تفجير تعز.. قيادات إصلاحية تربوية تدفع ثمن مواقفها الوطنية    هجوم جوي يستهدف قوات الانتقالي في حضرموت    خبير في الطقس: برد شديد رطب وأمطار متفرقة على عدد من المحافظات    ميرسك تعبر البحر الأحمر لأول مرة منذ عامين وتدرس عودة تدريجية    تقرير أممي: ثلثا اليمنيين يعانون انعدام الأمن الغذائي ومعدلات الجوع تسجل ذروة غير مسبوقة    حضرموت.. إحباط زرع عبوات ناسفة على الطريق الدولي المؤدي إلى منفذ الوديعة    اليمنيون في مسيرات مليونية: القرآن خط أحمر وفلسطين قضية الأمة    هيئة رعاية أسر الشهداء تعلن صرف إعاشة أبناء وآباء وأمهات الشهداء والأرامل وزوجات المفقودين    تقرير أممي: تصعيد الانتقالي في حضرموت أجبر آلاف الأسر على الفرار والنزوح    جريمة إرهابية مروعة    المتحدث الرسمي للقوات الجنوبية : ثلاثي الإرهاب يرد على خسائره باستهداف قواتنا بطائرات مسيّرة    أبناء أبين يؤدون صلاة "جمعة الثبات والتمكين" في ساحة الاعتصام بزنجبار    حين يرفع الانتقالي علم الدولة وتمسك السعودية ختم الدولة... رحلة الاعتراف الدولي للجنوب    قيادة السلطة المحلية بالبيضاء تنعي حاتم الخولاني مدير مديرية الصومعة    شرطة المرور تعلن إعفاء أكثر من ثلاثة ملايين مخالفة مرورية    قراءة تحليلية لنص "نور اللحجية" ل"أحمد سيف حاشد"    مهرجان ثقافي في الجزائر يبرز غنى الموسيقى الجنوبية    أمطار شتوية غزيرة على الحديدة    معارك ليست ضرورية الآن    بوتين يؤكد استعداد موسكو للحوار ويشيد بتقدم قواته في أوكرانيا    الموسيقى الحية تخفف توتر حديثي الولادة داخل العناية المركزة    "المحرّمي" يُعزِّي في وفاة السفير محمد عبدالرحمن العبادي    الأرصاد تتوقع أمطارًا متفرقة على المرتفعات والهضاب والسواحل، وطقسًا باردًا إلى بارد نسبيًا    بالتزامن مع زيادة الضحايا.. مليشيا الحوثي تخفي لقاحات "داء الكلب" من مخازن الصحة بإب    الأوبئة تتفشى في غزة مع منع دخول الأدوية والشتاء القارس    "أسطوانة الغاز" مهمة شاقة تضاعف معاناة المواطنين في عدن    قوة أمنية وعسكرية تمنع المعتصمين من أداء صلاة الجمعة في ساحة العدالة بتعز    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    الحبيب الجفري يحذّر من تسييس الدين: الشرع ليس غطاءً لصراعات السياسة    أزمة خانقة في مخابز عدن.. المواطن يعاني والانتقالي يبيع الأوهام    خبير دولي: على الانتقالي التركيز على الإعلام الخارجي بالإنجليزية لبناء التفهم الدولي لقضية الجنوب    الذهب يسجّل أعلى مستوى له في التاريخ    كأس ملك اسبانيا: تأهل اتلتيك بلباو وبيتيس لدور ال16    صحيفة أمريكية: خطاب ترامب الأخير .. الأمور ليست على ما يرام!    السبت .. انطلاق سباق الدراجات الهوائية لمسافة 62 كم بصنعاء    الحرية للأستاذ أحمد النونو..    