في مشهد يتكشف فيه الوجه الحقيقي للأنظمة العربية المتحالفة مع الاحتلال، تظهر دولة الإمارات بوصفها أحد الأعمدة الفاعلة في تنفيذ نموذج الاحتلال غير المباشر، حيث تتورط في دعم هندسة تجويع سكان غزة وخنقهم تحت عباءة "الدعم الإنساني". هذا الدور الإماراتي الساقط، لم يعد يختبئ خلف شعارات السلام والتعايش، بل بات ينكشف يوماً بعد يوم على هيئة شراكة عملية في مشروع الإبادة البطيئة، الذي يهدف إلى القضاء على المقاومة عبر تدمير البنية المجتمعية وتفريغ الأرض من أصحابها. شراكة علنية في منظومة التجويع اللافت أن عناصر يتحدثون بلهجة خليجية، ظهروا بشكل واضح في عمليات توزيع المساعدات داخل غزة، ما يؤكد أن الإمارات لم تعد تكتفي بالدعم السياسي أو التغطية الإعلامية، بل باتت شريكًا ميدانيًا مباشرًا في إدارة منظومة الإخضاع. هذه المشاركة العلنية تكشف أن أبوظبي لم تعد تتحرج من الظهور كجزء من مشروع هندسة الاحتلال، بل تمارس دورها بوصفها وكيلًا إقليميًا لتنفيذ المخطط الإسرائيلي باستخدام أدوات ناعمة ظاهرها "الإنسانية" وباطنها السيطرة. دعم لوجستي تحت شعار "الإنسانية" في عام 2023، ظهرت شركة جديدة تدعى "الإنسانية أولاً للخدمات اللوجستية" (Humanity First Logistics)، مقرها في سويسرا، وتقدم نفسها كجهة إنسانية تسعى لإغاثة غزة. إلا أن الوقائع الميدانية سرعان ما فضحت هذا القناع؛ فالشركة، بحسب مصادر ميدانية وتقارير استخباراتية، ليست سوى واجهة مُصممة ضمن خطة إسرائيلية أمنية تديرها مؤسسات استخباراتية غربية. والهدف: إدارة الجوع كسلاح غير تقليدي، يدفع السكان نحو الاستسلام أو النزوح، من خلال إحكام السيطرة على تدفق الحاجات الأساسية وتحويلها إلى أدوات للتحكم الأمني والاستعماري. من يموّل خنق غزة؟ رغم أن "الإنسانية أولاً" مسجلة في أوروبا، إلا أن العمليات تُدار فعليًا على الأرض عبر شركة إسرائيلية تدعى "أغرو فود لوجيستيكس" (Agro Food Logistics)، المتخصصة في توزيع الأغذية، وبتنسيق مباشر مع الجيش الإسرائيلي وأجهزته الاستخبارية. والتمويل يأتي من تحالف غربي تقوده الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) إلى جانب وكالات أوروبية، تقدم مساعدات مشروطة، تتيح لإسرائيل استخدام الإغاثة كسلاح للتطويع، بدلًا من أن تكون وسيلة للنجاة. وفي 27 مايو/ أيار 2025، وصلت شاحنات "الإنسانية أولاً" إلى القطاع، لكن جيش الاحتلال استولى على محتوياتها علنًا، تحت عدسات الكاميرات. الجنود لم يكتفوا بالسرقة، بل تعمدوا السخرية من المحتاجين وتصوير إذلالهم، في مشهد لا يختلف عن عقوبة جماعية متعمدة ضد شعب بأكمله. هذه المسرحية الدموية، التي شاركت فيها الإمارات بتمويل وتسهيل، كشفت أن ما يسمى بالإغاثة، لا يعدو كونه فخًا لإذلال الناس وتحويل حاجاتهم إلى أداة إذعان. والمساعدات لا تُوزع عشوائياً، بل تمر عبر أربعة مراكز رئيسية مجهزة بأنظمة تسجيل بيومتري وكاميرات مراقبة، تُحوّل الفلسطينيين إلى بيانات تحت السيطرة. هذه المراكز، التي يُشرف عليها شركاء غربيون وخليجيون، لا توزع الخبز فقط، بل تعيد تشكيل علاقة الناس بأرضهم، وتفكك الروابط الاجتماعية، وتخلق مساحات خاضعة للمراقبة الكاملة؛ في ما يشبه "الحظائر الإنسانية". صمت عربي حد الخيانة كل ذلك يحدث وسط صمت عربي رسمي، لا يمكن تفسيره إلا كخيانة مكشوفة لا سيما ما يتعلق بالإمارات. فالأنظمة تُقايض مواقفها بالقروض وصفقات التطبيع، وتُسكِت شعوبها عن الاحتجاج، وتمنح إسرائيل تفويضًا مفتوحًا لتنفيذ الإبادة دون مساءلة. التواطؤ لم يعد سراً؛ إنه اتفاق ضمني على خنق غزة حتى النهاية. ومنذ بداية العام، أسقطت إسرائيل أكثر من 15,000 قنبلة وصاروخ على غزة. مدينة رفح دُمرت بالكامل، وشُرد مئات الآلاف من سكان الشمال. البيوت والأحياء والأسواق تحولت إلى ركام. لا مياه، لا كهرباء، لا غذاء، ولا مأوى. إنه نموذج حرب شاملة، لا تميّز بين طفل ومقاوم، ولا بين امرأة وموقع عسكري، هدفها النهائي: تهجير السكان الأصليين وتحويل غزة إلى أرض خالية. الحرب ليست على حماس كما تزعم الرواية الغربية، بل على الهوية الفلسطينية بكاملها. تُخاض هذه الحرب باسم "القضاء على الإرهاب"، لكنها تُنفذ بمنطق استعماري كلاسيكي: القتل، التجويع، الطرد، وإعادة تشكيل السكان حسب ما يناسب المحتل. إنها نسخة حديثة من مشروع الطرد الصهيوني، مدعومة بالكامل من واشنطن وحلفائها وفي مقدمتهم الإمارات. فالولايات المتحدة، التي تمول وتدير هذا المسار، لا تمارس فقط دور الداعم، بل تتقمص دور "الإله المتعالي" الذي يُقرر من يَستحق الحياة ومن يُباد. منظومة عالمية تتغذى على الحروب، تتحكم بها شركات سلاح ومؤسسات إعلامية لا ترى في الطفل الفلسطيني سوى رقم في "خسائر جانبية"، وتُزيّن المجازر بلغة الحياد والمهنية الزائفة. وبالمحصلة فإن ما يجري في غزة ليس حالة استثنائية، بل نموذج يُراد تعميمه. إنها رسالة دموية لكل من يرفض الانحناء للهيمنة الغربية. يُسحق الفلسطينيون كي يُفهم غيرهم، وتُباد الأحياء كي تُرهب الأصوات الحرة. إنه منطق "اضرب المربوط يخاف السايب" وقد طُبّق بحذافيره، في ظل تواطؤ عربي، وتخاذل أممي، وانخراط مكشوف لأنظمة كالإمارات في تنفيذ الإبادة بمسمى "العمل الإنساني".