحدد مصير الإنتاج الوطني؛ إذ انتقلت العقيدة الإنتاجية من العشوائية إلى قاعدة "إنتاج ما يمكن تسويقه"، في معركة وعي تهدف إلى حماية المزارع من فخاخ الكساد التي نصبتها السياسات المترهلة تاريخياً. التسويق بشكل عام مر بمرحلة المقايضة، ثم طفرة الإنتاج، وصولا إلى مرحلة إنتاج ما يمكن تسويقه. وتخوض اليمن اليوم في المرحلة الأكثر نضجاً (وهي "التسويق الاستراتيجي" الذي يستند إلى دراسة دقيقة لاحتياجات السوق وأذواق المستهلكين) لضمان ألا تُنتج سلعة لا تلبي رغبة المواطن أو تُنقل إلى مكان لا يحتاجها، في مسعى حثيث لتحقيق القدر الممكن من المعادلة الذهبية: إيصال المنتج في الزمان والمكان المناسبين وبكفاءة عالية. ويعرّف خبراء الاقتصاد الوطني "التسويق الزراعي" اليوم بأنه علم انتقال المنتج من الحقل إلى مائدة المستهلك بجودة وتعبئة وتغليف تنافس المنتجات المستوردة، مع تفعيل قنوات الترويج الإلكتروني والإعلامي لكسر العزلة التي فرضها الحصار على المنتج المحلي. إن هذه المنظومة تتجاوز مجرد البيع والشراء إلى تحقيق "التوزيع العادل" للمحاصيل، مانعةً تكدس الإنتاج في مدن رئيسية بينما تعاني المديريات الأخرى من الشح؛ وهو التوازن الذي يضمن استقرار العرض والطلب، ويحول دون انحدار الأسعار إلى مستويات مدمرة، ما يؤمِّن للمزارع سعراً عادلاً يحفزه على استمرارية الإنتاج ويدفع بعجلة التنمية الزراعية نحو الاكتفاء الذاتي الكامل. من العشوائية إلى البناء المؤسسي بالحديث عن الواقع الميداني؛ كيف تقيمون مسار التسويق الزراعي بعد ثورة 21 سبتمبر، وما هي "التحديات" التي انزاحت عن كاهل هذا القطاع، وكيف تم تجاوزها؟ كشفت التحولات التي أعقبت ثورة 21 سبتمبر عن هوة سحيقة كانت تفصل بين المؤسسات الرسمية والواقع الميداني؛ إذ ظل التسويق الزراعي لعقود حبيس مكاتب "التنظير" ورهين المشاريع الهامشية للمنظمات الدولية التي لم تكن تلامس جوهر الأزمة، بل تكتفي بدراسات شكلية "ورقية" تفتقر لأدنى مستويات الحماية للمنتج اليمني. ومع صدور الموجهات الصريحة من قائد الثورة، السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، بدأت عجلة التغيير بالدوران نحو "الاشتباك المباشر" مع هموم المزارعين والمصدرين، واضعةً حداً لسياسة الانعزال الإداري. وعلى الرغم من هذا الحراك الحيوي، لا تزال معركة البناء في طورها التأسيسي، حيث يواجه التسويق الزراعي تحديات هيكلية موروثة، لعل أبرزها غياب استراتيجية تسويقية متكاملة وضعف البنى التحتية التي لا تزال في حدودها الدنيا. وتبرز أزمة "العشوائية" في بناء الأسواق وغياب مخازن التبريد والمنشآت التحويلية كعقبات يسعى اليمن لتجاوزها عبر تنظيم الأسواق المركزية وتوطين الاستثمار في هذا القطاع الحيوي، وصولاً إلى طموح امتلاك أسطول نقل مبرد (بري وبحري) يضمن وصول المنتج اليمني إلى الأسواق الإقليمية والدولية بكفاءة عالية، كاسراً بذلك قيود الحصار الجائر. وفي هذا السياق، تبرز "الجمعيات التعاونية" والتعاونيات الزراعية كشريك استراتيجي وحامل للحراك المجتمعي، بهدف إنهاء تشتت جهود صغار المزارعين؛ حيث تسعى الرؤية الجديدة إلى تحويل هذه الجمعيات إلى مراكز تجميع كبرى تتولى عمليات "الفرز، التدريج، والتعبئة"، وكذلك تنظيم توريد المنتج وفق معايير الجودة العالمية. إن هذا التوجه لا