المغرب يتوج بطلاً لكأس العرب بانتصاره المثير على منتخب الاردن    انعقاد الاجتماع الفني لبطولة مديريات محافظة تعز - 2026 برعاية بنك الكريمي    القرفة في الشتاء: فوائد صحية متعددة وتعزيز المناعة    تجار تعز يشكون ربط ضريبة المبيعات بفوارق أسعار الصرف والغرفة التجارية تدعو لتطبيق القانون    صنعاء.. البنك المركزي يعيد التعامل مع شبكة تحويلات مالية    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    نادية الكوكباني تفوز بجائزة نجيب محفوظ لأفضل رواية عربية للعام 2025    سان جيرمان يتوج بكأس القارات للأندية لأول مرة في تاريخه    طائرة شحن إماراتية محمّلة بالسلاح تصل مطار الريان بحضرموت    أرقام فلكية.. الفيفا يعلن عن الجوائز المالية لكأس العالم 2026    بين الاعتزاز والانسلاخ: نداءُ الهوية في زمن التيه    شرطة أمانة العاصمة تكشف هوية الجناة والمجني عليهما في حادثة القتل بشارع خولان    اتحاد كرة القدم يعلن استكمال تحضيراته لانطلاق دوري الدرجة الثانية    روائية يمنية تفوز بجائزة أدبية في مصر    صباح عدني ثقيل    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    صباح المسيح الدجال:    مأرب.. السلطة المحلية تكرم فريق نادي السد لكرة القدم بمناسبة الصعود لدوري الدرجة الثانية    تأكيداً على عظمة ومكانة المرأة المسلمة.. مسيرات نسائية كبرى إحياء لذكرى ميلاد فاطمة الزهراء    جوهرة الكون وسيدة الفطرة    بدعم سعودي.. مشروع الاستجابة العاجلة لمكافحة الكوليرا يقدم خدماته ل 7,815 شخصا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيصل عبداللطيف الشعبي
نشر في الجمهورية يوم 06 - 12 - 2014

تتملكني غصّة لاذعة ونشوة قصوى وأنا أكتب عن فيصل عبداللطيف الشعبي: دماء كثيرة أريقت لمكافحين تاريخيين حالمين ومؤثّرين كان يعوّل عليهم جداً في إحداث نقلة معتبرة في الوعي السياسي للبلد، والسبب: مواقف متطرّفة بين رفاق الدرب الواحد؛ إضافة إلى عدم إمعان العقل في اختلافاتهم، بينما الحل لمشكلات اليمن لا يكمن أبداً في الإقصاء والعنف. يُعد فيصل عبداللطيف واحداً من أهم الأسماء الريادية الفذة في الكفاح الوطني تعتز بهم الأجيال تماماً، ذهب ضحية للفهم الخاطئ، وفي مرحلة كان الصخب فيها عالياً للأسف؛ غير أنه لا يمكن القفز على التاريخ بالطبع، أو حتى الاحتيال عليه باختيار ما يسوغ تحيّزاتنا، بل إنه يجب عند استدعاء وقائع التاريخ عدم التحيُّز على الإطلاق، مع وجوب إنصاف الضحايا بالضرورة، وتقدير أدوارهم الخالدة التي تم نسيانها أو تحييدها..ولد فيصل في وادي شعب الصبيحة العام 39م، تلقّى تعليمه في مدرسة جبل حديد بمستعمرة عدن، انتقل إلى المدرسة المحسنية في لحج، حتى أكمل الإعدادية فيها، وتم ابتعاثه من سلطنة العبادل اللحجية إلى القاهرة، وهناك حصل على البكالوريوس في التجارة والاقتصاد، وبمجرد عودته عمل سكرتيراً لوزير التجارة «حكومة الاتحاد الفيدرالي للجنوب العربي» عام 59م.
كان والده الشيخ عبداللطيف عبدالقوي ناصر الشعبي من الشخصيات الاجتماعية المعروفة في منطقته، المنطقة التي أنجبت لليمن خيارها - كما نعرف - في السياسة والفكر والوطنية، درس والد فيصل في الهند وتركيا، وكان له مساع إصلاحية وتنويرية أيضاً، كانت منطقة شعب جزءاً من اليمن الشمالي عقب انسحاب الأتراك من اليمن في 1919م، واستمرت كذلك حتى 1933م أي إلى قبل أن يولد فيصل بسنوات؛ عانت المنطقة من نظام الرهائن الذي اتبعه الإمام ولم يستطع الأهالي التعايش مع سلطته فقاوموا ببسالة ودارت معارك ضارية حتى تحرّرهم؛ لكن عبداللطيف الشعبي اغتيل في ظروف ملتبسة وفيصل كان صغيراً، وبالتأكيد أثّر غياب الأب لاحقاً في حياة فيصل الذي انتهج ذات التنوير الذي انتهجه والده لتضعه الأقدار كي يكون بطل الاستقلال الاستثنائي.
