وسط حربٍ لا تنتهي، تتجاوز غزة كونها ساحة صراع لتتحول إلى اختبار أخلاقي وسياسي للمنطقة والعالم. فالمقاومة هناك لا تكتفي بالصمود، بل تُبدع في إعادة تشكيل مفاهيم المواجهة، بينما تتقاطع مواقف الأنظمة بالصمت والتواطؤ. في هذا المقال، أقدّم قراءة تحليلية كمراقب وكاتب يمني، أعيد من خلالها تفكيك المعادلة الراهنة في غزة، بعيدًا عن الشعارات، وبعين تقف عند جوهر المسألة: حق الدفاع في وجه آلة الإبادة، ومغزى أن تبقى الكلمة حية في زمن التخلي. لا يمكن لأي مراقب أن يتجاهل أن ما يجري في غزة يخرج عن نطاق المواجهات المعتادة. فالمقاومة الفلسطينية لا ترد فقط على العدوان، بل تبتكر أدواتها، وتعيد صياغة أساليب الاشتباك، في مشهد يُظهر تحولًا ملحوظًا في أدائها الميداني، رغم الحصار والمعاناة المتواصلة. الخسائر في صفوف الاحتلال من قتلى ومصابين، إضافة إلى حالات الانهيار النفسي في صفوف الجنود، تشير إلى أن المواجهة دخلت في مرحلة استنزاف حقيقية. ما يلفت الانتباه هنا هو أن تلك الضربات ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكم الخبرات والتجارب التي جعلت من المقاومة قوة تعرف أين تضرب وكيف تُربك الحسابات العسكرية. في المقابل، تتدفق المساعدات والسلاح بلا انقطاع نحو الاحتلال، دون مساءلة دولية جادة. أما الأنظمة العربية، فغالبيتها تتخذ موقف المتفرج، وكأن ما يحدث لا يعنيها. هذا التناقض بين ضخ الدعم العسكري وسيولة الصمت الرسمي يعمّق الشعور بأن العدالة لا مكان لها في موازين القوة المعاصرة. من زاويتي ككاتب ، فإن المشهد ليس فقط عن غزة، بل عن واقع عربي يُختبر فيه الضمير يومًا بعد يوم. فحين يُقتل المدنيون، وتُهدم البيوت، وتُمنع المياه والدواء، ولا نجد سوى بيانات باهتة أو تفاعل موسمي، تصبح الكلمة أضعف أدوات المقاومة لكنها أكثرها ثباتًا. المقاومة اليوم لا تُراهن على الدعم الخارجي بقدر ما تراهن على صلابة الإرادة، وعلى قدرة الشعوب الحرة في التفاعل، ولو بأدوات رمزية. هذه النماذج تُعيد تعريف الموقف الأخلاقي، وتطرح سؤالًا جوهريًا: هل أصبح الصمت أخطر من الاحتلال ذاته؟ من المؤلم أن تظل غزة تمثّل المرآة التي تكشف هشاشة المواقف، لكنها أيضًا تُثبت أن إرادة الشعوب لا تنكسر بسهولة. كل يوم في هذا الصراع هو تذكير بأن القضية ليست فقط سياسية، بل إنسانية بامتياز، تحتاج إلى إعادة قراءة بعيدًا عن الخطابات الجاهزة. وفي النهاية، لا أدّعي امتلاك الحقيقة، لكنني أكتب لأنني أؤمن أن الكلمة موقف، وأن الحياد في زمن المجازر ليس حيادًا بل تخلي. غزة لم تختر الحرب، لكنها تصرّ على ألّا تختار الهزيمة، وهذا ما يجعلها، رغم الألم، صاحبة الصوت الأعلى في زمن الوجع العربي.