يستهدف فقط تحسين جودة العرض، بل يسعى إلى التحكم الواعي بمسألة "العرض والطلب" بناءً على معلومات تسويقية دقيقة، لضمان استقرار الأسواق وحماية المزارع اليمني من الابتزاز، وتحويله من منتج معزول إلى قوة اقتصادية منظمة قادرة على مواجهة السياسات الصهيو-أمريكية التي استهدفت طويلاً تدجين الإرادة اليمنية عبر إضعاف أمنها الغذائي. ترشيد وخفض فاتورة الاستيراد كيف استطاعت استراتيجية إدارة "فاتورة الاستيراد" تحجيم الهيمنة الخارجية لصالح المنتج المحلي؟ في معركة اقتصادية شاملة لكسر هيمنة المنتجات الأجنبية التي أغرقت الأسواق اليمنية لعقود، شرعت وزارة الزراعة منذ العام 2019م في تنفيذ خطة جراحية لإدارة "فاتورة الاستيراد"، منتقلةً من حقبة الاستيراد العشوائي -الذي تعمد ضرب المنتج المحلي- إلى مرحلة "التنظيم السيادي" الذي يضع مصلحة المزارع اليمني فوق كل اعتبار، وذلك تنفيذاً لموجهات القيادة التي رأت في استنزاف العملة الصعبة لصالح السلع الاستيرادية سلاحاً لتركيع الإرادة الوطنية. وتعتمد الاستراتيجية الجديدة على "الحظر الموسمي" كأداة ردع قانونية، حيث يُمنع استيراد أي سلعة خارجية منافسة فور دخول الموسم الإنتاجي المحلي، لضمان حماية المزارع من سياسة "الإغراق" التي كانت تمارسها القوى المرتبطة بالخارج. ولم يكتفِ اليمن بالمنع فحسب، بل اتجه نحو "توجيه القطاع الخاص" وتحويله من مجرد وكيل للمنتجات الصهيو-أمريكية والشركات العابرة للقارات إلى مستثمر حقيقي في الأرض اليمنية عبر نظام "الزراعة التعاقدية"؛ وهو المسار الذي حقق نجاحات ملموسة بدأت تظهر ثمارها في توسيع الرقعة الزراعية للمحاصيل الاستراتيجية. إن الهدف النهائي لهذا الحراك هو "الإحلال الكامل" للمنتج المحلي بديلاً عن الخارجي، وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي وفق دراسات دقيقة توازن بين "الكمية والجودة والسعر". إنها عملية تحول من اقتصاد "الارتهان" إلى اقتصاد "الإنتاج"، حيث يتم تشجيع المزارعين على التوسع في زراعة الأصناف التي كانت تُستنزف فيها موازنة الدولة، وبذلك يستعيد اليمن قراره الغذائي ويغلق الثغرات التي حاول العدو النفاذ منها لتجويع الشعب، محولاً الأرض اليمنيّة إلى قلعة حصينة لا تقبل الابتزاز باللقمة أو الدواء. في السياق -وبالإضافة إلى الحظر غير المعلن لاستيراد الدواجن وكذلك الابقار والعجول- تجسدت هذه السياسة في قرارات سيادية ممثلة بالقرار الوزاري رقم (12) لسنة 1445ه، الذي قضى بالاستمرار في حظر استيراد (11) صنفاً تشمل الدخن، الذرة الرفيعة، الزبيب، التفاح بجميع أنواعه، اللوبيا (الدجرة)، البسباس الأحمر الحار، الجوافة، الخضروات المجمدة، وورق البرقوق. وفي الأمر الوزاري رقم (14) لسنة 1445ه الذي وسّع دائرة الحظر لتشمل (16) صنفاً إضافياً، منها الثوم المطحون، والبصل المجفف، والذرة الشامية للاستهلاك الآدمي، ومشتقات الدواجن واللحوم، وحتى أكل العصافير والورود الطبيعية. وبلغة الأرقام، فقد جاءت هذه الإجراءات لوقف نزيف حاد في العملة الصعبة؛ إذ بلغت القيمة الإجمالية لفاتورة استيراد هذه المنتجات قبل الحظر نحو 20,455,087 دولاراً أمريكياً، احتلت فاتورة استيراد "الثوم" وحدها 9,200,000 دولار، بينما بلغت فاتورة "التفاح الخارجي" 5,900,500 دولار، و"الزبيب" 1,057,500 دولار. الزراعة التعاقدية ومستقبل المنتج الوطني هل يمكنكم توضيح مفهوم "الزراعة التعاقدية" كأداة تسويقية حديثة، وكيف يتم تقييم تجربتها في اليمن حتى الآن، وهل من أمثلة احصائية لإنجازات فعلية تم تثبيتها على ارض الواقع، مع بيان المحاصيل وحجم التعاقد لكل محصول؟ في سياق التحول من العشوائية الاستيرادية إلى الإنتاج الموجه، تبرز "الزراعة التعاقدية" كواحدة من أهم الأدوات الجراحية الحديثة لإدارة الاقتصاد الزراعي؛ إذ تمثل في جوهرها "عقداً سيادياً مسبقاً" يربط المزارع (كمنتج) بالجهة المشترية (سواء كانت تاجراً، أو مستورداً، أو مصنعاً) لينهي بذلك حقبة "المجهول" التي كان يعيشها الفلاح اليمني. هذا العقد ليس مجرد ورقة تجارية، بل هو وثيقة التزام تحدد المواصفات، والزمان، والمكان، وتمنح الأرض حمايتها القانونية قبل أن يبدأ موسم الحصاد. وتتسم هذه العقود بالمرونة التي تراعي واقع المزارع اليمني المثقل بتبعات الحصار؛ إذ تُبنى على "التراضي" وتغطية الاحتياجات الحقيقية للمنتج، سواء عبر تقديم مبالغ نقدية مقدمة أو توفير المدخلات والمستلزمات الزراعية التي تعمد العدو تغييبها أو رفع كلفتها. وفي حال حدوث أي نزاع، فإن الدولة تضع ثقلها كضامن ومشرف، حيث يتم الحل عبر القنوات الودية والسلطات المحلية ومكاتب الزراعة، وصولاً إلى التوجه المؤسسي الجديد بإنشاء "الإدارة العامة للزراعة التعاقدية" ضمن قطاع التسويق، لتكون هي المرجعية القانونية والفنية لحل الخلافات وقطع الطريق أمام أي محاولات لاستغلال المزارعين أو الالتفاف على حقوقهم. لقد استطاع اليمن، منذ انطلاق ثورة 21 سبتمبر، أن يحرّك المياه الراكدة في هذا الملف الحيوي، متجاوزاً سنوات التهميش الممنهج؛ فبعد تجارب ناجحة خلال العامين الماضيين، دخلت الزراعة التعاقدية مرحلة "التنظيم الشامل"، وهو ما تجلى مؤخراً في إبرام عقود استراتيجية بين مستوردي "الليمون" ومزارعي السهل التهامي. هذا الحراك بدأ يؤتي أكله بانتشار الوعي لدى المستثمرين والمزارعين على حد سواء، حيث لمس الجميع أن "التعاقد المسبق" هو الحصن المنيع الذي يحمي الثروة الوطنية من تقلبات الأسواق التي تدار من الخارج، محولاً المزارع من "ضحية للكساد" إلى "شريك في القرار"، ومنتزعاً قرار الغذاء من براثن القوى الصهيو-أمريكية التي حاولت طويلاً استخدام "الجوع" سلاحاً لتدجين الإرادة اليمنية. وبلغة الأرقام، بلغت الكميات المسوقة عبر عقود الزراعة التعاقدية، والتي سجلت في محصول الذرة الشامية وحدها نحو 1600 طن، بقيمة إجمالية بلغت 470 مليون ريال. وتسويق 1043 طناً من محصول التمور بقيمة تقارب 469.350.000 ريال، إلى جانب النجاح في تسويق 80 طناً من محصول اللوز بقيمة ناهزت 274 مليون ريال، في حين حقق قطاع الدواجن المحلية قفزة استراتيجية كبرى بوصول إجمالي ما تم تسويقه إلى حوالي 7 مليارات ريال، ما يعكس تصميماً يمنياً على استعادة السيطرة الكاملة على مائدة الطعام الوطنية وتطهيرها من التبعية للخارج. الإجمالي العام لهذه التحركات، والذي فاق حاجز 7.905.350.000 ريال -ما يعادل 15 مليون دولار- هو القيمة الحقيقية التي تم انتزاعها من "فاتورة الاستيراد" لتستقر مباشرة في جيب المزارع اليمني، محولةً الأموال التي كانت تذهب لتمويل الشركات العالمية العابرة للقارات إلى وقود للتنمية المحلية وصمود الجبهة الداخلية. ماهي المحاصيل التي ترون أن اليمن تمكنت من تحقيق أعلى نسبة اكتفاء ذاتي فيها؟ هناك قفزة نوعية وضعت اليمن على عتبة الاكتفاء الذاتي الكامل في قطاعي الفواكه والخضروات بكل أصنافهما، بل وصلت نسبة الاكتفاء في محصول البطاطس إلى نحو 100% بإنتاج يتجاوز 290,000 طن سنوياً، في حين تتدفق شحنات الطماطم لتغطي احتياجات الأسواق المحلية بنسبة تلامس الاكتفاء التام، ما كسر طوق الاعتماد على الاستيراد. وتتجاوز فاكهة المانجو -التي تتربع تهامة على عرش إنتاجها- حاجز 400,000 طن، وهو ما دفع بصناع القرار في القطاع الزراعي إلى تدشين استراتيجيات التصدير لتطرق هذه الثمار أبواب الأسواق الخارجية، محملةً برسائل الصمود والتميز اليمني. ومع ذلك، تبرز في الأفق تحديات تقنية تُعد بمثابة "الجبهة الاقتصادية القادمة"، حيث تتطلب المرحلة الراهنة استنفاراً تكنولوجياً لتعزيز سلاسل القيمة المضافة، ولاسيما في مجالات التعبئة والتغليف والتبريد لمواكبة معايير المنافسة الدولية، إذ تؤكد الشواهد الميدانية أن تأمين هذه التقنيات الحديثة هو ما سيتيح للمنتج اليمني العبور بسلاسة عبر الحدود، ليكون سفيراً لهوية اقتصادية قاومت الحصار بالابتكار، وواجهت الحرب بالاستثمار في تراب الأرض. سلاسل القيمة وتوطين المنتج المحلي سياسات "توطين المنتج المحلي"، و"سلاسل القيمة"، ماذا تعني لكم في قطاع التسويق؟ نعتمد استراتيجية توطين المنتج المحلي على مسارين إجرائيين متكاملين يهدفان إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي. يبدأ المسار الأول بالدراسة المعمقة ل "سلاسل القيمة"، وهي أداة تحليلية شاملة تتبع مسار المحصول منذ أن كان بذرة، مروراً بكافة مراحل الإنتاج والتسويق، وصولاً إلى التصنيع النهائي، حيث تتيح هذه الدراسة تشخيصاً دقيقاً للفجوات وتحديد مواطن الضعف التقنية، ما يمهد الطريق لرفع جودة المنتج الوطني وضمان منافسته للمستورد. وفي موازاة ذلك، تبرز "الزراعة التعاقدية" كإجراء استراتيجي ثانٍ يمنح المزارع والمربي "الأمان التسويقي" عبر ضمان منافذ البيع مسبقاً، ما يحفز على مضاعفة الإنتاج دون التخوف من تقلبات السوق أو الكساد. ويتجلى التطبيق العملي لهذا التوجه في الدور الذي تضطلع به "وحدة الزراعة التعاقدية"، التي نجحت في بناء جسر تنظيمي يربط المزارعين -من خلال الجمعيات الزراعية- بكبار مستوردي الأعلاف، في خطوة تهدف إلى إحلال المدخلات المحلية وتقليص فاتورة الاستيراد، بما يضمن استدامة الدورة الاقتصادية داخل حدود الوطن. البيع بالوزن إنصاف لعرق المنتج نشهد اليوم حراكاً واسعاً للبيع والشراء ب "الوزن" بدلاً من "الحبة" في قطاع الدواجن و"السلة" في المنتجات الزراعية، ما هي دلالة هذه الخطوة في ميزان العدالة، كم حجم حركة السوق في هذا المجال؟ في سياق الخطوات التصحيحية الرامية إلى اجتثاث جذور الاستغلال في الأسواق المحلية، يمضي الحراك الوطني حالياً في مراحل الإعداد والتجريب المكثف لتكريس آلية "البيع والشراء بالوزن" في قطاع الدواجن والمنتجات الزراعية، بوصفها استحقاقاً شرعياً وأخلاقياً طال انتظاره. هذه المبادرة التي بدأت ملامحها تتشكل قبل عامين وفق خطة مدروسة، تأتي في مقامها الأول امتثالاً للتوجيه الإلهي القاطع: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾، لتكون