***
كانت الفترة التي قضاها فيصل في مصر هي الأكثر عمقاً في حياته، ويتفق جميع من عرفوه بأنه كان يتمتع بنباهة قوية وبراعة خلابة وقدرة استثنائية في التفكير السياسي، وفي مصر الخمسينيات انخرط في تنظيم حركة القوميين العرب، كما تألّق كقائد سياسي جسور فيه، مؤمناً بقضية التحرُّر من الاستعمار والاستبداد.
هناك كانت شقته خلية نحل للحركيين من عديد بلدان عربية يمارسون فيها قراءاتهم التثقيفية ومناقشة همومهم القومية الواحدة، ولقد ازداد نجم الشاب اليمني الألمعي المتحمّس سطوعاً بين رفاقه حينها، كما أنه أثناء العدوان الثلاثي على مصر كان أحد المتطوعين من الطلاب اليمنيين بالمقاومة الشعبية في بور سعيد.
عند عودته سرعان ما أسّس فرعاً لحركة القوميين العرب في اليمن والجزيرة العربية، وبشكل خاص كانت مهمته الإعداد لثورة الجنوب؛ لكنه قبل ذلك كان قد تردّد لهذا الغرض على مدينة عدن أثناء العطلات الصيفية، بينما كان يختار أصلب العناصر وأكثرها نضجاً في الوعي السياسي.
***
إنه الحركي الأول والقائد الفذ، في حين أن أبرز قادة الخلايا الأولى للحركة في إقليم اليمن هو من قام بتنظيمهم، كذلك كان فيصل بارعاً في الاستقطاب والتأثير؛ ولم يكن ديماغوجياً مغلقاً بقدر ما كان منفتحاً ويثقف نفسه على عديد قراءات فكرية وسياسية متنوّعة.
كان وحدوياً ناضجاً، وعلى مستوى الحركة التي دعمت عديد بلدان عربية في ثوراتها آنذاك كان فيصل زعيماً عربياً لا يمنياً فقط، كل المنتمين إلى الحركة الدارسين في مصر من أبناء الشمال والجنوب على السواء كانوا بتطلّعات واحدة، ومن رفاق مرحلة فيصل الأولى على سبيل المثال: يحيى عبدالرحمن الإرياني وعبدالحافظ قائد وسلطان أحمد عمر، بحكم حلمهم الواحد اصطدم الحركيون العرب في تلك الفترة بالانفصال السوري المصري الذي كان قد تملّك شغاف قلوبهم نحو الوحدة العربية الكبرى، كان فيصل ورفاقه يؤمنون أن أي تغيير في الشمال يخدم الجنوب، وكان فيصل على رأس الذين وجّهوا عديد حركيين من أبناء الجنوب للدفاع عن الثورة في الشمال بمجرد اندلاعها.
برز فيصل نوعي النباهة تكتيكياً واستراتيجياً، وشديد الولاء لليمن الحر الموحّد وللوطن العربي الحر الموحّد؛ فيما كان هو الحامل الأساس للمشروع النهضوي القومي إلى اليمن والجزيرة العربية، حيث امتد نشاطه الحركي الرائد إلى عدة بلدان خليجية كالبحرين والكويت.
ألف فيصل بالمشاركة مع قحطان كتيباً مهمّاً بعنوان «اتحاد الإمارات المزيف» كشف فيه مخطّطات الاستعمار الرامية إلى إنشاء دولة اتحاد الجنوب العربي، وأصبح الكتيب واحداً من الكتب التثقيفية الذي اعتمدته قيادة حركة القوميين العرب على كل فروعها.
والثابت أن فيصل عبداللطيف الشعبي هو رجل الحركة السياسي والتنظيمي الذي كان الأقوى في اليمن، كان النقد سمته الثقافية لا الانقياد المحض، كما كانت له طريقته الديناميكية في استيعاب الوقائع من عدة زوايا إنسانية ووطنية وتاريخية وجغرافية ونضالية ما جعله شخصية مرنة غاية في التفهم وراسخة المبدأ في الوقت ذاته.
***
ترأّس فيصل قيادة حركة القوميين العرب في الجنوب؛ إذ ترأس قيادتها في الشمال سلطان أحمد عمر، وعندما اندمجت المرتبتان القياديتيان في قيادة موحّدة لإقليم اليمن كانت القيادة لفيصل والنائب سلطان؛ على أن معظم رفاق فيصل في الحركة والجبهة كانوا يعتبرونه قائدهم الأول رغم فارق السن في مستوى الزعامة لصالح قحطان مثلاً الذي كان أول قائد أعلى في الجنوب بعد الاستقلال «رئيس الجمهورية» إذ كان يتميّز بشخصيته الحازمة والعناد والتعامل بأبوية مع الآخرين إضافة إلى سياساته التي وُصفت بالمحافظة رغم كونه اشتراكياً معتدلاً.
يكبر قحطان فيصل بسنوات، وكان والد فيصل الشيخ عبداللطيف هو من كفله بالرعاية إذ ولد يتيماً، كما تزوّج قحطان الشقيقة الوحيدة لفيصل، وكان قد درس في جبل حديد ثم في السودان الذي كان يرزح حينئذٍ تحت الاحتلال البريطاني، وفي السودان مارس العمل السياسي فقاد المظاهرات ووزّع المنشورات المعادية للاحتلال البريطاني للسودان وتعرّض جراء ذلك للاعتقال والضرب مراراً؛ على أنه تخرّج كمنهدس زراعي، كما عيّن في عدن ضابطاً زراعياً بدرجة رفيعة، ويعد قحطان إلى جانب فيصل أهم من لعبوا الدور التحضيري الأبرز لثورة الجنوب في مراحل الإعداد الأولى.
كان قحطان لاجئاً في القاهرة بعد أن فرّ من عدن عبر لحج وتعز إثر اكتشاف البريطانيين لنشاطه وكان في الرابطة، وفي القاهرة انضم إلى حركة القوميين العرب على يد فيصل، بعد الانفصال من الرابطة جرّاء انحرافها عن المبادئ والأهداف القومية وإحيائها الدعوة الانفصالية القديمة التي كانت تهدف إلى إقامة دولة مستقلّة في عدن والإمارات ليست يمنية الهوية.
***
كان قحطان يتحمّل العبء الذي لا يمكن إنكاره أيضاً في التحضير لثورة الجنوب، بينما كان يدير الحوارات والمشاورات من مصر رفقة فيصل بمجرد اندلاع الثورة في الشمال ضد الإمامة لإقناع عبدالناصر وإعلان جبهة قومية تتصدّى للكفاح المسلّح ضد الاستعمار.
وفي فبراير 63م عادا إلى صنعاء حيث انعقد لقاء عام برئاسة قحطان، حضره مئات الشخصيات من أبناء الجنوب من مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم تحت إشراف حركة القوميين العرب وحزب الشعب الاشتراكي، حيث نتج عنه تشكيل لجنة تحضيرية برئاسة قحطان الذي صار له نفوذ اجتماعي واسع من أجل قيادة الكفاح لتحرير الجنوب المحتل، واتفق الجميع على تشكيل جبهة مسلّحة، كما عُيّن قحطان بضغط من الحركيين مستشاراً للرئيس عبدالله السلال لشؤون الجنوب المحتل.
وللإنصاف فقد تحمّل قحطان “مع زميل كفاحه ناصر السقاف وعلى مسؤوليتهما الشخصية كتابة ونشر البيان الأول للجبهة القومية، وحينئذ أصدر فيصل بياناً باسم فرع الحركة يبارك ما جاء في بيان الجبهة، وقام قحطان بتمويل قافلة إغاثة للمقاتلين بردفان الذين كانت القوات البريطانية قد نجحت في محاصرتهم وذلك في يناير 1964”.
بعدها والعمل التحرُّري على قدم وساق انتقل إلى تعز لفتح مكتب لثوار الجنوب بعد موافقة عبدالناصر، رغم تعنّت وتلكؤ غير مبرّرين من ضباط المخابرات المصرية حينها على فكرة افتتاح المكتب، ولقد كان المصريون بيروقراطيين لا يحبّذون أن يكون هناك مكتب خاص بالجبهة، وأن مكتبهم يتسع للجميع، كان المصريون يتحفظون وهم يرون زخم الشباب الدافق معتبرين عدم وجود مبرّر لفتح ملفين لقضية واحدة «ثورة الجنوب» ملف لديهم وآخر في مكتب الجبهة القومية، يمكن القول تحديداً إنه كان لديهم تصوراتهم وحساسيتهم السياسية والاستخبارية الخاصة إزاء ذلك على ضوء الأمن القومي في اليمن وباب المندب، صحيح أنه رغم أهميتهم الكبرى وتضحياتهم التي لا توصف في المساندة الثورية لليمنيين شمالاً وجنوباً؛ إلا أن قبضتهم كما اتضح كانت لا تريد للقرار الداخلي أن يكون أكثر استقلالية، وبالتالي انفلاتاً؛ لكن قحطان وفيصل رفضا مقترح المصريين المماطل في تعز، وفتحت الجبهة مكتبها بتأييد شعبي واسع؛ فيما حضر اجتماع تأسيس الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل في يونيو 1964م عشرات رموز وزعامات قبلية واجتماعية شمالاً وجنوباً.