الشريعة والمنهاج القرآني هما المرجعية الحاكمة في ضبط المعاملات وحماية الجبهة الداخلية من أدوات الجشع. هذا التحول، رغم أنه لايزال يخضع حالياً لعمليات ضبط وتجهيز فني، إلا أنه يمثل عودة إلى الأصل الطبيعي الذي تعمل به شعوب العالم، ويهدف في جوهره إلى ردم فجوة "الغبن" التي كابدها المزارع اليمني لعقود؛ فالمشروع الجاري إنضاجه يرفض استمرار بيع المحاصيل ب "الحبة" أو "القفص" أو التقديرات العشوائية التي لا تنصف عرق المربي ولا تراعي كلفة الأعلاف والمركزات. وبدلاً من ذلك، يسعى نظام "الوزن" الجاري تجريبه إلى ضمان الحقوق بدءاً من ساحات الحراج وصولاً إلى المستهلك النهائي، محطماً بذلك أساليب التدليس التي مارستها شبكات السمسرة والارتهان التجاري، بل ويعد ركيزة أساسية في معركة "البناء الزراعي"، حيث يُنتظر أن يؤدي تثبيت معايير الوزن إلى استقرار التكاليف وتحفيز المربين والمزارعين على التوسع في الإنتاج الحيواني والزراعي. إنها رسالة قيد التنفيذ لكل العابثين بالاستقرار الاقتصادي، تؤكد أن زمن "العشوائية الممنهجة" في طريقه للزوال، وأن السيادة الوطنية تبدأ من حفظ "المثقال" في الأسواق، ليبقى المزارع جندياً ثابتاً في خندق الاكتفاء الذاتي والكرامة الوطنية. خارطة طريق مؤسسية وإلى أي مدى يلتزم التجار والوكلاء بهذه الآلية، وما هي أدوات الردع والرقابة لكسر شوكة الممارسات التقليدية التي طالما استنزفت عرق المزارع لصالح شبكات المنتفعين؟ في سياق الثورة التصحيحية التي تتبناها الدولة لضبط الموازين الاقتصادية، تتأهب وزارة الزراعة لإطلاق مرحلة جديدة من الرقابة الميدانية تهدف إلى تعميم آلية "البيع والشراء بالوزن" لتشمل كافة المنتجات الزراعية من خضروات وفواكه، بعد البدء بقطاع الدواجن. إن هذا التوجه لا يمثل مجرد إجراء تنظيمي، بل هو معركة "وعي وإنفاذ" تسير وفق مراحل مدروسة تبدأ من أسواق الجملة، باعتبارها المحرك الأساسي لعملية التداول التي طالما عانى فيها المزارع من تقديرات عشوائية تسلب ثمرة جهده. وتستند استراتيجية التنفيذ إلى مسارات متكاملة لضمان التزام التجار والمسوقين؛ حيث انطلق المسار الأول ب "المسار التوعوي" عبر كافة المنصات الإعلامية والقنوات الرقمية والملصقات الميدانية، عملنا على الترويج بالفلاشات التوعوية (إذاعية، تلفزيونية، ملصقات، وبوسترات) لبيان الفوائد الاستراتيجية للوزن في تحقيق العدالة السعرية. ولن يقتصر الأمر على الإرشاد، بل سيمتد ليشمل دورات تدريبية مكثفة للعاملين في الأسواق والمزارعين، لصهر الجميع في بوتقة "المنظومة الرقمية للموازين"، وتدريبهم على آليات التطبيق التي تقطع الطريق أمام أي تلاعب أو غبن تجاري. وعملياً، يعقب حملات التوعية إصدار تعميمات ملزمة لكافة وكلاء الأسواق بضرورة توفير "الموازين المعتمدة" في ساحات الحراج والجملة، لتكون هي الفيصل الوحيد في المعاملات. ولضمان ديمومة هذا الالتزام، يتم تفعيل "وحدات الإشراف الفني" للتواجد على مدار الساعة في الأسواق، مسنودة بحملات رقابية دورية من هيئة المواصفات والمقاييس لفحص دقة الموازين وضبطها. الدولة لن تتهاون في حماية لقمة عيش المواطن وعرق المزارع، وهي ماضية في اجتثاث الإرث العشوائي الذي حاولت حكومات ما قبل 21 سبتمبر تكريسه لعقود لإبقاء الأسواق اليمنية في حالة من الفوضى والتبعية. تكاتف المؤسسات الوطنية من هم شركاؤكم في تنفيذ هذه الآلية من الجهات الأخرى؟ في تأكيدٍ واضح على أن معركة "السيادة الاقتصادية" ليست شأنًا قطاعيًا منعزلًا، بل هي ملحمة وطنية تتضافر فيها الجهود، كشفت الإدارة العامة للتسويق والتجارة الزراعية عن خارطة "الشركاء الاستراتيجيين" الذين يخوضون غمار تطبيق آلية "البيع والشراء بالوزن". هذا التحالف -الذي يضم مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية- يهدف في جوهره إلى تشييد جدار حماية منيع يمنع المتلاعبين من النفاذ إلى جيوب المواطنين وعرق المزارعين، محطمين بذلك ثقافة الفوضى التي حاول العدو ترسيخها في الأسواق اليمنية. وتتصدر وزارة الزراعة والثروة السمكية والموارد المائية بكافة هيئاتها وإداراتها طليعة هذا الحراك، مسنودةً بذراع رقابية وتشريعية قوية تمثلها وزارة الاقتصاد والصناعة والاستثمار، بالتكامل مع الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس وضبط الجودة التي تتولى ضمان دقة "المثقال" ومنع التطفيف. وفي مؤازاة ذلك تبرز المجالس المحلية والجهات الأمنية كقوة إنفاذ ميدانية تضمن سيادة القانون في ساحات الحراج والأسواق، بينما يضطلع "الاتحاد التعاوني الزراعي" والجمعيات المنضوية تحته بدور "الشريك الوجودي" كونه الحامل الحقيقي لصوت المزارع والمدافع الأول عن حقوقه. ولا تكتمل دائرة هذه المواجهة إلا بجبهة "الوعي"؛ حيث تُسخّر وزارة الإعلام وقنواتها وإذاعاتها، جنباً إلى جنب مع الإرشاد الديني وخطباء المساجد، لترسيخ هذه الآلية كواجب شرعي ووطني يستند إلى قيم المسيرة القرآنية. إن انضمام الأسواق والوكالات الزراعية لهذا التوجه يمثل "نقطة الحسم"؛ فتبنيهم لهذه الآلية هو الضمانة الحقيقية لإسقاط رهانات القوى الاستعمارية الصهيو-أمريكية التي حاولت طويلًا تدجين الاقتصاد اليمني عبر "العشوائية الممنهجة"، ليبقى اليمن، بكل مؤسساته، قلعة حصينة تنتزع حقها ب "العدل والميزان". الجمعيات التعاونية.. حارس حقوق المنتجين ما دور الجمعيات التعاونية الزراعية في تنفيذ آلية البيع والشراء بالوزن؟ كذلك دورها في الزراعة التعاقدية؟ في قلب التحول الاستراتيجي الذي يشهده القطاع الزراعي اليمني، تبرز الجمعيات التعاونية الزراعية كحجر زاوية لا يمكن تجاوزه في معركة انتزاع السيادة الغذائية؛ إذ لم تعد هذه الكيانات مجرد تجمعات طوعية، بل تحولت إلى "مؤسسات وسيطة" فاعلة تتولى هندسة العلاقة بين المزارع المرابط في حقله والمستورد أو المصنع. وتتجلى حيوية هذا الدور في كونها "بنك البيانات" الوطني الذي يوفر تقديرات دقيقة عن كميات الإنتاج وفترات الحصاد، ما يمنح الدولة القدرة على اتخاذ قرارات سيادية مبنية على أرقام واقعية في مواجهة محاولات التضليل الاستيرادي. وفي سياق "الزراعة التعاقدية"، تضطلع هذه الجمعيات بدور "الضامن الوجودي" لمصالح المزارعين، حيث تعمل كطرف وسيط يبرم العقود مع المستوردين وكبار التجار، مؤمنةً بذلك سوقاً مفتوحاً وسعراً عادلاً يقي المزارع مغبة الابتزاز الذي طالما مارسته شبكات السمسرة المرتبطة بمراكز النفوذ السابقة. إن هذا الدور المركزي يحول الجمعيات إلى مراكز قوة اقتصادية قادرة على تصريف المنتجات بكفاءة، وضمان تدفق السلع المحلية إلى الأسواق كبديل استراتيجي عن المنتجات