عقبها تفرغ فيصل عبداللطيف للكفاح المسلّح في عدن، وعندما انكشف عاد إلى تعز وتعيّن بعده في قيادة جبهة عدن نور الدين قاسم «استشهد في 1973م فيما عُرف بطائرة الدبلوماسيين» ثم عبدالفتاح اسماعيل.
والشاهد أن الجبهة خاضت ملاحم مشهودة في الأرياف والمدن وبالذات عدن، فلقد جابهت كل عملاء السلاطين والاستعمار وقدّمت تضحيات كبيرة من الشهداء والمعتقلين والجرحى الذين صنعوا النصر؛ بينما كانت طليعة الشعب الجنوبي عن حقيقة وفعل ومبدأ بعيداً عن الانتهازية واستغلال الأحداث أو تحوّلاتها لاحقاً.
***
عموماً ثمة مشاكل عرضية وجوهرية حدثت خلال تلك المرحلة قادت إلى تباينات حادة بحسب ظروف التباس علاقة الرفاق حينها بين مصر والاتحاد السوفيتي ولاحقاً الحزب اللبناني الشيوعي والصين ونائف حواتمة من ناحية، إضافة إلى عبء المتواطئين مع السلاطين والاستخبارات البريطانية داخل الجبهة كذلك.
أول ثمار هذه المشاكل العرضية والجوهرية قرار الدمج القسري للجبهة القومية مع منظمة التحرير الطارئة في الكفاح المسلّح، بتاريخ 13يناير 66م في كيان واحد أطلق عليه «جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل» وفقاً لرغبات المخابرات المصرية التي كانت تسيطر على المنظمة تماماً، وبما أن فيصل وقحطان من أبرز قيادات الجبهة القومية الذين رفضوا مشروع الدمج، فقد اقتيد فيصل بسبب موقفه إلى مقر جهاز المخابرات المصرية في تعز بعد أن اعتقله جيش التحرير الشعبي ثم نقل إلى القاهرة، وهناك ظل يتشبّث بما راكمته الجبهة القومية في الواقع ما جعله تحت الإقامة الجبرية «أي الاحتجاز» بمعية قحطان الشعبي وآخرين من قادة الجبهة القومية الرافضين لمشروع الدمج «حيث قضى 9 أشهر لفيصل وسنة ونصف لقحطان».
وقتذاك كتب وأصدر فيصل كتيبات أخرى اندثرت بسبب المصادرة والمنع الذي طالها عقب رحيله رغم أهميتها التدوينية ك«أضواء على الثورة في جنوب اليمن المحتل» و«مؤتمر لندن للخيانة» و«كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية الشعبية» شاركه في تأليفها كل من: علي عبدالعليم، عبدالفتاح اسماعيل وخالد عبدالعزيز.
وتذكيراً، يحكي الفنان القدير محمد محسن عطروش صاحب أشهر أغنية قاومت الاستعمار حينها «برّع يا استعمار من أرض الأحرار» أنه كتبها بإيعاز خاص وحثيث من فيصل الذي طلبه إلى القاهرة لهذا الخصوص.
ولقد تمكّن فيصل حينها بمساعدة حركة القوميين العرب من الإفلات والسفر إلى بيروت ومنها عاد إلى اليمن، والمؤكد أنه بعودته تعزّزت الجبهة الداخلية للجبهة أكثر وركّزت ضرباتها، فيما كانت الجماهير في الجنوب تتظاهر يومياً لتأييد الجبهة القومية كممثّل وحيد لتطلعاتها، ما خلخل ممارسات خصوم الجبهة على أكثر من صعيد عسكري وسياسي وتنظيمي.
***
عقب هزيمة العرب في 5 يونيو 67م كادت تنتكس نفسية فيصل عبداللطيف الشعبي؛ إلا أنه بعد أسبوعين فقط أسهم بشدة في انتفاضة طلاب مدرسة الأمن بمساندة ضباط وجنود الأمن والجيش على قوات الاستعمار بحيث خاضوا معارك شرسة بقيادته أسفرت عن الاستيلاء على مدينة كريتر.
وما لم يكن في الحسبان انفجار الاقتتال الأهلي قُبيل الاستقلال بين شريكي الكفاح الجبهة القومية ومنظمة التحرير خلال 3 - 6 نوفمبر، وفي 6 نوفمبر أعلن الجيش العربي في القوات البريطانية ولاءه للجبهة القومية؛ ثم في 13 نوفمبر أعلنت بريطانيا استعدادها للتفاوض حول استقلال الجنوب العربي مع الجبهة القومية كممثل وحيد للشعب.
شكّلت القيادة العامة للجبهة القومية وفداً برئاسة أمينها العام قحطان للسفر إلى جنيف للتفاوض بشأن الاستقلال، وكان أبرز أعضاء الوفد إلى جانبه بشهادة البريطانيين فيصل وعبدالفتاح وسيف الضالعي؛ بينما ضمّ كلاً من خالد محمد عبدالعزيز، ومحمد أحمد البيشي، والعقيد عبدالله صالح عولقي، وعبدالله عقبة «مترجماً» وأحمد علي مسعد «سكرتيراً» إلى جانب هيئة استشارية في مختلف المجالات، ضمّت المقدم حسين المنهلي، محمد أحمد عقبة، المقدّم محمد أحمد السياري، الدكتور محمد عمر الحبشي، ملكة عبداللاه أحمد، أبوبكر سالم قطي، عادل خليفة.
امتدت المفاوضات من 21 إلى 29 نوفمبر1967 حتى وقّع الجانبان على وثيقة الاستقلال، وفي صبيحة اليوم التالي أصدرت القيادة العامة للجبهة قراراً بتعيين أمينها العام رئيساً للجمهورية وقائداً أعلى للقوات المسلّحة، كما كلّفته بتشكيل حكومة الدولة المستقلة، وقد تولّى فيصل عبداللطيف وزارة التجارة والاقتصاد والتخطيط فيها، ثم في 5 ابريل 1969 تولّى رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية.
***
انتقل الجنوب اليمني من حكم السلاطين والاستعمار البريطاني إلى مرحلة جديدة؛ لكن للأسف لم تكن بقدر التطلُّعات والتضحيات الجسام؛ إذ كانت النوايا لإنشاء تنظيم جماهيري يقود الشعب في مرحلة البناء القادمة، وسرعان ما تفجّرت الاختلافات بين رفاق الجبهة حول ماهيته وماهية الدولة، وأساليب إدارتها، وتحديد منهجها وسياستها الخارجية، ما قاد إلى انشقاق الجبهة إلى جناحين، كما هو معروف، أحدهما يدعو إلى ضرورة تغيير جذري وسريع في الحكم، قاده عبدالفتاح اسماعيل، سلطان أحمد عمر، عبدالله الأشطل، عبدالله الخامري، وسالمين، علي صالح عباد، ومحمد علي هيثم، وآخر يدعو إلى تغيير تدريجي متريّث على رأسه، قحطان، سيف الضالعي، أحمد صالح الشاعر، وعلي عبدالعليم.
بذل فيصل الذي صار بنفوذ تنظيمي وتنظيري واسع دوراً كبيراً لحل الخلاف، وكان مع درء الحس المؤامراتي التدميري، وعدم القبول بتحريضات الرفاق ضد بعضهم، حيث كانت طبيعة فيصل ضد الأعمال المنفردة، وضد الانجرار إلى مواقف لا يرضاها كل طرف، كان ضد العداء المباشر للدول والجيران تحديداً؛ لأن هذه العداوات لا تنم عن سياسة وديبلوماسية ووعي بالتاريخ والجغرافيا، كما أنها لن تصب في المصلحة العليا والمستقبلية للدولة الوليدة.
وفي تلك الفترة تحمّلت حكومته ما لم يكن في حسبان موازنتها وخططها، حيث عالج فيصل بروح رفاقية ووحدوية عالية أوضاع الحركيين الذين نزحوا إلى عدن وغيرهم هرباً من بطش نظام 5 نوفمبر، وعقب أحداث أغسطس الدامية في صنعاء، لكنه تحسّس للغاية تلك الفترة أيضاً من عدم دعوته وقادة جنوبيين في حركة القوميين للمشاركة في تأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني؛ إذ كان الرفاق قد وضعوا الحزب بديلاً لفرع حركة القوميين العرب إقليم اليمن - هكذا بدت الصورة له - بينما تنظيم فرع الحركة تنظيم واحد وقيادته واحدة ووحدوية شمالاً وجنوباً..!!.