المستوردة التي استهدفت إضعاف الاعتماد على الذات. أما في معركة "البيع والشراء بالوزن"، فإن الجمعيات التعاونية هي القائد الميداني لعملية التنفيذ؛ فهي التي تقع على عاتقها مسؤولية تجميع المحاصيل من صغار المزارعين وتنظيمها وفق معايير "الفرز والتدريج"، ثم وزنها بدقة قبل توريدها للأسواق. إن هذا الحراك التنظيمي الذي تقوده الجمعيات يمثل الضمانة الحقيقية لنجاح "ثورة الموازين"، حيث تنتقل بالعملية الزراعية من العفوية المشتتة إلى المنظومة المؤسسية المنظمة، معلنةً فشل الرهانات على إبقاء المزارع اليمني في حالة من الضعف والارتهان، ومحولةً إياه إلى جندي فاعل في خندق الإنتاج والبناء. الإرشاد التسويقي وهندسة الجودة وماذا عن الارشاد التسويقي، وما الدور الذي يضطلع به؟ في قلب المواجهة الاقتصادية التي يخوضها اليمن، يبرز "الإرشاد الزراعي والتسويقي" كأحد أهم الأدوات الجراحية لضمان كفاءة الإنتاج الوطني وقطع الطريق أمام السلع المستوردة التي كانت تتغول في الأسواق بفضل جودة شكلية زائفة. ولم يعد دور المرشد الزراعي مجرد تقديم نصائح عابرة، بل تحول إلى "حلقة وصل سيادية" تضمن تطبيق الممارسات الزراعية الجيدة، بدءاً من غرس البذرة وصولاً إلى وصول المنتج إلى المستهلك بأعلى معايير الجودة وبأدنى مستويات الفاقد من الحصاد، وهو ما يعزز صمود المزارع ويحمي مدخراته من الضياع. إن الخطورة التي تكمن في غياب الممارسات العلمية الصحيحة لا تقتصر على ضعف الإنتاج فحسب، بل تمتد لتضرب "العمر التسويقي" للمحاصيل؛ لذا تعمل منظومة الإرشاد اليوم على تمكين المزارع من تقنيات حديثة تُطيل أمد بقاء المنتج وصلاحيته للتداول، ما يمنحه ميزة تنافسية تكسر احتكار المنتجات القادمة من خلف البحار. وفي هذا السياق، يتحرك المرشد الزراعي كجندي ميداني، يعمل على رصد التحديات ونقلها إلى "هيئة البحوث الزراعية" التي تمثل العقل المبتكر لإيجاد الحلول التقنية في ظل الحصار المطبق، ثم إعادة ضخ تلك الحلول إلى الحقول والمزارع لضمان استمرارية الإنتاج وتطويره. ويتخذ الإرشاد الوطني طابعاً شمولياً يغطي كافة جبهات الإنتاج؛ سواء في الجانب الوقائي، أو النباتي، أو الحيواني، وصولاً إلى القطاع السمكي، لتشكيل منظومة دفاعية متكاملة تحمي الأراضي الزراعية من الآفات المفتعلة أو العشوائية التقنية. إن هذا الحراك الإرشادي هو الرد العملي على محاولات التجهيل الممنهج التي مارستها السياسات السابقة وعلى مدى عقود بحق المزارع اليمني، حيث يُعاد اليوم تأهيل "الإرادة اليمنية" بالعلم والمعرفة، لتصبح الجودة اليمنية هي المعيار الأول الذي يثق به المواطن ويحتمي به الوطن في معركته نحو الاكتفاء الذاتي الكامل. الحماية من فخاخ الإغراق الخارجي نحن الآن في موسم البرتقال واليوسفي. ما هي الإجراءات التي اتخذتموها لضمان سيادة المنتج المحلي في السوق؟ مع حلول موسم جني ثمار البرتقال واليوسفي، تبرز ملامح الحماية السيادية للمنتج المحلي كأولوية قصوى في مواجهة سياسات "الإغراق" التي كانت تُستخدم تاريخياً لضرب المزارع اليمني وتدمير ميزته التنافسية. وتتحرك أجهزة الدولة المعنية اليوم عبر مسارين متوازيين لضمان نجاح الموسم، يبدأ الأول بقطع شريان الاستيراد الخارجي بشكل استباقي، حيث تم حصر آخر شحنات البرتقال المستورد قبل ثلاثة أشهر من الآن وإيقاف دخول شحنات جديدة، لضمان خلو الأسواق تماماً من المنافس الأجنبي وتهيئة الساحة أمام التدفق الوطني الخالص. وفي المسار الثاني، تبرز منهجية "الإرشاد التسويقي المتكامل" بالتعاون مع الإدارة العامة للإرشاد الزراعي والتدريب كفعل تطويري يهدف إلى رفع جودة المنتج ليضاهي المعايير العالمية؛ إذ يتم تنفيذ برامج ميدانية توعوية تستهدف المزارعين لتدريبهم على تقنيات (القطف، الفرز، والتدريج)، لضمان وصول الثمرة إلى المستهلك في أبهى صورها. إن هذا التحول من العشوائية في العرض إلى التنظيم الاحترافي لا يهدف فقط إلى إشباع السوق المحلية، بل يمهد الطريق لفتح آفاق "التصدير" كصمام أمان يحقق توازن العرض والطلب، ويضمن للمزارع اليمني أسعاراً عادلة تقيه غائلة الكساد أو الابتزاز من سماسرة الأسواق. وهو بالفعل ما يتم الآن في تطبيق آلية تصدير منظمة لمحصول اليوسفي. وفي ظل الرقابة الصارمة على المنافذ، تؤكد المعطيات الميدانية تلاشي "البرتقال الخارجي" من الأسواق اليمنية، وفي حال رُصدت كميات ضئيلة فهي لا تشكل أي رقم يذكر في المعادلة التسويقية. إن نجاح موسم البرتقال واليوسفي خلال العامين الماضيين يمثل صفعة جديدة لرهانات القوى التي حاولت تعطيل الإنتاج الوطني، فاليمنيون يعرفون جيداً أن سيادتهم تبدأ من حقولهم، وأن اليمن قادر على تحقيق أمنه الغذائي بسواعد أبنائه بعيداً عن ارتهان "الحاويات" القادمة من خلف البحار. تحديات التأسيس وطموح السيادة كلمة أخيرة؟ يبرز "قطاع التسويق والتجارة الزراعية" ككيان ناشئ يصارع إرثاً ثقيلاً من الإهمال الممنهج، واضعاً نصب عينيه تحويل التحديات الوجودية إلى فرص للبناء السيادي. فعلى الرغم من الخطوات الواثقة، لا زلنا نواجه عوائق هيكلية تتمثل في غياب استراتيجية وطنية شاملة وقانون ينظم التسويق ككل؛ إذ لا تزال اللوائح الحالية غير كافية لضبط إيقاع السوق وحمايته من التوغل الاستيرادي، وهو ما يجعل من "إصدار قانون التسويق" ضرورة قصوى تمنح الدولة اليد الطولى في فرض الرقابة وحماية المنتج المحلي بقوة التشريع. وتدرك القيادة الزراعية اليوم أن "المعلومة هي جوهر القرار"؛ لذا فإن شح البيانات الدقيقة وضعف البنية التحتية من مخازن وتبريد وغيرها تمثل العقبة الكؤود التي يسعى اليمن لتجاوزها في ظل حصار تقني مطبق. ومع ذلك، تنبثق من قلب هذه الصعوبات رؤية طموحة تستند إلى الهيكلة الجديدة لقطاع التسويق، تهدف إلى توجيه الاستثمارات الوطنية نحو بنية تحتية حديثة تكسر احتكار شبكات التبعية، وتخلق قنوات تسويقية مبتكرة تضمن وصول "البلدة الطيبة" إلى كل مائدة يمنية بجودة تنافسية وبأسعار مستقرة. إن المستقبل الذي ترسمه وزارة الزراعة والثروة السمكية والموارد المائية يتجاوز حدود "إدارة الأزمة" إلى "صناعة الريادة"؛ من خلال جعل "الزراعة التعاقدية" نهجاً لا رجعة عنه، ومواصلة تقليص فاتورة الاستيراد الاستنزافية حتى تصفيرها. وتتجه البوصلة القادمة نحو فتح أسواق تصديرية جديدة تليق بعظمة المنتج اليمني، والترويج له كرمز للهوية والمقاومة الاقتصادية. إنها معركة بناء استراتيجية تتناسب مع حجم تحديات المرحلة، لتظل الإرادة اليمنية هي المحرك الأول في تحطيم أغلال الارتهان الصهيو-أمريكي، وصولاً إلى اللحظة التي يمتلك فيها اليمن قراره الكامل من حبة بذرته حتى لقمة عيشه.