***
الثابت أن فيصل كان أنموذجاً رفيعاً كإنسان وقائد؛ إذ كان زاهداً عن السلطة، كما يجمع كل من عرفوه، كذلك كان اعتداده بذاته جُزءاً رئيساً من كرامته التي لا يساوم بها ولا يمكن أن يخضعها للابتزاز أو الإساءات؛ غير أن الأقدار وضعته على رأس عملية بناء وإدارة الدولة الجديدة، وبالتالي في خضم حساسيات أيديولوجية عارمة انطوت عليها المرحلة.
كان الرجل اشتراكياً معتدلاً، وكان يقاوم ضغط يمين الجبهة القومية وضغط يسار الجبهة في وقت واحد، ولقد كان كل منهما يريد فرض سياسته عليه وعلى المرحلة وعلى المستقبل، تفسيري الشخصي أن تكوينه الراجح الوسطي العقلاني هو السبب وليس كما قد يعتقد أحدهم أنه ربما ليس رجل مواقف، فالمعلوم أن عديد قياديين تلك الفترة من الجهتين أصابتهم حساسيات الزعامة والمغامرات اللا محسوبة، إضافة إلى أمراض العشائرية التي تورط فيها كل طرف بوعي أو دون وعي، حتى إن قلّة من الساسة حينها فقط كانوا أكثر تبصراً وبروح وفاقية وبحس سياسي أخلاقي على رأسهم - بل أكثرهم تميزاً - فيصل عبداللطيف.
كان فيصل يسعى بمرونة فائقة نحو الوحدة والوفاق والإجماع مولياً أهمية سياسية قصوى للحوار، كما كان لا يريد أن يفاجأ بمواقف ورهانات غير محسوبة تتخذ ويُحشر فيها حشراً، واصل التعبير عن اعتقاده الخاص ولم ينظر إلى الاختلاف من ناحية شخصية وإنما من ناحية سياسية وفكرية موضوعية كما هي عادته حسب إجماع غالبية من عرفوه.
كان يمسك العصا من المنتصف ولا يريد للمخاطرات أن تنبش مخالبها وأنيابها في الجميع، ومن الطبيعي القول إن هناك من كان يؤجّج الوضع حتى خرج عن السيطرة؛ إذ بينما كان فيصل يترسخ لدى الجميع كضامن للم الصدع بصفته محافظاً على المسافة اللائقة التي رآها مناسبة له من كل طرف؛ ازداد الانشقاق بين الرفاق، لتنكشف الاحتكاكات السيئة بين الجناحين، وصولاً إلى المصادمات المسلّحة التي تفاقمت ذورتها في 22 يونيو 1969م.
***
اعتقل فيصل وهو في كامل مجده، ولم يكن أحد يتوقّع إعدامه أبداً؛ بينما ظلّ قحطان رهن الاعتقال لسنوات؛ لكنها السابقة الخطيرة التي فتحت شلال الدم والأسى.
في الحقيقة لم يكن فيصل عبداللطيف على الإطلاق متواطئاً مع الرجعيين كما كانوا يصنفونه آنذاك؛ بل كان يتوخّى الاعتدال الفكري في مساره السياسي محافظاً على عدم الانجرار وراء منطق التعميمات.
صحيح أن السياسة التي كانت تُدار بها الدولة اعتباطية في مرحلة التكون، إلا أن رؤى اعتباطية بالمقابل كانت تعتقد إمكانية التغيير الفوري إلى نتيجة حتمية أفضل بمراحل، وهذا هراء لا شك، خصوصاً في ظل التخلف المتراكم، والنزاعات التي يثيرها المتضرّرون من الثورة نفسها، فضلاً عن تربُّصات دول مجاورة مؤثّرة في المشهد، ما سيحمّل الدولة الجديدة تبعات وتوترات كان فيصل يرى إمكانية تجنّبها الآن على الأقل، أو حتى يتفق الجميع على الخطوة التالية بنضوج متماسك بدلاً من مخاطر التشدُّد الأيديولوجي.. وبس.
والحاصل هو أن ذلك النزاع كان جزءاً من تنافس أكبر بين التيارين ليس من البساطة تحجيمه بالذات مع نوايا الاستئثار ما بين الميكافيلية والمثالية؛ على أن الأزمة التي أودت بحياة فيصل الشعبي وعمره لم يتجاوز 34 عاماً قادت إلى أزمات أخرى أكثر حدّة ومأساوية للأسف.
***
كان لفيصل عديد مقترحات توفيقية لم يستوعبها أحد كما ينبغي، كان له وجهة نظر مثلما كان لمن يناوئونه من الطرفين وجهة نظر أيضاً؛ لكنها الدوافع البشرية كما هو معلوم تقودنا إلى حماقات مرعبة، وهي وحدها كدوافع بشرية يحدث أن تجعلنا نرتقي عن الإخفاقات ونسمو عن السير مرة أخرى في أي طريق له أن يؤدي إليها مجدّداً «هذا ما يجب».
ويقول التاريخ العربي - اليمني بالذات - إنه في عصر السلطة يحدث أن يتخلّى سياسيون عن مثالياتهم التي كانوا ينادون بها خصوصاً إذا لم يضبطوا أمزجتهم على المسؤولية النوعية المُلقاة على عاتقهم؛ ما يعني استغلال النفوذ بشكل خاطئ، كذلك فإن الشمولية في الجنوب والشمال على حد سواء استنفدت طاقة الشعب والدولة كثيراً طوال عقود ما بعد الثورتين.
لكن بالتدريج يعتذر القادة الكبار عن أخطائهم بدافع تجاوز مثل تلك التجارب القاسية، وهذا ما أثبته قادة في الحزب الاشتراكي لاحقاً خصوصاً بعد طامة 86م، عبر النقد الذاتي وتقييم التجربة دون دوغمائية وبشجاعة رفيعة كما دون مغالاة أو تعصب، فيما تتجلّى المفارقة حين نرى من يندبون مصير الفقيد الكبير فيصل عبداللطيف مخالفين لمبدئه الوطني أساساً.
وفي السياق لنا أن نلاحظ في تاريخ الحزب الاشتراكي أو عبر المكوّنات التنظيمية التي تأسس منها في الشمال والجنوب كيف همدت الخيلاء والتهوّر لدى قادته رويداً رويداً حتى تكثّفت غاية الحزب تماماً في التزام وحيد تمثّل في الديمقراطية والشراكة وحلم الدولة المدنية في المواطنة والحريات والانفتاح، وهذا التطور يُحسب له.
***
إن فقدان الحركة الوطنية في اليمن مبكّراً لفيصل عبداللطيف الشعبي فقدان لا يعوّض؛ ما بالكم وقد أثبتت الأيام أنه لم يكن مخطئاً في أغلب تصوّراته الثاقبة والحكيمة والنوعية، ثم إن المجتمعات المحترمة لم تتخلّص من أزماتها البنيوية العميقة إلا بعد استيعابها لقيمة عدالة الإنصاف والتسامح والتصالح، فالتاريخ مرايا الشعوب للإيجابيات والسلبيات، وذاكرة التاريخ للعبر بحلوها ومرّها.
ولئن كان فيصل عبداللطيف وسيظل بمثابة بطل خالد ودرس قيمي وأخلاقي يستوعب، فإن ما تعرّض له والرئيس قحطان في تلك الحقبة الضارية وصمة عار كبيرة في جبين من لايزال غير شاعر بها.
الخلاصة أن الأحلام العظيمة تحتاج إلى مناهج راجحة لا إلى مجرد احتمالات غير موضوعية وغير حيوية بالغة التهوّر، إذ كما نعرف لم يستفق الرفاق على حقيقة ما حصل إلا مع صدمة تفاقم الخسارات الفادحة التي لم يتوقّعها أحد.
***
لعلنا في هذا البروفايل السريع عن شخصية خصوصية كفيصل عبدالطيف الشعبي نبدي «قلقنا وحزننا - لا شك - من نتائج الأمور الإقصائية الضارية التي كانت سائدة فيما مضى؛ بينما لاتزال إلى اليوم تلقي بتأثيرها على الحركة الوطنية للأسف.
والمعنى أنه يجب علينا جميعاً الإيمان التام أن “مرحلة المكاشفة والإنصاف للشخصيات العظيمة التي ظلّت منسية أو مهمّلة هي مرحلة مهمّة من تطوّر المجتمع، عبر تقدّم الوعي السياسي للنُخبة بالذات” ضدّاً من التضليل والحجب وسوء التقدير الذي مازال قائماً على نحو غير مشرّف ضد عديد شخصيات كبيرة في تاريخ اليمن المعاصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.